كان في مدخل بيت جدي طاقة ليست بعيدة عن متناول اليد، وأن لم تكن في الوقت نفسه سهلة الوصول إليها. وأذكر في طفولتي أن أحد أقربائنا أتي لجدي ذات مرة، وطلب منه أن يقرضه جنيها علي أن يرده له بعد أسبوع، فأعطاه جدي ما طلب. ووفي الرجل بوعده، فمر بجدي ورد له الجنيه. غير ان جدي لم يأخذه منه بل طلب منه أن يضعه في الطاقة التي في مدخل البيت. وقد عجبت لهذا التصرف من جدي. لكنني ما لبثت أن فهمت سره. ذلك ان الرجل عاد بعد اسبوعين فطلب اقراضه جنيها مرة اخري، فما كان من جدي الا ان اشار الي الطاقة، ففهم الرجل وذهب يشب علي اطراف اصابع قدميه وشد قامته وذراعه اليمني ويفرد اصابع يده اليمني حتي استطاع ان يسحب الجنيه. وبعد شهر عاد ورد الجنيه في مكانه. واستمر هذا الأخذ والعطاء للجنيه بضع مرات حتي حدث في احدي المرات ان اخذ الرجل الجنيه ولم يرده وعندما مر بعد اسابيع ليقترض جنيها اخر اشار جدي الي الطاقة لكنها كانت فارغة هذه المرة فعاد الرجل فارغ اليدين ايضا. وعندما كبرت كنت اتذكر دائما هذه القصة كلما رأيت شخصا يريد ان يأخذ ولا يعطي. اعرف اشخاصا اذا طلبت من أحدهم خدمة فكأنك اهنته في الوقت الذي لايتحرج عن مطالبتك بتقديم خدماتك له. لعل المشرفين علي تربيتهم في طفولتهم مسئولون عن ذلك، فلاشك انهم كانوا يدللونهم ويلبون مطالبهم دون ان يبصروهم بما عليهم من واجبات. وعندما كبروا- ولا اقول نموا، فهؤلاء قد توقف نموهم الاجتماعي علي الأقل- اقول ان هؤلاء عندما كبروا احسوا ان علي الدنيا ان تعطيهم من طرف واحد، لايدركون ان الحياة الناضجة اساسها تبادل العواطف والمصالح: بين الزوج وزوجته، والصديق وصديقه، وفي العمل بين الزميل وزميله، فلا عجب ان تفشل علاقاتهم في هذه الدوائر الثلاث، وان يسببوا لمن حولهم من المعاناة ما ينعكس عليهم فيعانون بدورهم من تجاهل الآخرين، وان لم يفطنوا في الكثير من الأحيان لدورهم في ذلك حتي وان نبههم المخلصون لهم لان انانيتهم تحجب عنهم الرؤية السليمة فيلعنون الدنيا والآخرين بدلا من ان يغيروا ما بأنفسهم. يقول المثل الشعبي "كله سلف ودين، حتي دموع العين"، و" ومن قدم السبت لقي الحد قدامه". أي وجد يوم الأحد أمامه. والمعني ان من يفعل الخير اليوم يجد من يرده له في الغد.