فوجئت بسيل من الرسائل والتعليقات على مقال الأسبوع الماضى، وبتداوله نقلاً عن "المصريون" عبر عدد من المنتديات والمواقع على شبكة الإنترنت. فوجئت، لأننى عندما شرعت فى كتابة "على ما كان عوده أبوه" متناولاً دور القادة العرب فى قيام الكيان الصهيونى لم أكن أحسب أننى أفشى سراً، وكنت فحسب أفرج عن همى بنقل حوار حقيقى دار بينى وبين صديق حول هذا الأمر، ظاناً أن ما فى المقال من معلومات تاريخية معروف متداول، لكن الشغف الذى استقبلت به هذه المعلومات، والإلحاح على نشر المزيد منها جعلنى أراجع حساباتى، وأدرك أن التزييف الذى يجرى يومياً لتاريخنا غيَّب الكثير من الحقائق المهمة، ونشر الأكاذيب بدلاً منها. هذه الحقائق التى تؤكد أن الكيان الصهيونى ما كان له أن يقوم، ولا هو يستطيع الاستمرار إلا بفضل التواطؤ والدعم الذى تقدمه أطراف عربية. وما دمنا نتحدث عن الأسانيد التاريخية، فلنتذكر معاً كيف أجهضت الثورة العربية التى اندلعت فى مايو 1936، بالضبط قبل 12 عاما من النكبة، وخاض فيها الشعب الفلسطينى إضراباً شاملاً وعصياناً استمر 183 يوماً، حتى 11 من أكتوبر من السنة نفسها، وهى الثورة التى أوشكت على تحقيق أهدافها وتحجيم الوجود البريطانى فى فلسطين؛ وبالتالى إفشال مخطط الاستيطان الصهيونى، لولا تدخل عدد من القادة العرب الذين وجهوا إلى الثوار برقية عرفت باسم "النداء من أجل حقن الدماء"، قالوا فيها: "إلى أبنائنا عرب فلسطين: لقد تألمنا كثيراً للحالة السائدة فى فلسطين، فنحن بالاتفاق مع ملوك العرب ندعوكم للإخلاد إلى السكينة وإيقاف الإضراب حقناً للدماء". وفى 1968 نشرت "منظمة التحرير الفلسطينية" تقريراً نقلته مجلة "آخر ساعة" يقول: "يمكن التأكيد بأن إجهاض ثورة 1936 كان نقطة البدء والمقدمة المنطقية لتزايد نشاطات العصابات الصهيونية فيما بعد، ثم أخيراً لقرار التقسيم الذى انتهى إلى إعلان قيام الدولة العنصرية... وكان "النداء من أجل حقن الدماء" وسيلة للمزيد من الدماء والبؤس". لقد مرت على هذه الثورة المجهضة التى قدم فيها العرب مئات الشهداء 70 سنة، ضرب خلالها ستار مقصود من النسيان والغموض على فصولها، ومنها أن زعيماً عربياً مشهوراً ذهب يزور الثوار داعياً إلى "حقن الدماء والتفاوض مع بريطانيا"، ووقف أمامه الشاعر "عبد الرحيم محمود" الذى استشهد فيما بعد فى موقعة "الشجرة" عام 1948 ليقول له: يا ذا الأمير أمام عينك شاعر ضمت على الشكوى المريرة أضلعه المسجد الأقصى أجئت تزوره أم جئت من قبل الضياع تودعه؟ حرم تباع لكل أوكع آبق ولكل أفاق شريد أَرْبُعَه وغداً وما أدناه لا يبقى سوى دمع لنا يهمى وسن نقرعه ولم يكن ما قاله "عبد الرحيم محمود" خيال شعراء، بل قراءة صحيحة ونبوءة صادقة، فقد ضاع الأقصى وفلسطين كلها. وبعد 70 سنة من إجهاض الثورة العربية، مازال هناك من يواصل طريق الشاعر الشهيد، وهناك أيضاً من يواصل طريق "الأمير".. وهم الأغلبية، فمتى نصدق الشهداء؟! [email protected]