في قلب المدينة الكبيرة، بالقرب من ساعة الميدان، كانت العربات الصغيرة والكبيرة، تسير في كل الاتجاهات والناس علي الأرصفة وفي المنافذ الضيقة وفي عرض الطريق يتدفقون في ضجيج، وكنت أسير بينهم ويسيرون حولي ومثلنا أناس كثيرون يواجهوننا ونواجههم، بعضهم يسير في كسل وبعضهم يهرول في ذعر، وبعضهم يسرع كالهارب من قدره، فكنت كلما أكملت دورة، أكملوا عدة دورات، فلم أستطع أن أجاريهم في اللحاق بالوقت الراكض أمامنا، نتعقبه حتي تدوسه عجلات العربات المسرعة، وعندما تقترب الحافلات الكبيرة المكتظة بالركاب ينطلق الناس خلفها، حتي يذوبوا في دخانها شديد السواد. كان رجال المرور الطيبون يتغاضون عن مخالفة سائقي عربات الأجرة والمشاة، عندما يسيرون في الطريق الخطأ أو يتجاوزون إشارات المرور، وعندما تتزاحم أكتاف الحافلات الكبيرة والصغيرة كانوا يكتفون بالنظر إلي الناحية الأخري أو التطلع للسماء الرمادية بعد أن يلتقطوا القطع الفضية التي يلقيها عليهم سائقو الميكروباصات .. وباعة الجرائد ينادون بصوت أجش عميق علي جريدة المساء، فلا يلتفت إليهم أحد، وكلما اقتربت منهم يجذبونني من معصمي تارة ومن شحمة أذني تارة أخري لأشتري الجريدة، فأقسم أنني اشتريتها أمس، وما الفرق بين اليوم والأمس، فلا يزال الناس يثرثرون، والأخبار هي نفسها من زمن طويل والأخبار هي الأخبار نفسها، يشيح بائع الجرائد بوجهه المخيف عني وأواصل السير في الطريق الدائري الذي لا ينتهي . وعلي مقاعد المقاهي المنتشرة بطول الطريق تحت أقدام البنايات وعلي رأس المنعطفات، يجلس أناس آخرون علي الرصيف الضيق، يحتسون الشاي والقهوة والوقت والكلام والنكات، بينهم أناس طيبون عيونهم ضيقة ووجوههم مصفرة، كانوا يطالعون في صمت الضجيج، صحيفة المساء وحركة الميدان، يميلون برؤوسهم حيث يميل الناس لليمين ولليسار ثم يرتدّون ثانية إلي الصحيفة الملقاة علي طرف الطاولة، وآخرون يشبهونهم كانوا يتململون في جلستهم، كأنهم ينتظرون موعداً لا يأتي، لكنهم ينتظرون في جَلَد الواثق من أمره وهم ينظرون دون اكتراث إلي ساعة الميدان تارة، وأخري إلي حركة تتابع خطوات المارة، ويستغرقون . وأصوات صفير القطار تتعالي من بعيد في سماء الميدان المكتظ بالناس وأدخنة عوادم العربات، لكنها سرعان ما تتصاعد فوق أسطح البنايات الشاهقة، لتلتصق علي لافتات الإعلانات المتربة، تخترق السماء الرمادية أو يبتلعها نحيب أصوات مُشيّعِي الرجل الميت بالقرب من السرادق الكبير. وعندما أصابني الإعياء من الدوران والضجيج، كانت عقارب ساعة الميدان لا تزال تشير إلي الثالثة منذ الصباح وساعة الميدان العتيقة تشير إلي الثالثة، بينما كانت ساعة معصمي قد تجاوزت السادسة، وعندما ارتبت قالوا: عقارب الساعة معطلة منذ زمن بعيد وساعة الميدان معطلة . قالوا : لا تعبأ بساعة الميدان أنظر إلي ساعة معصمك، اركض خلف الناس، افعل مثلهم . ضحكت في وجوههم المصفرة، وضحكوا في وجهي، ومضيت كالأبله للوراء. أتحسس رأسي، فقد تذكرت أنني كنت علي موعد مهم في تمام الخامسة!