في مقدورنا أن نقطع، مع عبق الذكري الثانية لثورتنا، وبما يشبه اليقين التَّاريخي، أنّ 25 يناير ماسة كبيرة مؤتلقة في حبات العقد المنظوم، أو أنها موجة عتية من موجات ثورية سبقتها، ترامت في براري التاريخ لتراوح بين مد وانحسار. وليس كلامي هنا منصبًا علي ثورتي 1919 ويوليو 1952 فحسب علي نحو ما حاولت أن تكرس "ميديا" النظام السابق وأبواقه الناعقة (والتي وصلت بهذا الوهم العريض إلي مناهج التاريخ في التعليم المصري في غيبة الضمير التاريخي)، ليؤكد النظام، بأي ثمن، فكرته المفضلة المكرورة المعلبة أمنيًا، بأن "صبر المصريين بلا قاع"! وهو سلاح (سيكولوجي) حاسم في سجالات الدولة البوليسية وموجات الغضب الشعبي المحتمل. حيث وظف النظام دائمًا عبر عقود فيالق الأمن المركزي جنبًا إلي جنب مع التسريبات التاريخية المغلوطة ليغتال حلم الثورة النبيلة من طرفيه. فقاطرة الثورة ركضت في التاريخ المصري الحديث، خلافًا لما يتصور كثيرون، متخللة مرافئ رسو كثيرة، بدءاً من (ثورة العبيد) (عام 1260) مرورًا بسلاسل انتفاضات شعبية زراعية (دأبت كتب التاريخ أن تطلق عليها "فساد العربان"!) وصولاً إلي هبات ثورية ضخمة لفقراء المدن (عرفت ب "ثورات المدن" أو "ثورات الحرافيش")، مرورًا بثورة البدو عام 1253 بزعامة "الشريف حصن الدين بن ثعلب" الذي تعرض للشَّنق لاحقًا، ثم ثورة (ابن الأحدب) في الصعيد عام 1253، وقد رسم "ابن إياس" لوحتها المثيرة ببراعة مشهودة لم تبرح ذاكرتي يومًا. وهو ما حفز المستشرق "أ. ن. بولياك" في انعطافه علمية رصينة أن يجمع سجلات الثورة المصرية المتعاقبة في دراسته الشائقة : "الثورات الشعبية في مصر في عصر المماليك وأسبابها الاقتصادية". وكانت هذه الدراسة مثارًا لنقاش ممتد ممتع بيني وبين الصديق الروائي الكبير "حجاج أدول" وعلي كثرة ما ظهر، بعد ثورة 52 يناير، من كتب (نيئة) تفتقر إلي الإنضاج الكافي، فإن كتابًا واحدًا لم يضع إبهامنا علي الفروق الجذرية التي تباين بها ثورة يناير مثيلاتها أو سابقاتها في مجري التاريخ المتدفق نهريًا بكثافة. ومع تقديري التام لما كتبه الروائي الكبير "إبراهيم عبدالمجيد" في "لكل أرض ميلاد: أيام التحرير" (دار أخبار اليوم/ 2011) أو الصديق المبدع "محمد الشماع" في "أيام الحرية في ميدان التحرير" (شمس ط1/ 2011) أو الصديق الكاتب الصحفي "عبدالمنعم حلاوة" في "الثَّورة من الجانب الآخر" (الهيئة العامة لقصور الثقافة ط1/ 2012) أو غيرهم ممن تضيق المساحة دون رصد جهودهم، فإن أحدًا لم يفطن إلي فارق جذري تمايزت به ثورة يناير في خصوصيتها وفرادتها. وهو فارق أطلق عليه كل من "ريتشارد ستينجل" و"بوبي جوش": "خلطة الشباب والتكنولوجيا"! ففي إطار عدد تذكاريّ خاصّ حول "الثورة المصرّية" أصدرته مجلة "التايم" الأمريكيّة في فبراير 2011 بعنوان "الجيل الذي يغير العالم" (وقد طالبت مرارًا بترجمته إلي العربية) كتب "ستينجل" افتتاحية منتشية مؤكدًا أن العاملين: (الديموجرافي) والتقني (ممثلا في شبكات التواصل الاجتماعي) يشكلان وجه مصر الجديدة. وألمح "بوبي جوش" إلي أن هناك "زلزالاً شبابيًا" أو "تورمًا شبابيًا" في مصر (massive youth bulge) هو الذي صنع الفارق هذه المرة. أليس غريبًا أن يصنع الشباب، بروح جسور، فروق الأفضلية والتفوق ثم ينحي عن كل مواقع القيادة بعد أن وضعت الحرب أوزارها، ليعاود (الحرس القديم) في المواقع القياديّة (خصوصًا الثقافية) سيرته الأولي دون ظل ندم أو حمرة حياء؟!