حينما أنتهيت من قراءة الرواية الجديدة للكاتب السوري المرموق فوّاز حداد (عزف منفرد علي البيانو) والذي سبق أن أثارت روايته السابقة عليها (المترجم الخائن) اهتماما كبيرا قبل عامين، أدركت أنني أمام كاتب متمرس قادر علي كتابة نص ينطوي علي مستويات متعددة من الرؤي والمعاني والدلالات. فقد بدأت القراءة، وأنا أحسب، في الفصول الأولي من هذه الرواية التي تقع في أربعين فصلا، أن الكاتب يريد رواية حادثة معروفة جرت منذ عدة سنوات لكاتب سوري مشهور ضربه مجهولون بليل علي عتبة بيته، وتركوه مضغضعا غارقا في دمائه في شوارع اللاذقية. كان هذا هو أفق التوقعات الذي استثارته الفصول الأولي من الرواية، ولكنها كأي رواية جيدة تثير التوقعات لا لتلتزم بها وتحققها، وإنما لتجهضها وهي تولد توقعات مغايرة وجديدة كي تلعب مع القارئ لعبة روائية بحق. لأنني بعدما واصلت القراءة سرعان ما أدركت أن الكاتب ينطلق من الواقع لا ليحاكيه أو يعيد رواية ما دار فيه، وإنما ليستمد منه مصداقية لروايته التي تتغيا من خلال سبرها لواقع معاش تخليق استعارتها الشفيفة لحال المثقف العربي في هذا الزمن الردئ، وليجسد عبرها مأزق المثقف الذي يريد أن يحقق مشروعه الفكري المستقل فيجد نفسه كالقابض علي الجمر في كل خطوة يخطوها. حيث لايقف بجانبه أحد، حتي أقرب الناس إليه، الصديق والزوجة والعشيقة، فيضطر إلي أن ينفق وقته في صراع عقيم مع سلطة تدعي أنها تحميه، وتريد أن تحتويه تارة، أو تستخدمه أخري، أو تتخلص منه ثالثة. يتخبط في شباك مؤامرات أو بالأحري سيناريوهات محكمة، ويشتبك بأحابيلها الجهنمية التي تتغيا جميعها الأجهاز علي دوره والنيل من استقلاله وفعاليته. إننا بإزاء رواية تكتب مأزق المثقف العربي في هذا الزمن الردئ الذي اختلطت فيه الأوراق، وتحول قطاع كبير من الكتاب والمثقفين إلي كلاب للحراسة لأنظمة وأجندات مختلفة. حيث تبدأ الرواية بحادث اعتداء غامض علي الأستاذ فاتح القلج، وهو «موظف مرموق ومفكر مستقل لايقل أهمية عن مفكري الحزب»(ص33)، علي سلم بيته عند عودته يوما بعد إلقاء محاضرة يهاجم فيها الظلاميين. وتركه الاعتداء وهو «يسبح في دمه أسفل الدرج» ص19. ويتنادي أصدقاؤه ومؤيدوه إلي سريره بالمستشفي، وإلي وكالات الانباء كي تنشر خبر الاعتداء علي مفكر علماني. ولكن سرعان ما يصل إلي نفس السرير رجل الأمن الحاذق الذي يريد أن يدير الحدث، لا لصالح المثقف وإنما لصالح الدولة وأجهزتها الأمنية. فهو يؤكد له بلا مداورات «لن يسمح لك ولا لغيرك بزج الدولة في معركة تعود عليك بالشهرة وعلي البلد بالقلاقل»(ص160). وبدلا من أن تبحث أجهزة الأمن عن الجاني، هاهي تستجوب الضحية، وتحذره من مغبة الحديث إلي وسائل الإعلام عما جري له، وتوحي له بأن بإمكانها تشويه سمعته بالزعم بأن الاعتداء تم لأسباب أخلاقية، وتموضعه في تلك الأعراف القاتلة بين الشك فيه والرغبة في مساعدته واستئناسه وحمايته من أعدائه. وتؤكد له بأن الجاني لم يكن يريد قتله بل تأديبه فحسب، وبالتدريج يصبح الضحية متهما، بينما الجاني حر طليق. فالرواية لا تهتم بتعقب الجاني. فنحن لسنا بإزاء رواية بوليسية تستهدف فك خيوط جريمة بسيطة، وإنما بإزاء رواية تسعي للحفر في أركيولوجيا الواقع المعقد الذي يعيشه المثقف العربي في هذا الزمن العربي الردئ. وتهتم بالكشف عن آليات المأزق الذي يحيط به في عالم اختلطت فيه الأوراق، وتغلغل العولمي في المحلي، والأمني في الفكري. وأصبح من العسير علي كثيرين فرز أوراق اللعبة، أو التعرف علي الحقيقي فيها من الزائف. وتمضي بنا الرواية للتعرف علي توابع حادث الاعتداء ذاك علي حياة فاتح، وعلي ممارساته الفكرية والثقافية، وبقية تفاصيل حياته اليومية منها والعملية. لتكشف لنا عن كيفية تخلق تلك الرمال الناعمة والمراوغة التي تسوخ فيها أقدامه يوما بعد يوم، وتكبل بأمراسها اللا مرئية مبادراته، حتي تصيبه بقدر لابأس به من الشلل الفعلي والمعنوي. فالرواية علي مستوي من مستوياتها هي رواية الكشف عن الجدل بين القوي الأساسية الثلاثة في الواقع العربي: الدولة، والجماعات الإسلامية، والمثقف المستقل، وكيف أن هذه القوي جميعها تستحيل إلي لعبة في أيدي لاعبين أكبر في لعبة عولمية أوسع يستحيل فيها اللاعب المحلي إلي أداة في لعبة جهنمية أكبر منه. فالدولة تدرك ضرورة عدم التخلي عنه في حالة استهدافه بالقتل، ليس فقط لأن قتله سيكشف عن تراخي قبضتها الأمنية علي الأمور، وعن عجزها عن فرض سلطتها علي الواقع، ولكن أيضا لأن«ما يتبرع به مجانا، يدفعون ثمنه للآخرين باهظا» فقد أصبح أمثاله «أحد أدواتها النظيفة الصالحة للاستعمال في الأمور غير النظيفة»(ص42).لكن المثقف يحاول الحفاظ علي استقلاله بعيدا عن قبضتها الأمنية التي تضيق خناقها من حوله، بحجة حمايته هذه المرة، لا مصادرة حريته. ويجد فاتح، ومعه المثقف العربي نفسه «من المخزون الاحتياطي العقلاني لدولة غير عقلانية ولا مؤمنة، يكمل تشكيلة الأصناف المفكرة التي لايستغني عنها في المناظرات التليفزيونية التي تتطلب مماحكات ومناكفات، وجدلا ومصطلحات، لئلا يقال أن البلاد تفتقر إلي منظرين يتكلمون بالفصحي، ويسبغون مناخا من التفكير المنفتح، وإن كان ثقيلا علي برامج كانت بلاوزن، وشيئا من الجدية علي حوارات الطرشان».(ص38) فكيف سيكون حال المثقف في هذا المأزق الرهيب، هذا ما ستنتعرف عليه في الأسبوع القادم.