لم أكن من هواة مشاهدة مباريات كرة القدم علي الإطلاق، فظروف حياتي الصعبة صرفتني عن أي هواية، حيث أذهب إلي العمل صباحاً وبعد الظهر ايضاً.. كانت الساعة تقترب من الرابعة عصراً عندما دخلت إلي المنزل قادماً من العمل.. لم أكد أخطو داخل المنزل حتي فوجئت بصياح زوجتي.. فتحي.. جبت عيش معاك ولالأ..؟ - أخ.. ماعلهش نسيت.. - نسيت إزاي بس.. ما أنا قلت لك الصبح وأنت نازل.. هنعمل بايه بقه.. والولاد هاياكلوا إيه؟. - خلاص.. خلاص ياستي.. بلاش دوشة.. هتنيل وأنزل أجيب العيش.. ناوليني شنطة.. - تسلملي ياحبيبي.. ما أحنا مالناش غيرك.. أصفع الباب ورائي بشدة.. يكاد الزجاج أن يتحطم.. أنطلق مسرعا إلي الفرن. اللعنة علي الزواج والعيال وكل حاجة.. كنت عايز أنام شوية.. قبل مانزل الشغل التاني.. حاجة تقرف.. أنا عارف إيه إليّ رماني علي الجواز ومشاكله دي.. ياه.. أنا بحلم ولا أيه.. الفرن فاضي.. مش معقول.. الطابور.. واقف فيه اثنين بس.. لا.. لا..أفرك عيناي.. مش مصدق.. إيه الحلاوة دي.. هجيب العيش بسرعة، وأرجع أنام ساعتين قبل مانزل الشغل.. يامسهل.. إنما غريبة أوي الحكاية دي.. الناس راحت فين.. عزلوا من المنطقة ولا إيه.. ده أنا ولامرة شفت طابور الفن أقل من 50 واحد.. يمكن أكون بحلم ولاشايف سراب.. وقفت في الطابور الصغير.. أمامي رجل كهل وأمامه طفل صغير.. بهدوء هززت كتف الرجل الكهل أمامي.. - إيه الحكاية ياوالدي.. مفيش ناس واقفة في الفرن ليه..خير .. إيه إيلي حصل.. نظر الرجل الكهل لي من فوق كتفه وعلي وجهه علامات السخرية.. - أنت مش من البلد دي ولا إيه ياجدع إنت؟! - ليسه بس يابا.. إيه الحكاية.. - الحكاية شكللك بتستهبل.. ماتعرفش أن الناس كلها بتتفرج علي ماتش المنتخب؟؟ - ماتش..ياسلام.. أنصرف الطفل الصغير بعد أن أخذ الخبز، ودخل الكهل وراءه وأخذ الخبز وانصرف وهو يرمقني بنظرة استهزاء.. وقفت أمام شباك البيع بمفردي.. أنتظر أن يأتي البائع بالخبز.. أتلفت حولي.. الشارع يكاد يخلو من المارة ومن السيارات.. حاجة غريبة قوي.. الشارع ده بيبقي علي بعضه في الوقت ده.. الدنيا هتقف علشان الكورة.. اما ناس هايفه صحيح.. يالا أحسن.. عشان أخلص بسرعة.. إيه الحكاية.. الراجل ده دخل يجيب العيش من جوه ومارجعش لحد دلوقتي ليه..؟ - إنت ياجدع إنت.. يابتاع الفرن.. يالا خلصنا بقه.. مفيش حد غيري.. هات العيش خليني أمشي.. وبعدين بقه.. ماحدش بيرد عليا ليه..ايه هما ناموا ولا إيه.. أدق بيدي علي الشباك.. أزعق.. أنادي.. لا أحد يجيب.. تجرأت.. أزحت الباب بقوة.. دخلت إلي الفرن.. تسمرت قدماي.. العمال جميعا يجلسون أمام التليفزيون.. يشاهدون الماتش.. لايحسون بوجودي.. عيونهم جاحظة.. أفواههم مفتوحة.. لايشعرون بشيء.. كأنهم في دنيا أخري.. وقفت برهة.. لا أدري ماذا أفعل.. إيه اليوم إيلي مش فايت ده.. أصابني الغيظ الشديد.. لم أقو علي الصمت.. انطلق صوتي يصيح فيهم بقوة وعنف.. - أنتم معندكوش. ده.. سايبني ملطوع بقالي ربع ساعة مستني العيش وأنت قاعدين تتهببوا تتفرجوا علي الزفت ده.. مش حرام عليكم.. أنتم إيه.. العمال يبحلقون.. ينظرون لي بغيظ شديد. بدأت أنتبه لما أقول.. أنظر لهم.. التفوا حولي كالسوار بالمعصم.. احدهم يجري إلي الباب مسرعاً.. يغلقه من الداخل بالمفتاح.. فيه إيه ياجماعة.. ماعلهش.. أصل أنا أتنرفزت شويه.. حقكم عليا.. اتراجع إلي الوراء.. يتحركون معي.. أنا غلطان واسف.. طب مش عايز عيش خلاص.. أحدهم ينظر لي.. يفتح فمه.. يتطاير الكلام منه يسبقه سيل من الرذاذ الذي يبلل وجهي.. - أحنا ماعندناش دم ياحمار.. - لا أنا ايلي ماعنديش دم.. ماتزعلش يامعلم.. راسك أبوسها.. - علموه الأدب يارجالة.. العمال يقتربون مني.. المعلم يهذب إلي التليفزيون.. يضغط مفتاح الصوت.. صوت المذيع يرتفع بشدة.. الأيدي والأرجل تنهال عليا من كل جهة. لا أستطيع تمييز مكان الضرب.. أصرخ... أصيح.. الحقوني.. أدور حول نفسي.. أحس أني أسقط في بئر سحيق.. أضواء كثيرة تلمع..المذيع يصيح.. فاول.. فاول.. دول عجنوه.. لا أشعر بشيء.. الأضواء تنطفيء.. الأصوات تغيب..