آخر تحديث لسعر الذهب اليوم وعيار 21 الآن ببداية تعاملات الأربعاء 24 أبريل 2024    الصوامع والشون بالمحافظات تواصل استقبال القمح من المزارعين    أسعار اللحوم اليوم الأربعاء 24 أبريل 2024 في أسواق الأقصر    ثانى أيام المقاطعة.. انخفاض سعر بعض أنواع السمك بدمياط    البنك المركزي: سداد 8.16 مليار دولار فوائد وأقساط ديون خارجية خلال الربع الأول من 2023/2024    اليوم.. «خطة النواب» تناقش موازنة مصلحة الجمارك المصرية للعام المالي 2024/ 2025    سويلم يلتقي المدير التنفيذي للشبكة الإسلامية لتنمية وإدارة مصادر المياه    الرئيس الإيراني يصل سريلانكا    جوزيب بوريل يدعو إلى خفض التوترات وتهدئة التصعيد بين إيران وإسرائيل    متحدث "البنتاجون": سنباشر قريبا بناء ميناء عائم قبالة سواحل غزة    بينهم نتنياهو.. تخوفات بإسرائيل من صدور مذكرات اعتقال دولية بحق مسؤولين كبار    رابطة العالم الإسلامي تدين مج.ازر الاحتلال الإسرائيلي في مجمع ناصر الطبي بغزة    مفوض حقوق الإنسان أكد وحدة قادة العالم لحماية المحاصرين في رفح.. «الاستعلامات»: تحذيرات مصر المتكررة وصلت إسرائيل من كافة القنوات    احتفالات مصر بذكرى تحرير سيناء.. تكريم الشهداء وافتتاح المشروعات التنموية والثقافية    لازم ياخد كارت أحمر .. ميدو يهاجم التحكيم في مباراة العين والهلال    مرشح لخلافة علي معلول.. مفاجأة جديدة لجماهير الأهلي    التشكيل المتوقع لباريس سان جيرمان ضد لوريان في الدوري الفرنسي    جدول ترتيب الدوري المصري قبل مباريات يوم الاربعاء 2024/4/24    اليوم.. طقس شديد الحرارة على جميع الأنحاء والعظمي بالقاهرة 41 درجة    شروط تقديم الأعذار المرضية قبل بدء امتحانات نهاية العام 2024.. التفاصيل والضوابط    تفاصيل الحالة المرورية في القاهرة والمحافظات.. كثافات أعلى كوبري أكتوبر    علاقة مُحرّمة.. فصل جديد في قضية مقت.ل طبيب بالتجمع الخامس.. بعد قليل    تاريخ مميز 24-4-2024.. تعرف على حظك اليوم والأبراج الأكثر ربحًا للمال    الكونجرس يقر نهائيا قانونا يستهدف تغيير ملكية تطبيق التواصل الاجتماعي تيك توك    الشيوخ الأمريكي يوافق على 95 مليار دولار مساعدات لإسرائيل وأوكرانيا    الكرم العربي أعاق وصولها للعالمية، "بيتزا المنسف" تثير الجدل في الأردن (فيديو)    تعرف على مدرب ورشة فن الإلقاء في الدورة ال17 للمهرجان القومي للمسرح؟    عتريس السينما المصرية.. محمود مرسي تزوج مرة واحدة وتوفى أثناء التصوير    دعاء العواصف والرياح.. الأزهر الشريف ينشر الكلمات المستحبة    الصين تعارض إدراج تايوان في مشروع قانون مساعدات أقره الكونجرس الأمريكي    الكونجرس يقر مشروع قانون يحظر «تيك توك» بالولايات المتحدة    يقترب من بيراميدز.. تفاصيل رحيل محمد صبحي عن الزمالك    مصطفى الفقي: مصر ضلع مباشر قي القضية الفلسطينية    بعد وصفه بالزعيم الصغير .. من هم أحفاد عادل إمام؟ (تفاصيل)    رئيس البنك الأهلي: «الكيمياء مع اللاعبين السر وراء مغادرة حلمي طولان»    إصابة العروس ووفاة صديقتها.. زفة عروسين تتحول لجنازة في كفر الشيخ    خطر تحت أقدامنا    بقيادة عمرو سلامة.. المتحدة تطلق أكبر تجارب أداء لاكتشاف الوجوه الجديدة (تفاصيل)    نتائج مباريات ربع نهائي بطولة الجونة الدولية للاسكواش البلاتينية PSA 2024    فريد زهران: دعوة الرئيس للحوار الوطني ساهمت في حدوث انفراجة بالعمل السياسي    بالأسماء.. محافظ كفر الشيخ يصدر حركة تنقلات بين رؤساء القرى في بيلا    تعيين أحمد بدرة مساعدًا لرئيس حزب العدل لتنمية الصعيد    الأزهر يجري تعديلات في مواعيد امتحانات صفوف النقل بالمرحلة الثانوية    من أمام مكتب (UN) بالمعادي.. اعتقال 16 ناشطا طالبوا بحماية نساء فلسطين والسودان    تونس.. قرار بإطلاق اسم غزة على جامع بكل ولاية    ما حكم تحميل كتاب له حقوق ملكية من الانترنت بدون مقابل؟ الأزهر يجيب    ‏هل الطلاق الشفهي يقع.. أزهري يجيب    هل يجوز طلب الرقية الشرعية من الصالحين؟.. الإفتاء تحسم الجدل    رغم فوائدها.. تناول الخضروات يكون مضرا في هذه الحالات    أجمل مسجات تهنئة شم النسيم 2024 للاصدقاء والعائلة    تنخفض 360 جنيهًا بالصاغة.. أسعار الذهب في مصر اليوم الأربعاء 24 إبريل 2024    عاجل - درجات الحرارة ستصل ل 40..متنزلش من البيت    قد تشكل تهديدًا للبشرية.. اكتشاف بكتيريا جديدة على متن محطة الفضاء الدولية    طريقة عمل الجبنة القديمة في المنزل.. اعرفي سر الطعم    كم مرة يمكن إعادة استخدام زجاجة المياه البلاستيكية؟.. تساعد على نمو البكتيريا    شربنا قهوة مع بعض.. أحمد عبدالعزيز يستقبل صاحب واقعة عزاء شيرين سيف النصر في منزله    مع ارتفاع درجات الحرارة.. دعاء الحر للاستعاذة من جهنم (ردده الآن)    عاجل- هؤلاء ممنوعون من النزول..نصائح هامة لمواجهة موجة الحر الشديدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عن رواية التاريخ البديل
واسيني الأعر ج: الموسيقي تخترق نصي
نشر في أخبار الأدب يوم 27 - 11 - 2010

بين أزمنة وأماكن مختلفة يتحرك الروائي الجزائري واسيني الأعرج، من عصر الأمير عبد القادر بالجزائر في روايته "كتاب الأمير"، وحتي تاريخ الاستعمار الصهيوني لفلسطين في "سوناتا لأشباح القدس"، وحتي تاريخ طرد العرب من الأندلس في "البيت الأندلسي"، برغم هذا، يقول كثيراً أن روايته لا تحكي التاريخ كما هو مسجل. عن الارتباط بين الرواية والتاريخ ومحاولة خلق تاريخ بديل، عن الكتابة بالفرنسية وبالعربية لدي الروائي الجزائري، وعن المعمار الموسيقي للرواية كان لنا هذا الحوار مع واسيني الأعرج الذي زار مصر مؤخرا، للمشاركة في مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية:
نبدأ بسؤال اللغة، متي تكتب بالعربية ومتي تكتب بالفرنسية، هل ثمة أزمة هوية لغوية هنا؟ وكيف تقارن لغتك العربية بالفرنسية، خاصة أنك قلت من قبل أن تعلمك الكتابة لأول مرة كان بالفرنسية ثم تعلمت العربية في الكتاتيب والمدارس في وقت لاحق؟
علاقتي باللغة العربية علاقة عشقية وحميمية. ذهبت نحوها ولم تأتني، ولم آخذها بالوراثة، ولهذا فإن علاقتي بها مريحة، بها الكثير من الحرية وتعبت كثيرا من أجل تحصيلها. العلاقة مع العربية حسية ومعقدة. لا أشبه الآخرين الذين جاءتهم اللغة العربية عن طريق التوريث الطبيعي. لقد تعلمت الفرنسية في المدرسة وكانت هي لغة الكتابة والتفكير في لحظات التكوين الأولي. أعترف أنه إلي اليوم ما تزال في جملي العربية تراكيب باطنية تعود إلي اللغة الفرنسية، ولا أرفض ذلك عندما يكشفه لي بعض الأصدقاء من مزدوجي اللغة وأعتبره ثراء لغوياً وتنويعاً إضافياً. مثل الكثير من أبناء جيلي، اخترت اللغة العربية كلغة ثانية حباً في جدتي التي كانت تريدني قريباً من تاريخ أجدادها الأندلسيين وهذا مع فعلته، لأنه بدون لغة عربية، كما كانت تتصور، لا يمكنني التعمق في تاريخي. كانت جدتي تقول هذا بعفوية وطيبة. وأخذت كلامها مأخذ الجد لأنها كلما قصت علي قصة قالت هذه من أجدادك الأندلسيين. لهذا أعتبر جدتي معلمي الأول في القص والحكاية. تعلمت العربية في وقت لاحق، بدءا من المدرسة القرآنية وانتهاء بالمدرسة الرسمية بعد الاستقلال. وعلي الرغم من أن دراستي كانت بالفرنسية حتي القسم النهائي، فإن اللغة العربية كانت دائماً حاضرة، قبل أن أتخصص في الأدب في الجامعة، وأتعلم اللغة العربية أكثر واقطع علاقتي مرحلياً باللغة الفرنسية. ذهبت بعيداً في حبي للعربية، فتعلمت في دمشق، وتحصلت علي الماجستير والدكتوراه بهذه اللغة. الفرنسية كانت دائماً حاضرة وصامتة فيّ. لم أكن أستعملها إلا في الأبحاث أو في الندوات الدولية حينما أدعي للمحاضرة وتكون ترجمة اللغة العربية غير مضمونة. لكن الأمر تطور أكثر لاحقاً، بحيث أصبحت اللغة الفرنسية ضرورة ثقافية متعلقة بمشكلة التعبير. فقد تعرضت روايتي "سيدة المقام" في فترة العشرية السوداء لنوع من المصادرة. منع نشرها في الجزائر، ثم في بيروت لاحقاً وبقي النص معلقا حتي طبعته دار الجمل التي كان مقرها في كولون بألمانيا. من تلك اللحظة بدأت أفكر في العودة إلي اللغة الفرنسية لتفادي المنع والتعبير عما كان يحرقني داخليا. فكتبت في سنة 1996 روايتي "حارسة الظلال" بالفرنسية ولم تظهر باللغة العربية إلا بعد عشر سنوات باللغة العربية. ثم كتبت في سنة 1999 "مرايا الضرير" التي لم تطبع حتي اليوم باللغة العربية وأثارت جدلاً طيباً، طبعت في باريس لكن الطبعة الجزائرية صودرت بعد طباعتها. ولكن الطبعة الفرنسية تباع في الجزائر بدون إشكال. في سنة 2005 صدرت رواية "مضيق المعطوبين" التي لم تطبع إلي اليوم باللغة العربية أيضاً. الكتابة باللغة الفرنسية جاءت في لحظة من اللحظات كحاجة ماسة. أشهد أن اللغة الفرنسية أنقذتني في فترة من الفترات من اليأس والصمت. طرائق الكتابة تختلف بالطبع من لغة إلي لغة. العربية تتحمل الصورة والغنائية والتفصيل، وحتي الشعرية، بينما اللغة الفرنسية لا تتحمل هذه التفاصيل، طبيعتها اقتصادية جدا واختزالية. ديكارتية اللغة الفرنسية عقلنتها، ولكنها أضعفتها أيضاً من الناحية الأدبية. هذا ما يقوله الفرنسيون أنفسهم. بالنسبة لي أجدني مرتاحاً بين لغتين، لغة القلب والداخل والتفصيل، ولغة العقل والصرامة. أحيانا يقع نوع من التناص اللغوي والتداخل بين اللغتين، في غفلة مني، في بعض الجمل، ولا أنتبه للأمر إلا عندما ينبهني أصدقاء قراء إلي ذلك. وهذه ظاهرة نجدها في أغلب الكتابات المغاربية باللغة الفرنسية ويسميها النقاد الفرنسيون اللمسة المغاربية التي تضفي شيئاً علي اللغة الفرنسية. أسميها اللغة الصامتة التي تخترق النص الذي أكتبه سواء بالعربية أو بالفرنسية.
تؤكد كثيرا أن التاريخ ليس هاجسك، هل تقصد التاريخ الرسمي أم التاريخ بشكله أعم، وهل يمكن للروائي ألا يكون مسكونا بالتاريخ كتفاصيل، بالأخص وهو يكتب رواية تحمل اسم الرواية التاريخية وتتقاطع بالضرورة مع جنس آخر هو فن الرواية؟ ما هي تجربتك في هذا السياق وصعوباتها الحرفية من حيث التوليف بين المادة التاريخية والفن الروائي؟
عندما نختار كتابة الرواية التاريخية علينا أن نتعامل بقدر كبير من الحيطة والذكاء مع سلطة أخري، قاهرة أحيانا وضاغطة بعنف، هي سلطة التاريخ، التي تخترق بيقينياتها جنساً فنياً حراً اسمه الرواية. يحتاج الأمر بالتأكيد إلي مراس حقيقي وربما إلي خبرة في القراءة والتوليف أيضاً. لأن لعبة الرواية التاريخية لا تتوقف عند حدود التاريخ ولكنها تذهب إلي أبعد من ذلك، أي استثمار المادة التاريخية في نص روائي يجب أن تتوفر فيه خصائص الحكي وقوة المخيال. ممارساتي في هذا السياق قديمة نسبياً، قبل رواية "كتاب الأمير" التي لاقت اهتماما عربيا ودوليا كبيرين. جربت هذا النوع قبل فترة طويلة حيث ظلت المادة التاريخية جزءا مهما من البنية الروائية، وعندما كتبت رواية "ما تبقي من سيرة لخضر حمروش" كان في رأسي سؤال أكبر من طموحاتي ومن إمكاناتي المعرفية وقتها. يتعلق السؤال تحديداً باستعادة التاريخ الوطني الجزائري وإعادة قراءته في زواياه الأكثر تخفياً. لم يكن يهمني التاريخ الرسمي إلا من حيث هو مادة متداولة بين عدد كبير من المواطنين ومتاحة للجميع. كنت داخل سؤال مقلق لا يعبر عنه إلا قلق الرواية: لماذا لم تؤد الثورة الوطنية، علي الرغم من ضخامة التضحيات، إلي ما كان يفترض أن تؤدي إليه؟ شيء ما لم يكن علي ما يرام في حالة الوعي الذاتي للثورة الوطنية. وكان لابد من البحث في التاريخ الجانبي الذي كتبه الصديق والعدو معاً لإيجاد اللحظة الروائية التي أدت إلي الانفجارات المتلاحقة وعصفت فيما بعد بإيجابيات الثورة. وجدت أن خطابنا التاريخي الذي قال الكثير عن الغطرسة الاستعمارية، صمت أو لم يقل شيئا عما كان يحدث داخل الثورة، وكأن ما كان يحدث داخلها لا ينتمي إلي التاريخ و لا إلي الثورة. لماذا اغتيل القائد الكبير عبان رمضان الذي نعته الثورة في جريدة المجاهد في 1958 في مربع مجلل بالسواد تحت عنوان "عبان رمضان يسقط في ميدان الشرف". لم يعترف أحد باغتياله إلا في السنوات الأخيرة. عندما كنت أكتب عن هذا الرجل وأستعيد الصراعات الداخلية العميقة، بدا لي وقتها كأني كنت أقول ما يناهض التاريخ وأن الرواية كجنس وجدت للاعتداء علي حرمة المقدس والمسلم به. وصودر النص الذي طبع في بيروت ودمشق بعدم إدخاله إلي الجزائر. بعد أكثر من عشرين سنة من صدور الرواية، جاء في اعترافات الرئيس الأسبق أحمد بن بلا لقناة الجزيرة ما يؤكد ما افترضته الرواية حقيقتها، وهو ضلوع بعض قادة الثورة في اغتيال عبان رمضان، وبرر بن بلا هذا بضرورة الحفاظ علي وحدة الثورة التي كانت تتهددها تصريحات عبان رمضان الذي طالب بصرامة بضرورة فصل القيادة العسكرية من حيث المسؤوليات عن المؤسسة السياسية المدنية. وهكذا أصبحت حقيقة الرواية القائمة علي النظرة النقدية للأشياء أكثر صدقاً وأقل ادعاء بالارتباط بالحقيقة التاريخية المطلقة. من هنا يبدو لي أن الكتابة عن التاريخ لا تفترض بالضرورة تمجيد الماضي ووضعه في علبة المقدس، وإنما العمل الهادئ عليه وقراءته من أجل فهم المفاصل التاريخية المهمة التي يمكن للرواية الاستناد عليها. الرواية عندما تقف عند حدود التاريخ مقلدة لوقائعه، تفقد صفتين، صفة الرواية لأنها تحاول أن تضاهي التاريخ عبثا، وتفقد صفة التاريخ لأنها تنشأ جوهرياً داخل نظام المتخيل. وعندما خرجت من تاريخ الجزائر نحو التاريخ العربي في شكله الأكثر تراجيدية وملحمية، كان السؤال التاريخي يتقاطع عميقا مع سؤال البنية الروائية العربية التي كانت تبحث عن مسوغاتها وهويتها وخصوصيتها من خلال الأسئلة الخجولة التي صاغتها الرواية العربية. في رواية "الليلة السابعة بعد الألف" كان شغلي الشاغل، موضوعا مهما وسؤالاً مبهماً له تماسات عديدة مع التاريخ أكثر مما له علاقة ظاهرة ومباشرة بالرواية كممارسة قصصية. سؤال يطرحه أي عربي أو مسلم علي نفسه: لماذا منذ أن سقطت حضارتنا لم نرفع رؤوسنا، و كلما حاولنا فعل شيء وجدنا أنفسنا نغوص عميقا في الأوحال و اللاجدوي؟ لم أفعل شيئا جديدا سوي أني أضفت إلي الليالي ست ليال أُخري لقول ما لم تقله شهرزاد. و ستكون هذه المرة أختها دنيازاد في صلب مدارات الحكي.
تقول إن الرواية وحدها القادرة علي كسر قداسة التاريخ الوهمية؟ في البيت الأندلسي، ومن خلال وثيقة غامضة، تقرأ التاريخ العثماني في الجزائر بشكل جديد، ليس كله جهل وظلام، كما أن فتح الأندلس لم يكن كله خيراً؟ أعدت قبل ذلك قراءة أبو زيد الهلالي في نوار اللوز، والأمير عبد القادر في كتاب الأمير، وعارضت ألف ليلة وليلة، في الليلة السابعة بعد الألف، كيف تقوم روايتك بإعادة صياغة التاريخ من جديد؟
في رواية "البيت الأندلسي" تعاملت مع التاريخ بحرية كبيرة لأن الأمر يتعلق بسياق عام يستطيع فيه الروائي أن يتحرك بحرية أكبر علي العكس من تناول شخصية كشخصية الأمير، فتجد نفسك محكوما بتفاصيل لا تستطيع الاجتهاد إلا علي هوامشها. وهو أمر طبيعي، لأننا نستطيع أن نتحرك في مساحة قرون وملء البياضات بالقياس إلي تاريخ شخصية حقيقية. مع ذلك نستطيع حتي فيما يتعلق بالشخصية أن نحرك اليقينيات. فأنا ارفض الرؤية التقديسية للأشياء مهما كانت قيمة الشخصية لأن منطلقي الأساسي هو أننا نتعامل مع بشر، ثم أن الذين كتبوا التاريخ بشر أيضاً، وبالتالي يمكن أن نعيد تركيبه بالقراءات البديلة المؤسسة علي شيء ملموس وواضح. في صلب كل التواريخ البشرية لحظات مخبأة لم يقلها المدونون. تعمدوا ذلك أو خوفا من المؤسسة السياسية والدينية. في التاريخ العثماني لحظات من النور تحاول رواية "البيت الأندلسي" أن تقولها بالكثير من الحذر والنقد والتأمل أيضاً. لهذا أقول دائما إن الرواية التاريخية تحرر التاريخ من قدسيته وتمنحه مساحة كبيرة من الحرية. لأنها جنس الحرية أصلا ولا يمكنها أن تستقيم في ظل رقابة مميتة لها. ولهذا نجد أن الرواية كثيرا ما تهرب خارج أرضها، تهاجر مرغمة لتقول خطابها تحت سماوات أكثر إنسانية وأقل قمعاً. كل الروايات العالمية الناجحة هي تلك التي نشأت علي هدي رهان الحرية الكبير. مشكلتنا الكبري نحن العرب، هي أننا نقدس كل ما نلمسه عندما نحبه. كثيرا ما لامسنا التاريخ الأندلسي بنزعة ماضوية غريبة باكية علي ما مضي وناسية شرطية الحاضر التي جعلت اليوم من الأندلس بلداً ينتسب إلي إسبانيا. البكائية نفسها علي ما مضي دليل قاهر علي فشل ذريع في إنتاج المدينة الجديدة، مدينة القرن الحادي والعشرين. أشعر أحيانا كأننا عشنا في فقاعة من الفراغ علي مدار خمسة قرون تقريباً بدون أن نتوصل لفعل أي شيء. قد يكون للاستعمار دور، ولكن للورثة الجدد الذين حكموا بلداننا وأنفاسنا، الدور الحاسم لأنهم فشلوا حتي في الحفاظ علي مخلفات الاستعمار العمرانية والتنظيمية والإدارية. بالنسبة لي لا توجد بكائية في "البيت الأندلسي"، ولا رغبة لي في إعادة التاريخ إلي الوراء، العملية عبثية وغير مثمرة. دخل المسلمون أرضا غريبة عنهم، وبنوا عليها حضارة من أجمل الحضارات الإنسانية وأرقاها، يكفيهم هذا فخراً لأن هذه الحضارة ستغير العالم لاحقا وقد غيرته. لكن علينا أن نخرج من النوستالجية المريضة، فغرناطة وإشبيلية وطليلطة أصبحت حواضر إسبانية وتجب رؤيتها كذلك وإلا سنعيش في عالم مواز لا علاقة له بالواقع المعيش. صحيح أنني كلما رأيتها انتابني شيء غامض يتعلق بالتاريخ أكثر مما يتعلق بالحنين المرهق الذي نجده عند أغلب العرب تحديدا. أشعر أحيانا بألم ليس علي التاريخ والماضي، ولكن علي التراجيديا التي عاشها أجدادي الذين وجدوا أنفسهم فجأة خارج مدنهم وأحاسيسهم العميقة. فقد صنعنا تاريخاً ولم نصنع جنة كما يحلو لنا أن نكرر ذلك. أي أن أننا كنا بشراً مثلما هو الحال بالنسبة لكل تاريخ البشرية، وبالتالي علينا أن نقبل بإدراج النقد في تأملاتنا وكتاباتنا وهو ما يعطي المصداقية أكثر بالنسبة لقارئ غربي أو غير عربي يطلع علي نصوصنا الروائية. الخروج من دائرة التقديس جزء مهم من وظيفة الرواية التاريخية بشرط أن تبني ذلك كله علي القراءة الواعية والمضنية أحيانا لأن البحث عن البدائل التاريخية مسألة في غاية الأهمية والمسؤولية أيضا.
لنتحدث عن المخاوف من أنسنة التاريخ، ومن مزاج عربي يري في وصف الروائي لهنات القادة وسقطاتهم، تدنيسا للمقدس ومسا بالتاريخ؟
الخشية مشروعة طبعاً، لأننا مجتمعات محكومة باليقينيات والعواطف. التقديس مخاطرة كبيرة لأنه يفصلنا عن التاريخ بوصفه منجزاً إنسانياً مهماً تخترقه كل التناقضات من الأعظم إلي الأسوأ. ومثلما نري الأجمل علينا أن نربي أبصارنا علي رؤية الأسوأ الذي لا ينتقص مطلقا من التجربة ولكنه يجعلها أكثر إنسانية. فقد سلكت في كل كتاباتي الرؤية النقدية من هذا المنطلق وهو ما وضعني في منأي عن اليقين الوهمي. ولكن هناك وضع ينجم عن ذلك، كما ذكرت، إذ عليك أن تكون قويا لتحمل ردود الفعل الصعبة والقاسية أمام عقلية تعودت علي أن تقدس أو تدنس كل شيء تلمسه. انظر كيف تمت كتابة تاريخنا الاجتماعي والديني أيضا. لم يخرج أبدا عن هذين الملمسين. لم أجد صعوبات كبيرة في كتابة "البيت الأندلسي" نسبياً لأن الأمر يتعلق بحالة تاريخية عامة وغير متعلقة بشخص محدد، وحتي أغلب الشخصيات الحاملة للتاريخ هي شخصيات متخيلة. طبعاً الأمر لا ينجو من بعض ردود الفعل المتعلقة بموقف الرواية من دالي مامي الذي أراه في الرواية قرصانا ومجرما ويراه بعض المؤرخين حامي بحر الجزائر، أو سرفانتس الذي اعتبر شخصية متطرفة لمسيحيتها والجزائر بالنسبة له لم تكن أكثر من عش للقراصنة. ولكن سرفانتيس بقي في الجزائر خمس سنوات بين الناس. كيف فعلت السنوات فعلها في نظام تفكيره؟ لقد تغير جذرياً عندما كتب لاحقا روايته الشهيرة "دون كيشوت"، دافع بقوة عن الموريسكيين حتي أن مسؤول محاكم التفتيش المقدس اتهمه بتعامله مع المسلمين وأصبح عليه إثبات براءته. لا يمكن أن تعمي أبصارنا عن كل هذه التفاصيل. المشكلة الأكبر عانيتها مع "كتاب الأمير"، لأنني كنت أعلم مسبقاً أن هناك حرساً قديماً لا يري في الأمير إلا الصورة التي صنعها له. ولكنني لم أكن أعرف أن ردة الفعل ستأتي أيضا من جزء من عائلته، الأميرة بديعة بالأخص. صحيح أن رغبتي الأولي وأنا أكتب هذا النص، هي تدمير اليقين والإيقونة الوهمية، والدخول في الهشاشة التي هي واحدة من سمات الأمير عبد القادر. و الأمير الصوفي هو غير أمير الكتب المدرسية التقديسية، ذلك الرجل العظيم الذي لا يتعب. كنت في حاجة إلي أمير أعرفه، يشبهني ويساعدني في الإجابة عن بعض أسئلة العصر: العولمة وصدام الحضارات؟ وكلما سمع كلاما جميلا اهتز, وكلما سمع مقطوعة موسيقية أحس بعمقها الإنساني. النتيجة أنني اكتسبت بروايتي الآلاف من الأصدقاء، الذين أحبوا الأمير، الذي يشبههم جميعا، في ترددهم وخوفهم وشجاعتهم أيضاً، عندما تتوفر هذه الأخيرة، وكسبت الكثير من الأعداء أيضاً، الذين فقدوا أميراً ظل يسندهم في كذبهم. وضعت علي ظهري الكثير من الأعداء في المؤسسة الرسمية والأعداء السلاليين، مثل حفيدته الأميرة السيدة بديعة. الأمير الحقيقي لا يوجد إلا في خيالها مثلما يوجد في خيالي. رفضت الأميرة بديعة عنه صوفيته وحولته إلي رجل متزمت دينياً. كان من الصعب إقناع الأميرة بأن أميري وأميرها لا يتشابهان، بل كثيراً ما تعاديا وكثيراً ما تقاطعا مع فهمنا للحياة. أميري عندما انهزم، اعترف وتكلم وقال ما لم يقله المؤرخون عنه أبداً، وقبل أن يختبر هشاشته أمام قسوة زمن، لم يكن في النهاية في صالحه. وأميرها كان بطلا يشبه الإله قليلاً. لدرجة أنها رفضت أن يكون الأمير هو من كتب المواقف، واعتبرت أنه لم يكن صوفياً، ولم يستسلم. وخاضت حرباً فارغة وأساءت إلي الأمير بتحويله إلي صنم مغلق مثلما حولته المؤسسة السياسية طبعاً. أنا لم أفعل شيئاً خاصاً باستثناء قراءة زمن الأمير قراءة حية ودينامية لأنني في النهاية روائي ولست مؤرخاً. كانت الرواية وسيلتي الخاصة والكبيرة للإجابة عن فكرة حتمية الصراع الحضاري الذي تبناه صمويل هنتجتون في كتابه "صدام الحضارات". وأظهرت في الرواية أن الرجال العظام، بمعني الاستثنائيين تاريخياً، يستطيعون ليس فقط تغيير مجري التاريخ ولكن أيضاً إيجاد البدائل عن الحرب. أخذت شخصية الأمير في حواره مع مونسينيور ديبوش وهو أول قس جاء به الاستعمار للجزائر لتنصير البلاد، أو هكذا كان يبدو لهم في القرن التاسع عشر. ظروف الحرب تلاقي بينهما فتنشأ بينهما حوارات عظيمة أظهرت بما لا يدع مجالا للشكل أن للبشر مسالك أخري أجمل وأكثر إنسانية من عنف الحروب الظالمة. وبقدر ما لعب الأمير أدواراً مهمة في التعامل بشكل إنساني مع السجناء الذين رجاه مونسنيور ديبوش إطلاق سراحهم، لعب مونسينيور دورا كبيرا في إطلاق سراح الأمير نفسه من معتقله في أمبواز بفضل رسالته العظيمة الموجهة إلي نابليون الثالث.
بمناسبة تصوف الأمير، تحدثت في العديد من المرات عن مشروعك لكتابة الجزء الثاني من كتاب "مسالك الأمير"، أي عن المرحلة الصوفية من حياة عبد القادر، هل تحدثنا قليلا عنه؟
أتمني أن أجد القوة الكافية لكتابته، فهو جزء صعب ومعقد. منذ سنوات وأنا في صراع معه لأنه أغني ويتناول مرحلة أطول. لا أريد لهذا الجزء أن يتحول إلي جزء من مكتبتي الذهنية التي بدأت تتزاحم في داخلها النصوص الكثيرة والمتنوعة التي لم تكتب لها فرصة الإنجاز وظلت حبيسة ذهني. قطعت في المشروع شوطاً كبيراً، وانتهيت تقريباً من الأساس التاريخي الذي حتم عليّ جهوداً مضنية كثيرة وكبيرة. أسميته مؤقتا وأعتقد أني سأستقر علي هذا العنوان "شهوة المنتهي". أتناول فيه الجزء الأهم من حياة الأمير عبد القادر أي الفترة الصوفية بكل تحولاتها وانتسابه إليها وماذا كانت تعني له ولقاءه الروحي مع ابن عربي الذي طبع له كتابه الأساسي "الفتوحات المكية". كما أتناول فترة 1860 التي أنقذ فيها حوالي العشرين ألف مسيحي من موت مؤكد بسبب الحرب الأهلية القاسية في بلاد الشام. وكيف تدخل بقوة في الحرب الأهلية بأحصنته وبالمغاربة الذين خرجوا معه في الساحات العامة يمدون يد العون لإنقاذ المسيحيين. لقد كاد الأمير أن يقتل في هذه الحرب من جهته من المتطرفين ومن جهة ثانية من الأتراك الذين لم يكونوا ينظرون إليه نظرة متعاطفة. وجوده كان مزعجا لراحتهم. وكانوا وراء نبش قبره بعد وفاته، مما يبين الأحقاد الكبيرة التي كان يعاني منها. واشتغلت أيضاً علي موضوع إشكالي، وهو "ماسونية الأمير". هناك من يقول إن الأمير انتمي للماسونية التي كانت لها دلالات أخوية في ذلك الوقت، ولم تكن علي ما هي عليه اليوم. ثم أن رئيس محفل الشرق كان قريباً من نابليون الثالث الذي يقال إنه كان ماسونياً وصديقاً للأمير. ولكني باستثناء ما وجدته من إجابات علي أسئلة الانتساب لا توجد وثيقة تثبت بشكل حاسم أنه كان عضوا منتسبا. علي الرغم من أن الباحث الكبير برينو إيتيان يؤكد علي انتسابه. أدخلت في الرواية المسألة ضمن سجالية بها نفس تعقدات الوضع. المادة التاريخية موجودة وبناء رواية "شهوة المنتهي" بدأ. ولا أدري متي أنتهي من هذا النص الذي يشكل بالنسبة لي رهانا أدبياً كبيراً وحيوياً. وأكون بذلك قد كتبت نصاً روائياً حرر جزئياً شخصية تاريخية تم تعليبها حتي اختنقت وغابت عن النقاش. وبدون مبالغة، لقد أعادت الرواية شخصية الأمير عبد القادر إلي الواجهة. ما فعلته رواية في حياة الأمير لم تفعله كتب التاريخ الكثيرة. الرواية فتحت مساحات جديدة للنقاش بحرية حول شخصية الأمير عبد القادر. يهمني كثيراً هذا الموضوع وتهمني فكرة إغلاق رواية الأمير نهائيا، بالمعني الأدبي.
كيف يمكن للموسيقي أن تحاور رواية البيت الأندلسي، حدثنا عن مختبرك الموسيقي الروائي في هذه الرواية التي يتبدي فيها ذلك بشكل واضح؟
سؤالك مهم علي أكثر من صعيد، في الكتابة والنقد. في مرة من المرات في ندوة نقدية حول أعمالي، وكانت الندوة غارقة في الدراسات الشكلية والبنيوية وحتي السيميائية والتاريخية أيضاً، تدخلت وبينت عدم رضاي العميق. واستشهدت بكتاب الناقد الكبير تزفتان تودوروف: "الأدب في خطر"، الذي استعاد فيه فكرة تغييب القيمة الأدبية, فقلت أنني أري الموسيقي تيمة مهمة، بل الأهم، لأنها تخترق النص من أوله إلي آخره، ولكن ذلك يحتاج إلي ناقد له حاسة موسيقية وإلا فهو لا يستطيع الدخول في عمق الفكرة. ثم أضفت أنه في يوم من الأيام سأقوم بتأثيث مكتبة موسيقية لكل أعمالي، حيث لا يخلو نص من نصوصي الروائية من شيء ناعم يخترقه من بدايته إلي نهايته: الموسيقي. الموسيقي هي أهم ما يعطي للنص روحه وإنسانيته بشكل غير مباشر وربما غير معلن. كيف تفهم الجزء الخفي في رواية "شرفات بحر الشمال" إذا لم تفهم نداءاتها الداخلية المتأتية من مقطوعة موسيقي الليل الصغيرة، لموزارت؟ كيف تفهم "سيدة المقام" إذا لم تذهب نحو سيمفونية شهرزاد للموسيقي الكبير ريمسكي كورساكوف؟ كيف تفهم عمق رواية "سوناتا لأشباح القدس"، إذا لم تكلف نفسك سماع ومعرفة موسيقية لاترافياتا لجوسيبي فيردي؟ كلها علامات بها إحساس إنساني وعطر خاص. ينقص أدبنا شيء من الفضول العلمي وغلبت عليه الدلالات المباشرة. في الرواية عطر وموسيقي وحيوات خفية علي النقد اكتشافها والعمل عليها بقوة. من هنا، فتجربة الموسيقي ليست جديدة بالنسبة لي. الموسيقي تؤثث كل رواياتي. منذ البداية أدركت قيمتها البنيوية الكبيرة. هي التي تعطيها بعدها الدرامي والتراجيدي. في رواياتي الأولي "كوقائع من أوجاع رجل" أو ما تبقي من "سيرة لخضر حمروش" كانت الموسيقي الشعبية هي أساس البنية، ولكنها مع الوقت اخترقت المحلية لتصبح موسيقي عالمية. في "البيت الأندلسي" واجهتني مشكلة كبيرة. هناك معضلة كبيرة في تاريخنا في المغرب العربي والجزائر تحديداً. التوانسة يفتخرون بالفنان التونسي اليهودي الشيخ العفريت، والمغاربة بحاييم لوق، ونحن نخاف من الشيخ ريمون الذي تنتمي له أغلب جهود مدرسة المألوف القسنطيني الحالية. الموسيقي الأندلسية التي ننعم بها اليوم بمختلف مقاماتها ومدارسها هي الثمرة الطبيعية لرحلة الأندلسيين. الموريسكيون والمارانيون، أي مسلمو ويهود الأندلس، هم من جمع هذه الموسيقي ونظمها وحافظ عليها. يجب أن لا نخفي ذلك فقط لأننا في صراع مع إسرائيل ونسقط حاضراً مبتئساً علي ماض مشترك، إذ عاني المارانيون ما عانه الموريسكيون من ظلم محاكم التفتيش وهو ما وحَد آلامهم وأحزانهم. قلت إن التاريخ صيرورة وليس كتلة جامدة. الصهيونية شيء والشخصية اليهودية التي نبتت في عمق التربة المغاربية شيء آخر. قصدي أن الصراع الأكبر مع الصهيونية الدولية لا يمنعني من التعامل مع الظاهرة التاريخية خارج أحقاد اليوم. هناك مدارس أندلسية جزائرية كبيرة ومهمة جداً: مدرسة الحوزي في تلمسان، مدرسة الأندلس في الجزائر العاصمة، مدرسة المالوف في قسطنطية، وغيرها، كلها تبين إلي أي حد كان حضور الموسيقي مهما في حياة الأندلسيين المهجرين نحو بلدان المغرب العربي. الموسيقي في الرواية هي حالة وجدانية دائمة، تخترقها غنائية عميقة. نصوصي كلها مخترقة بالموسيقي وأحياناً تقوم عليها بقوة. "الليلة السابعة بعد الألف" بنيت علي مقام أندلسي قديم هو مقام رمل الماية، الذي يصعد بهدوء وينزل بعنف نحو التراجيديا. في "سيدة المقام" البطل الأساسي هو سيمفونية شهرزاد لريمسكي كورساكوف. في "شرفات بحر الشمال" موسيقي الليل لموزارت، وعزف كليمونس هو الذي يشكل الخلفية التراجيدية للنص الروائي ولغنائيته الحزينة. طبعا في "البيت الأندلسي" أتكلم عن الأندلس كما أفهمها وليس الجنة المفقودة. العناوين الفرعية وعناوين الفصول تختلف. العناوين الفرعية الصغيرة تحيل في مجملها إلي مقامات أندلسية بما في ذلك اسم سيكا الذي هو مقام موسيقيي أيضا واسم البطلة في الوقت نفسه، والتوشية، والاستخبار، والنوبة، والوصلة، والمقام وغيرها من العناصر الموسيقية المحيلة إلي الأندلس.
يبدو أنك في رواية كتاب الأمير تخليت عن جملتك الشعرية المجازية وكتبت جملة معلوماتية مباشرة في الكثير من الأحيان. حدثنا عن تجربتك مع اللغة، كيف يختار العمل لغته لديك، سواء في كتاب الأمير أم في غيره من الأعمال؟ وعلاقتك بالعامية في الحوارات أو في غيرها التي كثيرا ما نلمسها في الكثير من أعمالك الروائية.
تعرف جيداً أن اللغة مسألة في غاية الأهمية وليست فعلاً ثانوياً وعلينا العمل عليها بقوة لكي نخلق في اللغة ملامسنا حتي لا نسقط في التكرارية. الجهد اللغوي في الكتابة الروائية يحتاج إلي تراكم وعمل جبار وكبير في هذا السياق. لغتي التي قمت بنحتها من كتاباتي الأدبية هي جهدي الدائم. لا أريد لغة ميتة وشبيهة بغيري. العملية ليست بسيطة ولا سهلة أبداً. صحيح أن هناك لغة شعرية طاغية علي نصوصي انطلاقاً من كوني أحتاج إلي لغة قادرة علي حمل الهواجس في تعدديتها وفي نفسها التراجيدي، ولا شيء سوي اللغة الشعرية قادرة علي فعل ذلك بقوة. ولكن بالرغم من ذلك هناك لغة خاصة ينشؤها كل نص علي حدة. الموضوع والنوع يفرضان لغة خاصة. النص الاجتماعي المأساوي ليس هو النص العاطفي، وليس هو النص التاريخي. ولهذا ف"كتاب الأمير" من الناحية اللغوية يجب وضعه في سياقه الكتابي والنوع الذي ينتمي له. الرواية يغلب عليها الطابع الوصفي، إذن فأنت أمام لغة باردة جداً. لغة تقول ما تراه مثل الكاميرا. هناك مستوي آخر تتصاعد فيه اللغة بقوة أكثر، عندما يدخل الأمير في لحظات المناجاة الداخلية العميقة والحزينة، فتصبح هشة وشعرية جداً. عندما يتحدث إلي أمه أو إلي خلفائه أو إلي النساء الفرنسيات اللواتي كن يزرنه في سجنه، تتحول وتتغير المستويات اللغوية. لكن يظل "كتاب الأمير" رواية تاريخية، أي أن العنصر الغالب هو العنصر المضاهي للحقيقة الموضوعية. لغة "سوناتا أشباح القدس" تختلف جذريا عن "كتاب الأمير". الموضوع تاريخي يتعلق بقضية فلسطين ولكن القصة التاريخية متخيلة وبالتالي فنسبة الحرية كبيرة، تتشبع اللغة أيضاً بهذا السقف المعطي للحرية فتختار مسلك الشعر والحالات الداخلية العميقة مما يجعلها متمادية وتعيش في حالة فيض كبير ولا يوجد ما يمنع قوة توالدها الداخلي. أحتاج في هذه الحالة إلي اللغة التي تمس الروح. ولكني في الوقت نفسه أنا ضد اللغة الشعرية الفضفاضة التي لا تقول أي شيء مهم وتغرق في دوائر الخطابة والغنائية الفجة التي لا تضيف أية قوة درامية للرواية. لدي وعي مسبق بقضية اللغة ولكن للنص حريته الداخلية التي تنشأ من فعل تشابك آلياته الكتابية والإبداعية. الاستناد إلي اللغة العامية لا يخرج أبداً عن هذا الوعي بالوظيفة اللغوية وضرورة الاشتغال عليها. العامية ليست كائنا يقع خارج اللغة العربية، أي لغة الكتابة. فهي مستوي من المستويات اللغوية. تعرف جيدا أنه في بعض الأحيان تعجز اللغة العربية المتداولة عن تأدية الوظيفة بدون خسران جزء من اللغة. ولهذا يتم استدعاء المستندات اللغوية الأخري، منها اللهجة العامية وغيرها، إذ يحدث معي أن استعمل الفرنسية والإسبانية ولو بشكل محدود. في الحوارات تأتي اللغة وسيلة موضوعية تفتح للغة مستوي تعبيرياً جديداً أقرب منه إلي الحياة. حتي في العمل الوصفي يتم خلق مستوي جديد يمزج بين العامية والفصحي فتتنازل الفصحي عن نظامها الصارم وترتفع العامية إلي مستوي لغوي ونحوي يخضع للقواعد اللغوية لترتيب المعني مثلما فعلت في رواية نوار اللوز. العمل كله يستند علي شغل كبير وليس أمراً سهلاً أبداً حتي في الحالات الاستعمالية للدارجة. قصدي التوجه نحو العامية ليس من أجل السهولة لأن الاستعمالات تقتضي عملا مسبقاً كبيراً لجعلها غير نافرة بالنسبة لبنية النص العامة. أنا أشتغل في النهاية علي مجموعة من المستويات اللغوية لأني داخل سياق محلي وعربي، وأريد أن يفهمني القارئ العربي والجزائري معاً، وأن أكون قريباً منه وأن لا أتحول إلي كاتب أجنبي بالنسبة لأقرب الناس إليّ من الناحية اللغوية والتاريخية. أقصد أن استعمال العامية يجب أن لا يقتل جزءاً حيوياً في النص. الأمور ليست سهلة أبداً ولكنها قاسية ومضنية لأنها مستويات متعددة للغة تقتضي تنظيماً كبيراً لا يشظي النص الروائي لغوياً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.