في عوالم الشعر، هناك شعراء يأخذونك بنصوصهم، إلي حدائق المتعة وبساتينها، تاركينك متجولًا بين شتي أنواعها، وهناك آخرون تضعك كتاباتهم علي مقصلة الآلام والأوجاع، شاعرًا، وأنت تقرأ نصوصهم، بمعاناتهم، أو المعاناة التي يصورونها، وبعذابهم الذي لا ينتهي. من هنا ندرك أن الشعر معاناة كبري وجحيم، في أكثره، لا جنة. وديوان »عشب مكسور من وسطه» الصادر حديثًا ضمن سلسلة »إبداع عربي» عن الهيئة العامة للكتاب، للشاعر السوري المقيم في ألمانيا عارف حمزة، أحد هذه الدواوين التي تحمل نصوصها وجعًا، أو قُل إنها كُتبت به، تشعر به الذات الشاعرة وتُصدّره لكل من يتلقي هذه النصوص.في نصوص كثيرة هنا يرسم عارف حمزة صورة مؤلمة للحرب السورية، ومدي تأثيرها المفجع علي المواطن السوري، وتحويله من إنسان عادي يعيش علي أرضه في سلام وسكينة، إلي إنسان يقاسي ويلات الحرب ويُشرد عن أهله ويُنفي عن وطنه، وتُلقي به أرض إلي أخري: »البيوت أيضًا ماتت بسبب القصف لذلك ذهبنا ودفنّاها قبل أن تبدأ هي أيضًا بالتفسخ إذا مات البحر ماذا نفعل؟ كنا نسأل بعضنا ونحن نقضي حياتنا خلف الجنازات». »أطفال سوريون يلعبون علي شاطئ هذا البحر كلهم من مدن أطلت فجأة علي بحر من الدماء». »نجونا من القصف وصارت حياتنا أبعد من أن نستعيدها كانوا مثل نباتات منزلية وكنا مثل حشائش في العراء الحياة فقط كانت تفصل بيننا». من يخاطب؟ لكن تُري من يخاطب عارف حمزة في نصه هذا: »كنت أحب أن تكون الحياة طويلة مثل التفاتتك إليّ» ؟ هل يخاطب محبوبته، أم بلدته التي رأي الحرب وهي تمزقها أشلاءً، فغادرها كمواطن سوري مغلوب علي أمره؟ أم هو يخاطب قصيدته التي خلدت هذه الأحداث بكل ما تحمله من مرارات وفظائع؟ حمزة يلخص حياة المواطن السوري، بعد اندلاع الحرب، حين يقول: »أنا وحيد الآن لم يعد لديّ بلد جارتي أصبحت وحيدة لم يعد لديها كلب». هنا يقارن حمزة، ساخرًا، بين حياة الرفاهية وبين معايشة الحرب بما تخلّفه من دمار علي الأرض وآثار نفسية في أرواح البشر.غير أن قمة المرارة تتجلي في هذا المشهد الذي يُري أن المواطن السوري حين سيعود إلي بلده سيشعر بأنه لاجيء، وليس مواطنًا كما كان من قبل، لأن حال البلد تغيّر ولم يعد مثلما كان في الماضي القريب: »لن أعود لبلدي مواطنًا سوريًّا إذا انتهت الحرب لا كرديًّا ولا عربيًّا سأعود إليه لاجئًا». عارف حمزة لا يكتفي بهذا، بل يصور قسوة الحياة عليه، وعلي من يعيشون نفس ظروفه قائلًا: »يبدو أن الحياة لديها أعمال أكثر أهمية من حياتنا». سخرية كذلك يسخر حمزة من الجميع الذين فقط يقومون بدور المتفرج علي ما يحدث دون أن يحركوا ساكنًا، وهم عاجزون عن صنع أي شيء ينقذ غيرهم مما هم فيه من أزمات: »الطفلة التي ماتت من البرد ماذا وضعوا في قبرها كي لا تشعر بالبرد؟». كما يصور الواقع وقد اكتسي بالسواد من جراء ما يحدث: »لا نحتار في ثيابنا فكلها صارت سوداء». كما يصور الحياة في المنفي وما بها من برد وبرود يسيطران عليها، إذ لا يشعر أحد بأحد، وحيث لا يعرف هو أحدًا ولا يعرفه أحد، درجة أنه كان يتمني أن لو ولد هناك، وليس هنا: »ليتني لمْ أولد في هذا العالم ليتني ولدت مباشرة في العالم الآخر». وهكذا أخذنا عارف حمزة في رحلة مؤلمة، وضعنا فيها تحت الأنقاض حينًا، وحينًا علي شاطيء البحر، خارج الوطن، وخلف الأسلاك الشائكة، أسفل القذائف وتحت القصف.رحلة حدثنا فيها عن الحرب والألم والمنفي واللجوء إلي الآخر، عبر قصائد تمتاز ببساطة اللغة وقسوة المعني، غير آبهة بالزخارف الجمالية المبالغ فيها، ناقلةً إلي المتلقي المرارة التي تحس بها وتعايشها الذات الشاعرة: »متي يأتي عُمّالك ويرفعون عني هذه الأنقاض؟».