قبل موسم الصيف، هلَّ الكاتب الفرنسي فيليب جيان علي قرائه، برواية جديدة احتفت بها الأوساط الأدبية واعتبرها الكثيرون الرواية مضمونة القراءة لهذا الصيف لأن الناس عادة ما يقرأون الروايات الجيدة مع بداية فصل الدراسة، أما قراءات الصيف فهي دائماً لأعمال خفيفة، أقرب إلي التسلية، وخصوصا الروايات البوليسية. فيليب جيان pholoppe Diama حالة أدبية خاصة منذ ثلاثين عاماً، حين نشر مجموعته القصصية الأولي، «ضدا» والغريب ان جيان اختار ان تصدر آخر رواياته يوم عيد ميلاده الثاني والستين، فهو من مواليد 3 يونية عام 1962 بباريس وهو روائي وكاتب مسرحي وقاص، تأثر كثيرا بكل من ويليام فوكنر، وج.و. سالنجر، وقد عرف تعدد الرحيل في بداية حياته ومن أعماله «أزرق مثل الجحيم» «رواية»عام 1982، «منطقة مغمورة» عام 1984، و«37.2 درجة مئوية في الصباح» وهي أشهر رواياته وأهمها وقد تحولت إلي فيلم جلب الإيرادات الضخمة من إخراج جان جاك بينكس عام 1985، ثم صدرت له رواية «خضوع» عام 1990، «تماسيح» عام 1991، «للخارج ببطء» عام 1992، «سوتوس» عام 1993، «القتلة» عام 1994، ثم «آردواز» عام 2002، «احتكاك» عام 2003، «غير مغتفر» عام 2009، وفي العام الماضي صدرت روايته «حوادث» ثم هاهي روايته الأخيرة «انتقامات» التي خصصت مجلة «لير» ملفا خاصا عنها بمناسبة صدورها. قصة سباك تروي رواية «37.2 درجة مئوية في الصباح» قصة سباك، يروي عن نفسه انه صار يبيع أجهزة البيانو، وهو يمر بين المحلات، يلتقي بالفتاة بيتي، فتصبح رفيقته ويعرف انها كانت علي علاقة بكاتب مشهور وتقوم بينها وبين السباك علاقة حسية قوية يكتب السباك روايته ويحاول تقديمها إلي الناشرين لكنهم يرفضونها وتتدخل بيتي لمساعدته لدي ناشر تدعي انها مجنونة وتقنعه ان يقبل رواية هذا الكاتب المغمور، وانها رواية إباحية ساخنة سرعان ما تحقق الكثير لمؤلفها وناشرها. في رواية «القتلة» للكاتب غير فيليب جيان من أسلوبه ويروي الوقائع في إطار بوليسي، فهناك مفتش يزور أحد مصانع الألوان في مدينة أمريكية، انه تكلف بهذه الزيارة أما الراوي فيقول: إن هذا المفتش يواجه خطراً، وبالفعل يتم اختطافه في سيارة وتدور الشبهات حول فتاة شقراء حسناء، يقول الراوي إنه يحبها لكنها ليست المرأة الوحيدة في حياته. خضوع والبطل في رواية «خضوع» كاتب أيضا اسمه دان وهو يعيش لحظة أفول بعد أن طلق زوجته، وعاش في أحضان الخمر، انه يحاول ان يستجلب بعض الاسئلة حول المعاناة التي يعيشها ابنه المراهق هيرمان، الذي بلغ الرابعة عشرة، يتذكر الكاتب كيف هجرته زوجته فجأة ذات صباح فوجدت نفسي أمام آلتي الكاتبة مع كتبي التي تم بيعها وحسبت أنني أصحبت نصف مجنون، وان قرائي قد أصابهم التعب مني وأنني أب لا يحتمل، هنا فهمت انني ارتكتبت خطئاً فادحا، لأنه لم يعد معي نقود أصرفها، وكان هذا عبئاً علي فقد حصلت علي كل ما أريده ولكن هذا لايبدو لي مهما، لقد شاهدت كل هذا فجأة. ما يشغل الكاتب هو ان ابنه هيرمان يود ان يصبح ممثلاً، ويريد ان يساعده كما انه ليس وحده في الحياة فهنا عشقته الجديدة السي وصديقته سارة، وناشره بول. كما أنه يتحدث عن جيرانه المثليين، وتروي الرواية قصة الحب، والصداقة بشكل يدعو للرثاء.. «لدينا جميعا مشاكلنا وتنقلنا الحياة من حال إلي حال، كان الطريق أزرق ومنيراً رغم كل شيء». كتب الناقد بلوجاستل في مجلة «حدث الخميس» ان اسلوب جيان في هذه الرواية رقيق ومرن وهو لا يسترجع عباراته كي يجري بين الجمل التي قد تغزو صفاء الموضوع فكلماته ترتطم ببعضها مع نفس الغضب المكثف ويقول جيان في البداية كان لدىّ مفهوم بالنسبة للفرنسية المكتوبة، ولكنني وجدت انه يبتعد كثيرا عن الواقع مما دفعني إلي ان استخدم عن طيب خاطر جملا قصيرة غير مزدوجة المعاني، أردت ان اكتب بشكل مختلف، مقلدًا بذلك الأدباء الأمريكيين، لقد اكتشفت متعة الجملة الجميلة وشيئاً فشيء اتسعت أفاقي. وفي مجلة «لوبوان» 12 ديسمبر 1988، دافع الكاتب عن جرأته في كتابه «الجنس» خاصة رواية «37.2 درجة مئوية» .. قائلا: «أصابني الإحباط دوما عندما كنت صغيرا إذا قرأت كتبا ممنوعة وأنا أري الكتَّاب يفسرون المشاهد الجريئة، وأنا أمر من فصل إلي آخر مما دفعني لقرض الشعر، أما أنا فأتكلم عن أشياء تهم الجسد وتسمو به، فهناك كلمات تبدو جميلة ونحن نذكرها للناس لا يعني الأمر ان نقول: إن هذا «مغفل» بل أقدم للناس مشه مشهد حب وأنا أردد المزيد عن شخص عشنا معه نفسيا طوال خمسين صفحة. لذا، ففي روايته «عفن» تدور الأحداث في أجواء بوليسية من خلال سحاق نسائي، فهناك امرأتان تقومان بتربية طفل صغير، وهناك العديد من الشخصيات الموجودة في الجوار، منهم كاتب عجوز علي علاقة بشابة صغيرة، وممثلة تتعامل بعنف مع عشيقها المنتج الذي يضطر لاستخدام المنشطات. وفي هذه الرواية يقدم الكاتب أبطاله كأنهم خارجون من صيدلية يحتاجون إليها من أجل أمنهم الاجتماعي ويتحدث عن الأدوية والمشروبات، وما يحتاج العواجيز وغير القادرين علي الحياة بشكل صحي. انتقامات في روايته «انتقامات» يكتب فيليب جيان لأول مرة من سيرته الذاتية، فرغم ان الكاتب هو شخصية رئيسية في أغلب روايته السابقة، إلا أن جيان هذه المرة يتحدث عن طفولته أو بالأحري عن الجيل الذي ينتمي إليه جيل ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وحتي عام 1960 وهو الجيل الذي عرف احتلال الأراضي في بلاد عديدة ويقوم الكاتب بمقارنة عطاء هذا الجيل وأسلوب حياته والجيل التالي مباشرة لنهاية الحرب العالمية الأولي. تبدأ أحداث الرواية بانتحار الشاب إلكسندر الذي بلغ سن الثامنة عشرة وهو ابن لفنان يدعي مارك هذا الانتحار يدوي بقوة في الجيل بأكمله خاصة أصدقائه وزملاء الدراسة، وتكون جلوريا هي الأكثر تأثرا بهذا المصاب، فهي حبيبته وكل شيء في حياته لذا فإن الأب يحاول ان ينقذها مما أصابها لكنها دائماً ما تكون مخمورة وتتجول في الشوارع حتي ساعة متأخرة من الليل. يحاول الأب ان يبحث في ماضي ابنه الذي دفعه إلي الانتحار خاصة تجاربه العاطفية ويعرف انه كان متعدد العلاقات مثل كل أبطال جيان السابقين وانه كان مخموراً دوما وانه كان يجمع نساء أخريات خلال علاقته مع جلوريا، وسرعان ما سوف نكتشف ان كل الأسماء النسائية التي كانت في حياة ابنه هي أسماء متعددة لجلوريا، فهي كل من «آن» و«ميشيل». أبطال الكاتب صاروا شيوخا أو بناتا ليس لديهن خط دفاع، وقد صار أبطاله لا يعرفون كيف يتعاملون مع أجسادهم وليست الشيخوخة هي وحدها التي تمس الأب مارك الذي تجاوز الستين بل إن الأمر نفسه يحدث لزوجته ولم تعد لها نفس الجاذبية التي كانت عليها قبل سنوات. ويبدو الأمر هنا واضحا، فالكاتب الذي تحدث عن لهيب الجسد في رويايته «37.2 درجة الحرارة في الصباح» يتكلم كيف انطفأ هذا اللهيب فالرجل لم يعد يطمح في المزيد، لكنه يريد فقط معرفة سر انتحار ابنه، وتبدو الدائرة كأنها تبدأ من جديد فقد عاش الابن الكسندر تجارب مشابهة لما عاشها الكاتب السباك مع الفتاة بيتي في الرواية المذكورة. الأكثر دهشة هم الشباب بلا أي شك، هؤلاء الذين تجاوزوا سن العشرين يكفي ان تنظر إليهم، لقد فهمتهم أثناء حفل استقبال صغير عند جيراننا قبل عدة أيام من الكريسماس عندما كان ابني الكسندر 18 سنة حزينا وأطلق علي رأسه رصاصة، وانهار فوق البوفيه. يري الكاتب ان لعنة الأبناء يدفعونها من حصاد الآباء، مارك هنا يعمل في صناعة البلاستيك مثلما كان بطل الرواية السابقة يعمل سباكا، وإذا كان هذا السباك هو في الحقيقة كاتب فإن صانع البلاستيك هو أيضاً فنان. بعد انتحار ابنه، يعود مارك إلي منزله مصطحبا بفتاة التقاها في المترو في ساعة متأخرة دون ان يعرف انها جلوريا ، التي تحكي له ان لها عدة أسماء وانها كانت رفيقة ابنه التي صدمت في رحيله المأساوي. كتب الناقد دافيد ديفيريته ان فيليب جيان قد عاد إلي قمة ألقه بهذه الرواية فرغم أعماله الكثيرة التي نشرها منذ عام 1985، أي بعد رواية «37.2 درجة مئوية» إلا أن رواية «انتقامات» تعيدإلينا كاتبا كنا نعرفه جيدا، فنحن أمام رواية مظلمة مليئة بأسباب الإزعاج تمتلئ بإيقاعات مضبوطة لكاتب له أهميته.