أطلعني مكاوي سعيد علي روايته "تغريدة البجعة"، النسخة الانجليزية الصادرة عن الجامعة الأمريكية، فأطبقت فمي علي آهة عالية كانت ستلفت أنظار الجالسين والمارة، والسبب في الآهة المكتومة هو غلاف عمر الفيومي، ثم أطبقته علي آهة أخري بسبب صورة مكاوي الفوتوغرافية بكاميرا جيهان عمر، وتذكرت علي الفور ما كنت أتمناه لرواية سامية سراج الدين، بيت العائلة، فالغلاف المأخوذ من أرشيف المدينة، كان سيكتمل بالصورة الشخصية المأخوذة من أرشيف سامية، خاصة أن روايتها علي حافة سيرتها، وعلي حافة جسمها وروحها مما يفرض فضولا طاغياً لصورة تجعل انتهاء القراءة هو بداية النظر إلي وجه صاحبة الكتاب، والكتاب الأول، إن كان رواية جميلة، يدل علي نفسه، ولا يدل علي أن صاحبه أصبح روائيا، فلكل منا حكاية تخصه، يمكن أن تصنع كتابا جميلا، أما الكتاب الثاني، وإن كان رواية جميلة أيضا، فهو يدل علي الروائي، ضبطت نفسي أتطلع إلي بيت العائلة بشغف، كأنني أتلصص علي حياة الباشوات، فلم يكن في عائلتي باشا واحد، حتي أمي لم تكن تدلّل أحدنا، أبي أو أخي أو أنا، بأن تناديه: يا باشا، كأنها تكره الكلمة، لم يكن في عائلتي نصف باشا، أول بيت دخلته وانبهرت، كان بيت اليوزباشي إبراهيم ناجي، ابن أخت المشير عبد الحكيم عامر، اصطحبني أبي معه، كنت في المدرسة الثانوية، وضع اليوزباشي كفه اللينة فوق رأسي وطوّف في شعري، كان الرجل مكسوراً، لأن خاله أصبح منبوذاً وعلي حافة الهاوية، ضبط نفسي علي باب بيت العائلة، نظرت إلي سامية سراج الدين بخجل، كأنها أختي الكبري، تمنيت أن أمسك يدها، أن ندخل معا، هي التي بادرت وأمسكت يدي، وحكت لي الحكاية من أولها، كنت من قبل قد تعودت علي حكايات المهاجرين، صاحبت حنيف قريشي ومونيكا علي وألبير قصيري وسليم بركات وغائب طعمة فرمان وأمين معلوف، وبحثت معهم عن الفردوس المفقود، بحثت معهم عن انتماء المهاجرين الذين تركوا أوطانهم والتحقوا بأوطان أخري، بحثت عن الحنين الجنوني إلي البلد الذي هربوا منه، عن النوستالجيا الغامضة، صحيح أنني لم أحب كثيرا حكايات أهداف سويف، ربما لأنني أكره من هللوا لها، إلا أنني مازلت أذكر شوشا غابي بسبب اسمها، وبسبب إيرانيتها، وبسبب أنها سكنت في بريطانيا، وكتبت بالإنجليزية، أذكر - عبر آخرين - كتابها الأول "حديقة في طهران"، وكتابها الثاني "فتاة في باريس"، الكتابان صدرا في العقد الأخير من القرن الماضي، كانت شوشا صديقة لجاك بريفير، الشاعر الذي أدار رؤوسنا في كل الجهات، أمير المقاهي، الذي كتب عن حبيبته وفنجان قهوتها، فرأينا نزار قباني يفعل ذلك، ثم رأينا محمود درويش يطاردهما ويفعل، كل بطريقته، وإن ظل جاك هو شيخ الطريقة، شوشا غابي صديقة جاك، هي أيضا ستحكي قصة عائلتها، وها هي سامية سراج الدين، تكتشف أنها لا يمكن إلا أن تكون كاتبة، وأن تكون راوية حكايات، ضبطت نفسي أمنحها صورة أنا أخماتوفا الشاعرة الروسية التي تلهث وتجري ووراءها يمشي ببطء شبح ستالين، ضبط نفسي أتلصص علي أسماء أبطال سامية، وأحاول أن أعدلها لتنسجم مع ما أعرفه من التاريخ، تربّيت مثل كثيرين في مدارس ناصر، كنا نهتف باسمه في الصباح، وننظر إلي صورته في كل وقت، ونحاول أن ننساه في الليل، لكنه يغزو أحلامنا، تربيت مثل كثيرين علي كراهية الباشا فؤاد سراج الدين، حكوا لنا عنه، الباشا الطاغية، الباشا البدين، الباشا الوسيم، الذي كان شابا ذات يوم، حكوا لنا ظلمنا أن زينب هانم الوكيل، زوجة النحاس، كانت شابة مثل فؤاد، فيما كان النحاس عجوزاً، حكوا لنا أنها اغتوت بجمال الشاب وفتنته، وأن غوايتها تسببت في انقطاع علاقة النحاس بمكرم عبيد، كانوا يغزوننا بالنميمة، فنأكلها بنهم، ونطلب المزيد، ونكره من يريدون لنا أن نكرهه، عندما صدر بيت العائلة، تخيلت أن تلاميذ ناصر، سوف يثأرون من صاحبة الرواية، لأنها جرؤت وأعادت بناء الدار الكبيرة، وأعادت تذكيرنا بالحريق وما أعقبه من خراب، بيت العائلة الذي هو من حجارة ورخام وحديد وتحف وأسقف وجدران وذكريات وأشجار ومناضد ومقاعد،يمكن أن يشتريه أحدهم، أمير سعودي مثلا، يمكن أن يظل علي حاله بقرار رسمي، لأنه أثر ينبغي أن نحفظه، ويمكن أن يهدمه قرار رسمي، لأنه أثر ينبغي أن نزيله، لكن بيت سامية الذي من ورق وكلمات لا يستطيع قرار أن يهدمه، تخيلت دائما أن الحجارة أقوي من الورق، وتخيلت أحيانا أن الورق أقوي من الحجارة، ورق سامية وكلماتها من النوع الأخير، لذا تخيلت تلامذة ناصر يثأرون منها، لكن مكر سامية الفني سيكون أكثر سحرا وأشد فعالية من مكرهم السياسي، فهي استطاعت أن تسحب قدرا من الشجن المعتق تحت جلدها وفي كل خلاياها وتشجن به كل كلماتها، ساأتلصص علي سامية حتي ولو غافلتني واختفت ثم عاودت الظهور، حتي ولو قلبت السيرة إلي إلي رواية، حتي ولو تركت اسمها علي الغلاف وادعت أنها جيجي، فأوهمتنا أن ظهورها هو الظهور الثاني، بعد ظهور جيجي الأولي، ابنة عمها الكبري، وكأن تكرار الظهور تكثيف لما يمكن أن يقال واستغناء عن الزوائد والفضلات، وكأن ابن جيجي الأولي هو حبيب جيجي الثانية المفقود، وأيضا ابنها الضائع، كأنه كارت الهوية، سامية سراج الدين في حقيبتها بعض الحيل التي يحبها الفن، فهي تخفي اسمها، لكي تنبهنا بآليات شفيفة أن هذه الرواية السيرة، فيها خيال ما، فيها تحريف ما، فيها إخفاء ما، وأن الروح الساخنة فقط هي الناجية من التحريف، فأستاذ الجامعة المحكوم بالتفريق بينه وزوجته، سيصبح أستاذ قانون وصاحب أولاد وبنات كأنه ليس نصر أبو زيد، وألدو حارس مرمي الأهلي الذي يجذب مربيتها الإيطالية إلي مشاهدة المباريات كأنه ليس ألدو حارس مرمي الزمالك، ولأن حيلة واحدة لا تكفي، فإن سامية ستطل عليك أحيانا برأس الحادثة، ثم تتركك دون تعمد، وقبل أن تنساها تماما تفاجئك بتتمة للحادثة، وتنصرف إلي حوادث أخري يستغرقها السرد الطبيعي، لتطل عليك مرة ثالثة بتتمة جديدة، فيما يمكن أن يصنع توترا فنيا وفضولا طبيعيين، فالسيد فنجلي مساعد الباشا، والذي في أول الرواية نراه يدلك ساق الأم الكبيرة ويدلك قدميها، فنجلي الأغا المخصي في ظن الجميع، تحيطه سامية ببعض الريبة السريعة المصنوعة في أقل من فقرة ربما في جملة واحدة، لنراه مره ثانية في طور جديد، عموما بيت سامية لا يأخذك إلي عالمه فقط، إنه يستولي عليك أيضا، بإيقاع داخلي ممسوك، وتدفق تلقائي، وفكر طفولي، وحكمة خفية، وإذا كانت سامية لا تكتب بقصد أن نحبها، إلا أننا سنحبها، لأن كتابها ليس كتابا ناجزا، وليس نهائيا، صحيح أنها استطاعت أن تري أعماقنا، فقط لأنها استطاعت أن تري أعماقها، ولأنها لم تنشغل بتطعيم كتابتها بمذاقات غريبة، علي الرغم في وجودها في بلاد الأشياء الغريبة، بدت سامية حريصة علي إعلان انتماء كتاباتها إلي جنس أدبي محدد، وإعلان انتمائها هي شخصيا إلي أفق ثقافي محدد، كأنها الكلاسيكية المتجددة القابلة لأن تعاد قراءتها دائما، الكلاسيكية مشدودة إلي طرفين أو أكثر، الأشياء ذاتها والرغبة في الأشياء، العابر والمقيم، اليأس والأمل، الرغبة في الحب والخوف من الحب، حفاوتها أشبة بمرثية، بعد القراءة تزداد شجنا، تزداد طيش وخفة، وسوف تضحك ضحكة مريرة وأخري صافية، أنت لن تتعلم شيء، لن تمتلك شيء، ستحس بالمتعة النقية، المتعة غير المخجلة، الحياة المكتومة هنا، الحياة التي أسرارها وخباياها تشبه البحث عن الزمن الضائع، رواية مارسيل بروست التي تحيلنا إليها أحيانا، تشبه علي الأصح الأحمر والأسود لستاندال، ولا تشبه روايات يوسف السباعي الرومانسية الخفيفة، كانت زقاق المدق بعيدة وفي مكان مقبض، الحياة هذه هي مصدر الكتابة، وعن طريقها توحي وتومئ، تشير ولا تصرح، فالإفصاح فضيحة، تمنيت في أول مقالتي أن يحمل الغلاف صورة سامية، ثم حمدت الظروف أن الناشر لم يفعل، لأنه كان سيفسد ذلك الفن، فن الإيماء وعدم الإفصاح، فن الرواية من الداخل.