(((... تدمع عين الأب وهو يترك فراشه ماضيًا إلي حجرة ابنه.. يلقي نظرة طويلة علي جمال وهو يحتضن الوسادة كعادته منذ كان طفلًا.. تتفرسه نظرات الأب بعينين مرتجفتين.. ويغوص قلبه فهي الليلة الأخيرة لجمال في هذا البيت.. بعدها سيكون إلي جوار عروسه مشغولا بها وبأخبار الحمل والولادة.. أما صادق أفندي فقد صار مكتوبًا عليه أن يحيا بقية عمره وحيدًا..!))) لابد أن حدثا مهما سوف يشهده الحي العتيق الذي يسكنه صادق أفندي منذ نصف قرن من الزمان..!! الشارع الكبير يكاد يظهر وقد غطته عناقيد المصابيح الملونة من كل جانب وارتفعت فوق شرفاته الرايات وقسمته أقواس النصر إلي أجزاء شبه متساوية.. عمال الفراشة يتقاطرون وهم يحملون المقاعد المذهبة والموائد والمفارش بينما يحمل أربعة منهم »الكوشة» الخشبية التي سيجلس عليها العروسان بعد اتمام زينتها.. وبين حين وآخر تنشق الأرض عن إحدي فرق الموسيقي الشعبية التي تتمسح في التاريخ والتراث وتنتحل اسم فرقة محمد علي حتي الآن.. يفعلونها دون حرج واثقين أن أحدا لن يحاسبهم.. فلا هم فرقة بالمعني المعروف.. ولا هم يرتبطون بصلة من قريب أو بعيد بشارع محمد علي.. كل أدواتهم هي الطبل والمزمار البلدي.. وكل هدفهم هو النقوط.. لا أحد يدعوهم ولا غازية تصحبهم.. لكنهم يتحركون طوال النهار والليل علي خريطة اللمبات الكهربائية والأعلام ودوي الزغاريد بحثا عن رزق مكتوب لهم في السماء!.. لكن فرحة صادق أفندي كانت تلهيه عن كل الاعتبارات فيندفع بالبقشيش يدفعه في إيديهم دفعا سواء كانوا من عمال الفراشة أو أعضاء الفرق الموسيقية أو حتي صبية الشارع.. بعض الناس قالوا إن صادق أفندي فقد عقله.. وبعض الأهالي بكوا علي فرحة الرجل الذي لم يفرح من قبل قط.. والبعض الثالث حاول أن يسانده ويعاونه ويخفف عنه أعباء مثل هذه المناسبات!.. أما صادق أفندي نفسه فقد احتاروا في تفسير دموعه.. فهو يجري فرحا هنا وهناك ودموعه تنساب فوق خديه بلا انقطاع.. يبدو حديثه في غير تركيز.. ونظراته شاردة هنا وهناك.. لكن الكل أجمعوا علي أن الرجل معذور فهو يزف ابنه الوحيد الذي خرج به من الدنيا.. ليلة عمره.. وفي ليالي العمر ترق المشاعر وتصفو الأحاسيس وتلمع العيون وتتسع القلوب للحب وترتبك الكلمات فوق اللسان. • لم ينم صادق أفندي وكأنه أراد أن يختصر من الزمان ليلة.. كان يهفو إلي لحظة الفرح الكبير.. تبحث عيناه عن الشكل الأسطوري الذي عاش عمره من أجله.. جمال ابنه الوحيد في كوشة الزفاف ببدلته الأنيقة التي اشتراها له أبوه من مكافأة نهاية الخدمة التي خصصها لزواج جمال.. ومرة أخري تدمع عين الأب وهو يترك فراشه ماضيا إلي حجرة ابنه.. يلقي نظرة طويلة علي جمال وهو يحتضن الوسادة كعادته منذ كان طفلا.. تتفرسه نظرات الأب بعينين مرتجفتين.. ويغوص قلبه فهي الليلة الأخيرة لجمال في هذا البيت.. بعدها سيكون إلي جوار عروسه مشغولا بها وبأخبار الحمل والولادة.. أما صادق أفندي فقد صار مكتوبا عليه أن يحيا بقية عمره وحيدا لا ترويه إلا تلك اللحظات التي سيسرقها ابنه من وقته لزيارة أبيه.. أو يحادثه هاتفيا.. ويغمغم صادق أفندق بصوت يكاد لا يسمعه أحد: بقي أنت كده يا دنيا؟! الواد الحيلة يروح مني وأنا بعمله فرح وصوان واخلي الحتة كلها سهرانة فرحانة بيه.. طب وأنا؟!.. أروح فين.. ومين يطل عليّ زي ما كان جمال بيعمل.. مين يسهر معايا لحد ما أنام ويكون أول حاجة تشوفها عيني مع نور الصباح؟!.. ولا حد حاسس بيك يا صادق.. الله يرحمك يا شريكة عمري!». تدفقت دموع صادق أفندي عندما تذكر زوجته التي رحلت عنه دون مقدمات فكأن الدنيا انتزعت قلبه من جسده.. كانت تتمني لو شاركته فرحة هذه الليلة.. كثيرا ما جلسا معا يرسمان تفاصيل »فرح جمال».. أما الآن فقد زادت البلة طينا وبات صادق أفندي وحده.. وحيدا! كان صادق أفندي محبوبا من كل أهل الحي.. وكانت ليلة ابنه من لياليهم التاريخية.. وطال الوقت الذي مضي كما لو كان يركب صاروخا كعادة كل الأوقات الحلوة.. وقام جمال وعروسه من الكوشة واستعدا للزفة التي ستتجه بالعروسين إلي عشهما.. وانطلق صادق أفندي يرقص كالمجنون أمام العروسين وشباب الحي حوله يصفقون ويغنون.. فجأة يسقط عم صادق مغشيا عليه.. يحاولون إفاقته دون جدوي فيسرعون به للمستشفي لكن الرجل الطيب يفارق الحياة وسط دهشة وذهول وحزن وصدمة الجميع !! يقول صاحب الرسالة: هذه قصة جاري الذي أبكانا جميعا في عز فرحتنا معه فأرجو من كل إنسان ألا يتعشم في الدنيا أكثر مما يجب ! عاشور الزاوية الحمراء