إعلان الحصر العددي لأصوات الناخبين بدائرة كوم أمبو بأسوان    بكام الفراخ النهارده؟ أسعار الدواجن والبيض في أسواق وبورصة الشرقية الأربعاء 12-11-2025    المحكمة العليا في الولايات المتحدة تمنح ترامب مهلة شهر لتمويل الغذاء ل 42 مليون أمريكي    مستوطنون إسرائيليون يهاجمون قريتين فلسطينيتين في الضفة الغربية    دقائق أنقذت السكان من الموت، انهيار عقار مكون من 8 طوابق بمنطقة الجمرك بالإسكندرية    زفاف الموسم يشعل السوشيال ميديا.. نجوم الفن يتسابقون لتهنئة مي عز الدين بزواجها من أحمد تيمور    «زي النهارده».. وفاة الفنان محمود عبدالعزيز 12 نوفمبر 2016    «زى النهارده».. استخدام «البنج» لأول مرة في الجراحة 12 نوفمبر 1847    دعاء الفجر | اللهم ارزق كل مهموم بالفرج واشفِ مرضانا    رئيس الوزراء: استثمارات قطرية تقترب من 30 مليار دولار في مشروع "علم الروم" لتنمية الساحل الشمالي    موعد بداية ونهاية امتحانات الترم الأول للعام الدراسي الجديد 2025-2026.. متى تبدأ إجازة نصف السنة؟    تحقيق عاجل من التعليم في واقعة احتجاز تلميذة داخل مدرسة خاصة بسبب المصروفات    نشأت الديهي: بن غفير يوزع حلوى مغموسة بدماء الفلسطينيين    مي سليم تطرح أغنية «تراكمات» على طريقة الفيديو كليب    عيار 21 يسجل رقمًا قياسيًا.. سعر الذهب والسبائك اليوم بالصاغة بعد الارتفاع الكبير    أمطار وانخفاض درجات الحرارة.. بيان مهم من الأرصاد يكشف حالة الطقس اليوم وغدًا    إصابة 4 أشخاص في حادث تصادم توك توك وتروسيكل بالخانكة    انقطاع التيار الكهربائي بشكل الكامل في جمهورية الدومينيكان    الزراعة: السيطرة على حريق محدود ب "مخلفات تقليم الأشجار" في المتحف الزراعي دون خسائر    سبب استبعاد ناصر ماهر من منتخب حلمي طولان وحقيقة تدخل حسام حسن في إقصاء اللاعب    رسميًا.. موعد إعلان نتيجة انتخابات مجلس النواب 2025 المرحلة الأولى    استقرار نسبي في أسعار العملات الأجنبية والعربية أمام الجنيه المصري مع تراجع طفيف للدولار    تسع ل10 آلاف فرد.. الجيش الأمريكي يدرس إنشاء قاعدة عسكرية بالقرب من غزة    قلبهم جامد.. 5 أبراج مش بتخاف من المرتفعات    موسكو تحذر من عودة النازية في ألمانيا وتؤكد تمسكها بالمبادئ    نيوسوم يهاجم ترامب في قمة المناخ ويؤكد التزام كاليفورنيا بالتكنولوجيا الخضراء    لتجنب زيادة الدهون.. 6 نصائح ضرورية للحفاظ على وزنك في الشتاء    اتهام رجل أعمال مقرب من زيلينسكي باختلاس 100 مليون دولار في قطاع الطاقة    الحسيني أمينا لصندوق اتحاد المهن الطبية وسالم وحمدي أعضاء بالمجلس    مواجهة قوية تنتظر منتخب مصر للناشئين ضد سويسرا في دور ال32 بكأس العالم تحت 17 سنة    منتخب مصر المشارك في كأس العرب يواصل استعداداته لمواجهتي الجزائر (صور)    مختصون: القراءة تُنمّي الخيال والشاشات تُربك التركيز.. والأطفال بحاجة إلى توازن جديد بين الورق والتقنية    جناح لجنة مصر للأفلام يجذب اهتماما عالميا فى السوق الأمريكية للأفلام بلوس أنجلوس    قبل غلق اللجان الانتخابية.. محافظ الأقصر يتفقد غرفة العمليات بالشبكة الوطنية    النيابة تطلب تحريات سقوط شخص من الطابق ال17 بميامي في الإسكندرية    حبس المتهم بالتسبب في وفاة والدته بعيار ناري أثناء لعبه بالسلاح بشبرا الخيمة    علشان تنام مرتاح.. 7 أعشاب طبيعية للتخلص من الكحة أثناء النوم    انتخابات مجلس النواب 2025.. محافظ الفيوم يتابع أعمال غلق لجان التصويت في ختام اليوم الثاني    انتخابات مجلس النواب 2025.. بدء عمليات الفرز في لجان محافظة الجيزة    سعر التفاح والموز والفاكهة بالأسواق اليوم الأربعاء 12 نوفمبر 2025    «ستأخذ الطريق الخاطئ».. ميدو يحذر حسام عبد المجيد من الانتقال ل الأهلي    بيان رسمي من خوان بيزيرا بشأن تجاهل مصافحة وزير الرياضة بنهائي السوبر    منتخب مصر يستعد لأوزبكستان وديا بتدريبات مكثفة في استاد العين    كرة سلة - الأهلي يفوز على سبورتنج في ذهاب نهائي دوري المرتبط للسيدات    رياضة ½ الليل| الزمالك يشكو زيزو.. انتصار أهلاوي جديد.. اعتقال 1000 لاعب.. ومصر زعيمة العرب    السياحة تصدر ضوابط ترخيص نمط جديد لشقق الإجازات Holiday Home    المستشار بنداري يشيد بتغطية إكسترا نيوز وإكسترا لايف ووعي الناخبين بانتخابات النواب    السفير التركي: العلاقات مع مصر تدخل مرحلة تعاون استراتيجي شامل    وفد السياحة يبحث استعدادات موسم الحج وخدمات الضيافة    نقيب الإعلاميين: الإعلام الرقمي شريك أساسي في التطوير.. والذكاء الاصطناعي فرصة لا تهديد.    ارتفاع حصيلة ضحايا إعصار فونج-وونج بالفلبين ل 25 قتيلا    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. روسيا تمنع 30 مواطنا يابانيا من دخول البلاد.. اشتباكات بين قوات الاحتلال وفلسطينيين فى طوباس.. وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلة يقدم استقالته لنتنياهو    أخطاء تقع فيها الأمهات تُضعف العلاقة مع الأبناء دون وعي    أمين بدار الإفتاء يعلق على رسالة انفصال كريم محمود عبد العزيز: الكلام المكتوب ليس طلاقا صريحا    استجابة من محافظ القليوبية لتمهيد شارع القسم استعدادًا لتطوير مستشفى النيل    هل يجوز تنفيذ وصية أم بمنع أحد أبنائها من حضور جنازتها؟.. أمين الفتوى يجيب    كيف نتغلب على الضيق والهم؟.. أمين الفتوى يجيب    هل الحج أم تزويج الأبناء أولًا؟.. أمين الفتوى يجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«ألف ليلة وليلة» أول رواية بوليسية مطبوعة في التاريخ!
نشر في القاهرة يوم 12 - 06 - 2012

الجريمة ليست شيئاً مطلقاً فهي لا تدل علي فعل ثابت المعني، والوصف المحدد، وانما هي شيء نسبي تحدده عوامل متعدية، للزمان، والمكان، ونوع الثقافة السائدة في المجتمع، ويعد التاريخ الإجرامي أقدم أنواع التواريخ التي عرفها الانسان، فالجريمة ظاهرة اجتماعية قديمة قدم الإنسان ذاته، فمع وجود الإنسان علي الأرض، وبدء وجوده يقترن بوجود الجريمة، فكانت أول جريمة عرفها الإنسان هي أقصاها تجريماً إلي اليوم، فلم يقم "قابيل" بالتدريج في سلوكه الإجرامي، فهو لم يرتكب مخالفة، ثم جنحة، وانما كانت أول جرائمه هي جناية قتل "هابيل" مع سبق الاصرار والترصد، وإن كان عدد أفراد المجتمع وقتها ستة أشخاص، هم أب وأم، وأخين ذكور، وأختين إناث، فإن معدل الجريمة هو السدس، فسدس المجتمع جاني، والسدس مجني عليه، والأربعة اسداس من رجال البوليس، والشهود، والقضاة، وكانت أول محاولات إخفاء معالم الجريمة في التاريخ هي التي قام بها"قابيل" وتعلمها من الغراب، فكان دفن الجثة واخفاء الضحية هو أول الحيل الانسانية لإخفاء الدليل المادي علي الفعل الإجرامي، فدفن الموتي الذي نمارسه اليوم كطقس جنائزي، هو في الأصل تخليداً لأولي محاولات الهروب من البوليس، وإخفاء معالم الجريمة في التاريخ الانساني. في الأدب البوليسي! يؤرخ لتاريخ القصص البوليسي عالمياً بمولده في الغرب، دون أي ذكر له في الأدب العربي علي الإطلاق، فيذكر الراصدون أن بدأت القصة البوليسية مع "إدجار ألان بو" (1809- 1849م) في روايته "حوادث القتل في شارع مستودع الجثث" في العام 1841م، ثم "رواية لغز ماري روجيه"، ورواية "الرسالة المسروقة"، أبدع "بو"، أول الروايات البوليسية، فأبدع شخصية الشرطي السري "أُوجست ديوبن"، الذكي يستخدم المنطق في حل الألغاز، ثم محاولة "تشارلز ديكنز" (1812 1870م) التجديد في الرواية البوليسية، فكانت روايته "البيت الكئيب" في العام 1852م، ثم روايته التي لم تكتمل "لغز إدوين درود"، أما رواية "ويلكي كولنز"(18241889م) المسماة "حجر القمر" في العام 1868م، فكانت من أهم الروايات البوليسية الأولي، وظهر "شرلوك هولمز"، ورفيقه الدكتور "جون واطسون" في العام 1887م في رواية السير "آرثر كونان دويل"(18591930م) التي عنوانها "دراسة قرمزية"، ويعد "هولمز" أشهر الشخصيات في القصص الخيالية البوليسية، وابتكر الكاتب الأمريكي "جاك فوتريل"(18751912م) شخصية اسمها "الآلة المفكرة"، كما أَدخلت البارونة "أوركزي" المجرية المولد شخصىَّة "العجوز الذي في الزاوية". وقد شهدت الفترة بين عامىّ 1925 : 1935م نشر أول المؤلَفات المهمة لكتاب القصص البوليسية مثل "مارجري ألينغهام"، و"نيقولاس بليك"، و"جون دكسون كار"، والسيدة "أجاثا كريستي"(18901976م)، و"إيرل ستانلي جاردنر"، و"داشييل هاميت"، و"مايكل إنس"، وفي عشرينيات القرن العشرين أدخلت مجلة "القناع الأَسود" طرازاً أَمريكياً واضحاً من الألغاز، كثيرًا ما يسمي الشرطي السري الخاص، أو الأَلغاز "الواقعية"، وتمحورت هذه القصص حول شرطي سرِي شديد المراس، والإجراءات المشوقة والعنف والأسلوب القصصي النابض بالحياة، وتزعم هذه الحركة "داشييل هاميت" في العشرينيات وتبعه "ريموند تشاندلَر" بعد عقد من الزمان، ولم يتعرض أي راصد لتاريخ الأدب البوليسي في الرواية العربية، بيد أن القراءة المتفحصة لأدبنا العربي تفاجئنا بالعثور علي أول الكتابات البوليسية في التاريخ، والكامنة في بطون كتب التراث العربي، وفي مناهل أدبنا الأولي. أول رواية بوليسية مطبوعة المنهل المرجع الذي بين أيدينا هو أقدم نسخة مطبوعة لرواية " ألف ليلة وليلة من المبتدأ الي المنتهي"، وهي طبعة مصورة عن طبعة "برسلاو" بتصحيح "مكسيميليانوس بن هابخت" وهي الطبعة التي اعتمدتها "دار الكتب والوثائق القومية" بالقاهرة، طبعة 2003م، ولقد ذكر "يوسف سركيس" في معجمه للمطبوعات العربية والمعربة، أن أول نسخة طبعت باللغة العربية من روايتنا كانت بمدينة "كلكاتا" بالهند في جزئين، صدر منهما الجزء الأول في العام 1814م، من المطبعة الهندوستانية، ثم تبعه الجزء الثاني في العام 1818م، ولم تنشر هذه الطبعة النص كاملاً، حتي جاءت مطبعة مدينة"برسلاو" بألمانيا، ونشرت أولي طبعات" ألف ليلة وليلة " كاملة، ثم توالي ظهور طبعات منها بمعرفة مطبعة "بولاق" بالقاهرة، وتمتاز نسخة "برسلاو" بأنها أقرب الطبعات إلي الرواية الشفاهية، فقد حافظت علي الأصل في أوضاعه اللغوية التي كان عليها، وهي اللهجة العامية دون تغيير، فلم يفعل"هابخت" ما فعله الشيخ "عبد الرحمن الصفتي"، و"قطة العدوي" بالطبعات المصرية، حيث ترجموا الحوار إلي اللغة العربية الفصحي، فإن كانت رواية" ألف ليلة وليلة" المجهولة المؤلف في الأصل ولدت من معين شفاهي الثقافة، فإن انتقالها إلي الثقافة الكتابية علي هذا النحو من الصياغة يجعلها تضرب بجذورها التاريخية في الادب العربي الشفاهي، بما يحمله من آليات التذكر، فهي رواية في الأصل ولدت بوليسية فهي قصص هدفها الأول الهروب من قتل "شهريار" لزوجته "شهرزاد"، الذي اعتاد قتل زوجاته، فهي اتخذت من الفعل القصصي نفسه وسيلة لمنع وقوع جريمة، فالإطار العام للرواية يقع في داخل جرائم مستمرة، متوالية، فهي في مجملها رواية بوليسة المنشأ، وان احتوت علي تفاصيل بوليسية صريحة كما نطالعها أول قصة بوليسية للعثور علي جثة مجهولة، والبحث عن القاتل، في الليلة التاسعة والستين من رواية "ألف ليلة وليلة"، والمعروفة باسم"التفاحات الثلاثة". أول جثة مجهولة تحكي "شهرزاد" في ختام الليلة التاسعة والستين بالجزء الأول من رواية "ألف ليلة وليلة"، ص 350 طبعة"برسلاو"، عن قيام الخليفة "هارون الرشيد" بالمرور بصحبة وزيره "جعفر" لتفقد أحوال العوام، ومعهما "مسرور" الخادم، فوجدوا صياداً يشكو قلة الرزق، وانه لم يعثر علي سمكة واحدة في نهر دجلة منذ أول النهار، فأمره الخليفة أن يرمي الشبكة، علي اسم الخليفة، وما يصطاده سيشتريه منه بمئة دينار، فخرج صندوق مقفول اشتراه الخليفة بمئتي دينار، وحمله "مسرور" إلي القصر، وعندما فتحوه وجدوا فيه قفة خوص مخيطة بصوف أحمر، ففتحوها فوجدوا إيزارا مطويا أربع طيات، فكشف الإيزار فرأوا تحته صبية غصنة كأنها سبيكة فضة، مقتولة مقطعة، وتبدأ الليلة السبعون بقصة البحث والتحري عن شخصية المقتولة، والقتيل. ويكلف الخليفة"هارون الرشيد" وزيره "جعفر" بحل القضية، وتقديم المتهم للعدالة، وإلا قتله وأربعين من أهله معه، ومنحه مهلة ثلاثة أيام فقط، وعجز الوزير عن معرفة القاتل حتي اقترب من نهاية اليوم الثالث، وبدأ الخليفة يعد للقصاص من "جعفر" وأربعين من أهله، فإذا بشاب يعترف للوزير بقيامه بارتكاب الجريمة، وتبدأ الليلة الحادية والسبعون، بالكشف عن سر الجريمة؟ فاعترف بأنها زوجته، وكانت مريضة منذ فترة، وطلبت منه شراء تفاح فهي تشتهيه، فلم يجد في المدينة تفاح فسافر مسيرة نصف شهر، واحضر ثلاث تفاحات، ومنحهم لها، ولكنه فوجئ وهو في دكانه بعبد قبيح يحمل تفاحة من التفاحات الثلاثة التي عند زوجته، فسأله عن مصدر التفاحة؟ فقال :" من عند حبيبتي طلعت لها اليوم ولقيت عندها ثلاث تفاحات"، وقالت لي:" أن زوجها القواد سافر نصف شهر حتي جابهم"، فأكلت وشربت معها، وأخذت تفاحة، فذهب اليها زوجها وقتلها، وقطع جثتها، ورماها في نهر دجلة، الا أن الزوج استكمل اعترافه فقد اكتشف أن التفاحة التي عثر عليها مع العبد، كان ابنه الكبير قد سرقها من أمه. وأثناء وقوفه يلعب بين إخوته، خطفها منه العبد، فاخبر العبد انها لأمه وأن ابيه سافر من أجلها نصف شهر لشرائها، وهي واحدة من ضمن ثلاث تفاحات، اشتراها والده لأمه المريضة، فاعترف الزوج انه قتل زوجته ظلماً، وتبدأ الليلة الثانية والسبعون بالبحث عن العبد الذي سرق التفاحة، ومنح الخليفة "جعفر" مهلة ثلاثة أيام أخري، فلم يفلح حتي نهاية الليلة الثالثة، بدأ يودع"جعفر" أهل بيته استعداداً للموت، وكانت له ابنة طفلة يحبها، فقام بضمها إلي صدره، وباسها، فلاحظ وجود شيء في جيبها، فسألها عنه، فقالت:"تفاحة مكتوب عليها اسم مولانا الخليفة، جابها عبدنا ريحان، اعطاها لي بدينارين ذهب"، فاحضر العبد، الذي اعترف بجريمته بسرقة التفاحة من الطفل، وباعها إلي ابنة الوزير، فلما عرف الخليفة بالحقيقة ضحك حتي انقلب، وقال لوزيره "جعفر":" إن سبب الفتنة عبدك"، وقد أخذه العجب لهذه الاتفاقات. الأدلة الجنائية تعتبر الروايات البوليسية روايات مفارقة للواقع معتمدة علي الخيال المطلق للمبدع وهو بصدد اصطناع الأحداث و الشخوص، وصولاً إلي مرحلة التصعيد، ثم كشف السر بحل لغز الجرائم، علي اختلاف انواعها، إلا أنه وهو بهذا الصدد، ويمارس إبداعه المطلق، نجده ملتزما التزاماً ضمنيا بقواعد البحث والتحقيق الجنائي المتفق عليها عند أرباب المهنة، فإن كان نقاد الأدب تعرضوا للرواية البوليسية بالنقد، فهم تناولوها كعمل أدبي، ولم يسبق أن تعرض لها أحد كعمل بوليسي مهني يبحث عن مدي التزام المؤلف المبدع بأصول البحث الجنائي، وقواعد الاستدلال المنطقية العقلية المتبعة في عمل رجال الشرطة، وإلي أي مدي كان معتمداً علي مفارقة الواقع من اجل الحبكة، وإلي أي مدي تجني علي الجاني وهو يدفعه لارتكاب الجريمة، وما منحه من قدرات عقلية فائقة للربط بين الاحداث والادلة التي قام بها رجل الشرطة البطل. مسرح الجريمة! يعتبر مسرح الجريمة المكان الذي تمت فيه الأحداث الختامية للجريمة، وهو بالفعل مسرح، لانه يتم دراسته كما يتم دراسة المسرح ذلك المكان الذي تقدم عليه الاعمال الفنية امام الجمهور، فتعبير مسرح الجريمة ينطوي علي مفارقة الكشف عن أسرار ارتكاب الجريمة في مكانها فيتحول مكانها إلي مسرح يشاهد فيه الجميع كيفية وقوع الجريمة. كما حدثت كما لو كانوا يرونها علي خشبة مسرح، فمسرح الجريمة هو المكان الذي يستنطق فيه رجل البوليس الأسرار، ويتعرف علي "الميزانسيه"، أو حركة الممثلين علي خشبة المسرح، وعددهم، وكيف تصرف كل منهم؟ فإن كان المخرج المسرحي يخرج مسرحية يملك نصها مقدماً، فإن رجل البوليس يخرج مسرحية لا يملك لها نصاً، فكلاهما فنان، وإن اختلفا في موعد ممارستهما لفنهما! فمسرح الجريمة الأول كما رسمه المؤلف المجهول لرواية "ألف ليلة وليلة" جاء مطابقاً لكل قواعد التحقيق الجنائي فالتزم المؤلف بوصف المكان والزمان، وحدد الشهود، ثم ركز علي موضوع القضية، وهو العثور علي جثة مجهولة مشوهة المعالم، بل إنه دفع الظروف إلي التعقيد، فلم يمنح مسرح الجريمة أي قدرة علي العثور منه علي أي دليل، فمسرح الحدث هنا كان شاطئ نهر دجلة، وما يحمله من استحالة الاستدلال من النهر علي أي معلومة، فبات مسرح الجريمة معتمدا علي الصندوق، وما به من آثار مادية قد تهدي إلي الجاني. بين الشرق والغرب لم يبذل مؤلف "ألف ليلة وليلة" أي إيحاء من أجل أن يقدم شخصية رجل الشرطة الذكي الذي ينجح باستخدام ذكائه علي كشف الجريمة، فإن كانت الرواية التي بين ايدينا هي أولي المحاولات في الادب العربي لكتابة الرواية البوليسية، فنجد أنه لا دور فيها لشخصية البطل، سواء المجرم، أو رجل الشرطة، فإن الذي كشف عن القضية، وحلها هو تتابع الأحداث نفسها، وتلك الطريقة الابداعية في الرواية البوليسية نادرة الحدوث، أو ربما لم تحدث مرة أخري، فحتي هذا الكشف هو ما صرح به المؤلف حين قال في ختام القصة:" فأخذ الخليفة التعجب كثيراً بهذه الاتفاقات"، فالمؤلف لم ينسب سبب تعجب الخليفة إلي براعة الوزير "جعفر" في معرفة الجاني، وكشف سر القضية، وانما كان اعجابه بسبب"الاتفاقات"، أي الحدث، والظروف، وهذا الملمح مختلف عن مولد الرواية البوليسية في الادب الغربي حيث ولدت معتمدة علي الشخوص وليس الحدث، ولذا انتشرت الرواية البوليسية في الغرب معتمدة علي شخصية البطل الذي هو دائماً رجل البوليس، أو المتحري السري، فقيام الابن بسرقة التفاحة من والدته، ثم سرقتها منه عن طريق العبد، وقيام الابن بمنح العبد معلومات قاطعة عن والدته وكيفية شراء ابيه للتفاحة، وعدد التفاحات، ثم ما مهد له المؤلف بعدم وجود تفاح في البلدة إلا الذي اشتراه الزوج، ثم مقابلة العبد للزوج ومعه التفاحة، ثم اهدائه للتفاحة لابنة الوزير "جعفر" كل هذا صنعة عالية في الحدث، لم يقم أي شخص فيها بدور سواء الجاني، أو المجني
عليه، أو رجل الشرطة. حيل الأذكياء يفاجئنا "أبوالفرج الجوزي" الفقيه الحنبلي المحدث والمؤرخ والمتكلم (510ه/1116م - 12 رمضان 592 ه) ولد وتوفي في بغداد، والذي حظي بشهرة واسعة، ومكانة كبيرة في الخطابة والوعظ والتصنيف، كما برز في كثير من العلوم والفنون، في كتابه "الأذكياء" بنفس قصة التفاحات الثلاث الواردة في ألف ليلة وليلة، ولكن نكتشف فيها أنه قد حدث تطور في الرواية البوليسية العربية، فقد سردها"الجوزي" كما يسرد الغرب قصصه البوليسية، فقد أقام فيها دوراً مهماً لرجل الشرطة الذي كشف حقيقة الجريمة، وتوصل إلي معرفة الجثة المجهولة، فيذكر في سياق المنقول من قصص الأذكياء من الخلفاء، عن "المعتضد بالله"(ت:289ه) الخليفة العباسي، نفس رواية "ألف ليلة وليلة" والمنسوبة للخليفة "هارون الرشيد"، حيث عثر صياد علي "جراب" به جثة مجهولة من نهر دجلة، ولكن"المعتضد" في قضيته هذه يتبع اسلوب البحث الجنائي المعاصر، فيبدأ بالبحث في الاسواق عمن أنتج الجراب، في بغداد، فيصل إليه وإلي من اشتراه، ويقبض علي الجاني، الذي يتضح انه قتل جارية مغنية كان يحبها، وفشل في شرائها، نفس السياق ولكن المؤلف الروائي في "ألف ليلة وليلة" اعتمد علي الحدث، بينما "الجوزي" اعتمد علي شخصية الخليفة "المعتضد"، وذكائه في البحث الجنائي، اتباعة الاسلوب الامثل إلي اليوم وهو البحث عبر الأدلة المادية في الجريمة، كما يبحث رجال البوليس عن نوع معين من السلاح، بل تطور الامر إلي استخدام احدث الوسائل العلمية لاثبات أن هذه الأداة بعينها هي التي استخدمت في ارتكاب الجريمة بعينها. لاشك أن ادبنا العربي في جذوره التاريخية يحمل في طياته الكثير من المحاولات المتعددة للكتابات الروائية البوليسية، والتي سنسعي لاستجلائها تباعاً.

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.