لم تشدني أحداث رواية مُعذِّبة مثل رواية كُتبت عام ألف وثمانمائة وعشرين، بعنوان أوهام ضائعة للروائي الفرنسي الرائع بلزاك الذي يعتبر مع فلوبير، مؤسسي الواقعية في الرواية الأوروبية، وهي تصور علاقة أب في منتهي البخل مع ابنه، بعكسنا نحن العرب إذ نمحو أسماءنا، لنضع بدلاً عنها أسماء أبنائنا، فيصير واحدنا أبو فلان، وآخر؛ أبو علاّن وذلك لشدة تعلق الأب بأبنائه وبناته وأفراد أسرته، وإنفاقه عليهم دم قلبه، وتوريثه كل شيء لهم. وهذا ما يؤكد تميُّز دفء الحياة الأسرية العربية، التي تحفظ الولد، وولد الولد، ضمن بوتقة ضمان اجتماعي متكامل يرعاه الأب، الذي يشكل لهم مظلة زالضمان الاجتماعيس فيكون بديلاً لمؤسسات الضمان الاجتماعي الغربية، لدرجة تصبح معها هذه الرعاية الاجتماعية فرضاً علي الأب، الذي إذا عارض الإنفاق علي أبنائه وأفراد أسرته، أو قصّر فيها، فإن أحدهم يقول له بالفم الملئان: لماذا خلفتمونا، ما دمتم لا تريدون الإنفاق علينا، أو تدّعون بأنكم لا تستطيعون ذلك؟ وكما أن هناك أبناء يبتزون آباءهم، فإن رواية أوهام ضائعة ل(بلزاك) تعرض مأساة أب طاغية مُتفرِّد، يبتز ابنه ، وهذا أغرب ما قرأت، وإليك شذرات مقتطفة من الرواية: يعتمد (جيروم) منذ ثلاثين سنة نفس القبعة الثلاثية القرون، ونظراً لكبر سنه، فقد نوي أن يتقاعد من العمل في مطبعته، ويبيعها إلي ابنه الوحيد (جاك)، عاقداً معه صفقة العمر، رغم ما يفترضه من وجود تعارض مصالح بينهما، فهو يريد أن يبيع بسعر غال، بينما الابن الطيب (جاك) يتوقع أن يشتريها من أبيه بسعر منخفض. وعندما وصل ابنه في تلك الأمسية ، أظهر له الأب كل الود التجاري الذي يظهره الأشخاص المهرة لمغبونيهم..اهتم به اهتمام عاشق بخليلته، تأبط ذراعه، وأشار له كيف ينقل خطواته كي لا يتسخ حذاؤه، وعمل علي تدفئة سريره، وإيقاد النار له، وإعداد وجبة ليلية عند قدومه، وبعد أن عمل علي إسكار ولده خلال حفل العشاء الفخم، التفت العجوز (جيروم) إلي ولده (جاك) المترنح، وقال له : الآن نبحث الصفقة؟س ورجاه ابنه أن يؤجل الموضوع إلي صباح الغد، لكن الدُّب العجوز كان يعرف جيداً كيف يستفيد من سكر ولده، فلا يتخلي عن معركة أعدّ لها منذ مدة طويلة. قدّم الأب جيروم ورقة إلي ابنه وهو يقول له: اقرأ هذا يا ولدي، وستري كم هي تحفة هذه المطبعه التي أقدمها لك!س استغل الأب الفرصة ليسأل ابنه مجدداً عما يملك: ماذا فعلت بأجورك الأسبوعية ؟ فأجاب جاك : أنفقت منها علي معيشتي وعلي شراء الكتب.س رد الطبّاع العجوز ساخراً : هذه بادرة سيئة، من يشتري الكتب، ليس مؤهلاً لطباعتها!س أحس جاك بأبشع أنواع المذلة الناشئة عن انحطاط أب .. وقال لنفسه: »للبخل كالعشق، هبة النظرة الثاقبة« فبعد أن باع العجوز مطبعته القديمة إلي ابنه جاك بأعلي الأثمان، وقّع ابنَه الذي أسكره في ذلك العشاء علي أوراق تُلزم ابنه براتب شهري للأب، وتبقي للأب الحق في التصرف بالصحيفة التي تصدرها المطبعة، مما جعل الأب يبيعها إلي (كوانته) ، صاحب مطبعة منافسة، فكان بيعُ الصحيفة بمثابة انتحار لمطبعة جاك ، فبعد السرقة يأتي القتل. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فبعدما تراكمت الديون علي الابن جاك، وانهارت المطبعة، سارع الأب للحجز عليها، وبيعها بالمزاد العلني للحصول علي مستحقاته من الأجور غير المدفوعة ، تاركاً ابنه يودع في السجن، بينما زوجة الابن وطفلها الرضيع ليس في بيتهم لقمة خبز، بينما راح العجوز صاحب مزارع الكروم يفكر بقطف محصول العنب، وعصره ، والتفكير بأفضل سعر ممكن أن يجنيه لقاء النبيذ المنتظر!« روائي عربي من الأردن.