«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«ألف ليلة وليلة» أول رواية بوليسية مطبوعة في التاريخ!
نشر في القاهرة يوم 12 - 06 - 2012

الجريمة ليست شيئاً مطلقاً فهي لا تدل علي فعل ثابت المعني، والوصف المحدد، وانما هي شيء نسبي تحدده عوامل متعدية، للزمان، والمكان، ونوع الثقافة السائدة في المجتمع، ويعد التاريخ الإجرامي أقدم أنواع التواريخ التي عرفها الانسان، فالجريمة ظاهرة اجتماعية قديمة قدم الإنسان ذاته، فمع وجود الإنسان علي الأرض، وبدء وجوده يقترن بوجود الجريمة، فكانت أول جريمة عرفها الإنسان هي أقصاها تجريماً إلي اليوم، فلم يقم "قابيل" بالتدريج في سلوكه الإجرامي، فهو لم يرتكب مخالفة، ثم جنحة، وانما كانت أول جرائمه هي جناية قتل "هابيل" مع سبق الاصرار والترصد، وإن كان عدد أفراد المجتمع وقتها ستة أشخاص، هم أب وأم، وأخين ذكور، وأختين إناث، فإن معدل الجريمة هو السدس، فسدس المجتمع جاني، والسدس مجني عليه، والأربعة اسداس من رجال البوليس، والشهود، والقضاة، وكانت أول محاولات إخفاء معالم الجريمة في التاريخ هي التي قام بها"قابيل" وتعلمها من الغراب، فكان دفن الجثة واخفاء الضحية هو أول الحيل الانسانية لإخفاء الدليل المادي علي الفعل الإجرامي، فدفن الموتي الذي نمارسه اليوم كطقس جنائزي، هو في الأصل تخليداً لأولي محاولات الهروب من البوليس، وإخفاء معالم الجريمة في التاريخ الانساني. في الأدب البوليسي! يؤرخ لتاريخ القصص البوليسي عالمياً بمولده في الغرب، دون أي ذكر له في الأدب العربي علي الإطلاق، فيذكر الراصدون أن بدأت القصة البوليسية مع "إدجار ألان بو" (1809- 1849م) في روايته "حوادث القتل في شارع مستودع الجثث" في العام 1841م، ثم "رواية لغز ماري روجيه"، ورواية "الرسالة المسروقة"، أبدع "بو"، أول الروايات البوليسية، فأبدع شخصية الشرطي السري "أُوجست ديوبن"، الذكي يستخدم المنطق في حل الألغاز، ثم محاولة "تشارلز ديكنز" (1812 1870م) التجديد في الرواية البوليسية، فكانت روايته "البيت الكئيب" في العام 1852م، ثم روايته التي لم تكتمل "لغز إدوين درود"، أما رواية "ويلكي كولنز"(18241889م) المسماة "حجر القمر" في العام 1868م، فكانت من أهم الروايات البوليسية الأولي، وظهر "شرلوك هولمز"، ورفيقه الدكتور "جون واطسون" في العام 1887م في رواية السير "آرثر كونان دويل"(18591930م) التي عنوانها "دراسة قرمزية"، ويعد "هولمز" أشهر الشخصيات في القصص الخيالية البوليسية، وابتكر الكاتب الأمريكي "جاك فوتريل"(18751912م) شخصية اسمها "الآلة المفكرة"، كما أَدخلت البارونة "أوركزي" المجرية المولد شخصىَّة "العجوز الذي في الزاوية". وقد شهدت الفترة بين عامىّ 1925 : 1935م نشر أول المؤلَفات المهمة لكتاب القصص البوليسية مثل "مارجري ألينغهام"، و"نيقولاس بليك"، و"جون دكسون كار"، والسيدة "أجاثا كريستي"(18901976م)، و"إيرل ستانلي جاردنر"، و"داشييل هاميت"، و"مايكل إنس"، وفي عشرينيات القرن العشرين أدخلت مجلة "القناع الأَسود" طرازاً أَمريكياً واضحاً من الألغاز، كثيرًا ما يسمي الشرطي السري الخاص، أو الأَلغاز "الواقعية"، وتمحورت هذه القصص حول شرطي سرِي شديد المراس، والإجراءات المشوقة والعنف والأسلوب القصصي النابض بالحياة، وتزعم هذه الحركة "داشييل هاميت" في العشرينيات وتبعه "ريموند تشاندلَر" بعد عقد من الزمان، ولم يتعرض أي راصد لتاريخ الأدب البوليسي في الرواية العربية، بيد أن القراءة المتفحصة لأدبنا العربي تفاجئنا بالعثور علي أول الكتابات البوليسية في التاريخ، والكامنة في بطون كتب التراث العربي، وفي مناهل أدبنا الأولي. أول رواية بوليسية مطبوعة المنهل المرجع الذي بين أيدينا هو أقدم نسخة مطبوعة لرواية " ألف ليلة وليلة من المبتدأ الي المنتهي"، وهي طبعة مصورة عن طبعة "برسلاو" بتصحيح "مكسيميليانوس بن هابخت" وهي الطبعة التي اعتمدتها "دار الكتب والوثائق القومية" بالقاهرة، طبعة 2003م، ولقد ذكر "يوسف سركيس" في معجمه للمطبوعات العربية والمعربة، أن أول نسخة طبعت باللغة العربية من روايتنا كانت بمدينة "كلكاتا" بالهند في جزئين، صدر منهما الجزء الأول في العام 1814م، من المطبعة الهندوستانية، ثم تبعه الجزء الثاني في العام 1818م، ولم تنشر هذه الطبعة النص كاملاً، حتي جاءت مطبعة مدينة"برسلاو" بألمانيا، ونشرت أولي طبعات" ألف ليلة وليلة " كاملة، ثم توالي ظهور طبعات منها بمعرفة مطبعة "بولاق" بالقاهرة، وتمتاز نسخة "برسلاو" بأنها أقرب الطبعات إلي الرواية الشفاهية، فقد حافظت علي الأصل في أوضاعه اللغوية التي كان عليها، وهي اللهجة العامية دون تغيير، فلم يفعل"هابخت" ما فعله الشيخ "عبد الرحمن الصفتي"، و"قطة العدوي" بالطبعات المصرية، حيث ترجموا الحوار إلي اللغة العربية الفصحي، فإن كانت رواية" ألف ليلة وليلة" المجهولة المؤلف في الأصل ولدت من معين شفاهي الثقافة، فإن انتقالها إلي الثقافة الكتابية علي هذا النحو من الصياغة يجعلها تضرب بجذورها التاريخية في الادب العربي الشفاهي، بما يحمله من آليات التذكر، فهي رواية في الأصل ولدت بوليسية فهي قصص هدفها الأول الهروب من قتل "شهريار" لزوجته "شهرزاد"، الذي اعتاد قتل زوجاته، فهي اتخذت من الفعل القصصي نفسه وسيلة لمنع وقوع جريمة، فالإطار العام للرواية يقع في داخل جرائم مستمرة، متوالية، فهي في مجملها رواية بوليسة المنشأ، وان احتوت علي تفاصيل بوليسية صريحة كما نطالعها أول قصة بوليسية للعثور علي جثة مجهولة، والبحث عن القاتل، في الليلة التاسعة والستين من رواية "ألف ليلة وليلة"، والمعروفة باسم"التفاحات الثلاثة". أول جثة مجهولة تحكي "شهرزاد" في ختام الليلة التاسعة والستين بالجزء الأول من رواية "ألف ليلة وليلة"، ص 350 طبعة"برسلاو"، عن قيام الخليفة "هارون الرشيد" بالمرور بصحبة وزيره "جعفر" لتفقد أحوال العوام، ومعهما "مسرور" الخادم، فوجدوا صياداً يشكو قلة الرزق، وانه لم يعثر علي سمكة واحدة في نهر دجلة منذ أول النهار، فأمره الخليفة أن يرمي الشبكة، علي اسم الخليفة، وما يصطاده سيشتريه منه بمئة دينار، فخرج صندوق مقفول اشتراه الخليفة بمئتي دينار، وحمله "مسرور" إلي القصر، وعندما فتحوه وجدوا فيه قفة خوص مخيطة بصوف أحمر، ففتحوها فوجدوا إيزارا مطويا أربع طيات، فكشف الإيزار فرأوا تحته صبية غصنة كأنها سبيكة فضة، مقتولة مقطعة، وتبدأ الليلة السبعون بقصة البحث والتحري عن شخصية المقتولة، والقتيل. ويكلف الخليفة"هارون الرشيد" وزيره "جعفر" بحل القضية، وتقديم المتهم للعدالة، وإلا قتله وأربعين من أهله معه، ومنحه مهلة ثلاثة أيام فقط، وعجز الوزير عن معرفة القاتل حتي اقترب من نهاية اليوم الثالث، وبدأ الخليفة يعد للقصاص من "جعفر" وأربعين من أهله، فإذا بشاب يعترف للوزير بقيامه بارتكاب الجريمة، وتبدأ الليلة الحادية والسبعون، بالكشف عن سر الجريمة؟ فاعترف بأنها زوجته، وكانت مريضة منذ فترة، وطلبت منه شراء تفاح فهي تشتهيه، فلم يجد في المدينة تفاح فسافر مسيرة نصف شهر، واحضر ثلاث تفاحات، ومنحهم لها، ولكنه فوجئ وهو في دكانه بعبد قبيح يحمل تفاحة من التفاحات الثلاثة التي عند زوجته، فسأله عن مصدر التفاحة؟ فقال :" من عند حبيبتي طلعت لها اليوم ولقيت عندها ثلاث تفاحات"، وقالت لي:" أن زوجها القواد سافر نصف شهر حتي جابهم"، فأكلت وشربت معها، وأخذت تفاحة، فذهب اليها زوجها وقتلها، وقطع جثتها، ورماها في نهر دجلة، الا أن الزوج استكمل اعترافه فقد اكتشف أن التفاحة التي عثر عليها مع العبد، كان ابنه الكبير قد سرقها من أمه. وأثناء وقوفه يلعب بين إخوته، خطفها منه العبد، فاخبر العبد انها لأمه وأن ابيه سافر من أجلها نصف شهر لشرائها، وهي واحدة من ضمن ثلاث تفاحات، اشتراها والده لأمه المريضة، فاعترف الزوج انه قتل زوجته ظلماً، وتبدأ الليلة الثانية والسبعون بالبحث عن العبد الذي سرق التفاحة، ومنح الخليفة "جعفر" مهلة ثلاثة أيام أخري، فلم يفلح حتي نهاية الليلة الثالثة، بدأ يودع"جعفر" أهل بيته استعداداً للموت، وكانت له ابنة طفلة يحبها، فقام بضمها إلي صدره، وباسها، فلاحظ وجود شيء في جيبها، فسألها عنه، فقالت:"تفاحة مكتوب عليها اسم مولانا الخليفة، جابها عبدنا ريحان، اعطاها لي بدينارين ذهب"، فاحضر العبد، الذي اعترف بجريمته بسرقة التفاحة من الطفل، وباعها إلي ابنة الوزير، فلما عرف الخليفة بالحقيقة ضحك حتي انقلب، وقال لوزيره "جعفر":" إن سبب الفتنة عبدك"، وقد أخذه العجب لهذه الاتفاقات. الأدلة الجنائية تعتبر الروايات البوليسية روايات مفارقة للواقع معتمدة علي الخيال المطلق للمبدع وهو بصدد اصطناع الأحداث و الشخوص، وصولاً إلي مرحلة التصعيد، ثم كشف السر بحل لغز الجرائم، علي اختلاف انواعها، إلا أنه وهو بهذا الصدد، ويمارس إبداعه المطلق، نجده ملتزما التزاماً ضمنيا بقواعد البحث والتحقيق الجنائي المتفق عليها عند أرباب المهنة، فإن كان نقاد الأدب تعرضوا للرواية البوليسية بالنقد، فهم تناولوها كعمل أدبي، ولم يسبق أن تعرض لها أحد كعمل بوليسي مهني يبحث عن مدي التزام المؤلف المبدع بأصول البحث الجنائي، وقواعد الاستدلال المنطقية العقلية المتبعة في عمل رجال الشرطة، وإلي أي مدي كان معتمداً علي مفارقة الواقع من اجل الحبكة، وإلي أي مدي تجني علي الجاني وهو يدفعه لارتكاب الجريمة، وما منحه من قدرات عقلية فائقة للربط بين الاحداث والادلة التي قام بها رجل الشرطة البطل. مسرح الجريمة! يعتبر مسرح الجريمة المكان الذي تمت فيه الأحداث الختامية للجريمة، وهو بالفعل مسرح، لانه يتم دراسته كما يتم دراسة المسرح ذلك المكان الذي تقدم عليه الاعمال الفنية امام الجمهور، فتعبير مسرح الجريمة ينطوي علي مفارقة الكشف عن أسرار ارتكاب الجريمة في مكانها فيتحول مكانها إلي مسرح يشاهد فيه الجميع كيفية وقوع الجريمة. كما حدثت كما لو كانوا يرونها علي خشبة مسرح، فمسرح الجريمة هو المكان الذي يستنطق فيه رجل البوليس الأسرار، ويتعرف علي "الميزانسيه"، أو حركة الممثلين علي خشبة المسرح، وعددهم، وكيف تصرف كل منهم؟ فإن كان المخرج المسرحي يخرج مسرحية يملك نصها مقدماً، فإن رجل البوليس يخرج مسرحية لا يملك لها نصاً، فكلاهما فنان، وإن اختلفا في موعد ممارستهما لفنهما! فمسرح الجريمة الأول كما رسمه المؤلف المجهول لرواية "ألف ليلة وليلة" جاء مطابقاً لكل قواعد التحقيق الجنائي فالتزم المؤلف بوصف المكان والزمان، وحدد الشهود، ثم ركز علي موضوع القضية، وهو العثور علي جثة مجهولة مشوهة المعالم، بل إنه دفع الظروف إلي التعقيد، فلم يمنح مسرح الجريمة أي قدرة علي العثور منه علي أي دليل، فمسرح الحدث هنا كان شاطئ نهر دجلة، وما يحمله من استحالة الاستدلال من النهر علي أي معلومة، فبات مسرح الجريمة معتمدا علي الصندوق، وما به من آثار مادية قد تهدي إلي الجاني. بين الشرق والغرب لم يبذل مؤلف "ألف ليلة وليلة" أي إيحاء من أجل أن يقدم شخصية رجل الشرطة الذكي الذي ينجح باستخدام ذكائه علي كشف الجريمة، فإن كانت الرواية التي بين ايدينا هي أولي المحاولات في الادب العربي لكتابة الرواية البوليسية، فنجد أنه لا دور فيها لشخصية البطل، سواء المجرم، أو رجل الشرطة، فإن الذي كشف عن القضية، وحلها هو تتابع الأحداث نفسها، وتلك الطريقة الابداعية في الرواية البوليسية نادرة الحدوث، أو ربما لم تحدث مرة أخري، فحتي هذا الكشف هو ما صرح به المؤلف حين قال في ختام القصة:" فأخذ الخليفة التعجب كثيراً بهذه الاتفاقات"، فالمؤلف لم ينسب سبب تعجب الخليفة إلي براعة الوزير "جعفر" في معرفة الجاني، وكشف سر القضية، وانما كان اعجابه بسبب"الاتفاقات"، أي الحدث، والظروف، وهذا الملمح مختلف عن مولد الرواية البوليسية في الادب الغربي حيث ولدت معتمدة علي الشخوص وليس الحدث، ولذا انتشرت الرواية البوليسية في الغرب معتمدة علي شخصية البطل الذي هو دائماً رجل البوليس، أو المتحري السري، فقيام الابن بسرقة التفاحة من والدته، ثم سرقتها منه عن طريق العبد، وقيام الابن بمنح العبد معلومات قاطعة عن والدته وكيفية شراء ابيه للتفاحة، وعدد التفاحات، ثم ما مهد له المؤلف بعدم وجود تفاح في البلدة إلا الذي اشتراه الزوج، ثم مقابلة العبد للزوج ومعه التفاحة، ثم اهدائه للتفاحة لابنة الوزير "جعفر" كل هذا صنعة عالية في الحدث، لم يقم أي شخص فيها بدور سواء الجاني، أو المجني
عليه، أو رجل الشرطة. حيل الأذكياء يفاجئنا "أبوالفرج الجوزي" الفقيه الحنبلي المحدث والمؤرخ والمتكلم (510ه/1116م - 12 رمضان 592 ه) ولد وتوفي في بغداد، والذي حظي بشهرة واسعة، ومكانة كبيرة في الخطابة والوعظ والتصنيف، كما برز في كثير من العلوم والفنون، في كتابه "الأذكياء" بنفس قصة التفاحات الثلاث الواردة في ألف ليلة وليلة، ولكن نكتشف فيها أنه قد حدث تطور في الرواية البوليسية العربية، فقد سردها"الجوزي" كما يسرد الغرب قصصه البوليسية، فقد أقام فيها دوراً مهماً لرجل الشرطة الذي كشف حقيقة الجريمة، وتوصل إلي معرفة الجثة المجهولة، فيذكر في سياق المنقول من قصص الأذكياء من الخلفاء، عن "المعتضد بالله"(ت:289ه) الخليفة العباسي، نفس رواية "ألف ليلة وليلة" والمنسوبة للخليفة "هارون الرشيد"، حيث عثر صياد علي "جراب" به جثة مجهولة من نهر دجلة، ولكن"المعتضد" في قضيته هذه يتبع اسلوب البحث الجنائي المعاصر، فيبدأ بالبحث في الاسواق عمن أنتج الجراب، في بغداد، فيصل إليه وإلي من اشتراه، ويقبض علي الجاني، الذي يتضح انه قتل جارية مغنية كان يحبها، وفشل في شرائها، نفس السياق ولكن المؤلف الروائي في "ألف ليلة وليلة" اعتمد علي الحدث، بينما "الجوزي" اعتمد علي شخصية الخليفة "المعتضد"، وذكائه في البحث الجنائي، اتباعة الاسلوب الامثل إلي اليوم وهو البحث عبر الأدلة المادية في الجريمة، كما يبحث رجال البوليس عن نوع معين من السلاح، بل تطور الامر إلي استخدام احدث الوسائل العلمية لاثبات أن هذه الأداة بعينها هي التي استخدمت في ارتكاب الجريمة بعينها. لاشك أن ادبنا العربي في جذوره التاريخية يحمل في طياته الكثير من المحاولات المتعددة للكتابات الروائية البوليسية، والتي سنسعي لاستجلائها تباعاً.

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.