صدر مؤخراً عن دار العين بالقاهرة 2018 رواية (وأطوف عاريا) للروائي العربي القدير طارق الطيب صاحب الأصول المصرية السودانية المهاجر إلي النمسا. وهي الرواية الأحدث التي تنتمي لمشروعه السردي الذي يتسم بقدر كبير من الخصوصية، لأن الروايات كلها تمثل حالاً واحدة بتنوعاتها ومفرداتها وكأنها تتخصص في مجال أو تعبر عن حالة يكتشف فيها هو عبر تنقيبه وبحثه السردي أبعاداً جديدة كامنة أو غائرة في تجربة الإنسان المهاجر أو الذي يعيش علي تخوم حضارتين. رواياته التي اطلعت عليها وهي في المدة من 2015 تقريبا حتي 2018 هي (بيت النخيل) و(مدن بلا نخيل) و(الرحلة 799 المتجهة إلي فيينا) و(وأطوف عارياً)، كلها تشكل مشروعاً متسقاً أو تنويعات علي حال الهجرة والسمات النفسية للإنسان المهاجر في ظل اللحظة الراهنة. والرواية الأحدث هي محل البحث هنا، كل هذه الروايات علي قدر من الاتصال الذي يجعل منها مشروعاً سردياً متسقاً أو ينحت في مسار خاص ويشكل جدارية كبيرة تمثل كل رواية واحدة من جوانبها. الروايات كلها تكشف عن حال من التأزم الإنساني النابع من التوزع بين مجتمعين أو الانقسام بين وطن الجذور والأصول والنشأة ووطن المهجر بتشتته وقلقه وتوزعات الذات الإنسانية والتفاتاتها الدائمة إلي الوراء ومقارناتها الاضطرارية أو الجبرية التي تهيمن علي العقل والروح في المقام الأول قبل أن تنعكس في الكتابة أو حتي تتجلي في مجرد الذكريات. روايات طارق الطيب بشكل عام علي قدر عال من الثراء والتنوع، ولها مقومات جمالية عدة، لعل أبرزها توظيف الأحلام والطابع الرمزي والمفارقات المشهدية والتحول من مكان إلي آخر بقدر من السلاسة والاستدعاء المنطقي، وكذلك اللغة الشعرية ذات التفاوت والتنوع الإيقاعي الذي يكسب السرد طاقات تشويقية ويتجاوز الرتابة والملل أو الثبات علي رتم واحد. الأحلام في سرد طارق الطيب وكذلك الأمر في روايته الجديدة (وأطوف عارياً) تمثل نسقا بنائيا له وظيفته وقيمته المهمة، فعبر الأحلام يجد البطل لنفسه مهربا من جليد الغربة وآلامها، تمثل الأحلام واحة للروح الهائمة المغتربة التي تنقّب بكل قوة في محتويات الذاكرة ليس فقط عن تلك الأيام القديمة والأماكن المألوفة بل كذلك تبحث فيها عن الدفء والحب وعن الإطار الاجتماعي السوي أو الحميم الذي كان يلف الإنسان ويحصنه، بينما هو في الغربة في حال علي النقيض من ذلك تماما، متجردا من كل دروعه وحصون روحه. وتبدو السدود والقيود المفروضة علي الإنسان الشرقي بقدر عيوبها وتقييدها نوعا من الرحم المحصن للإنسان يغلفه ويعصمه من الوحدة والبرد. لدي طارق الطيب أنماط إنسانية عديدة وأحسب أنه برغم ثباته علي تجليات الغربة وانعكاساتها لا يكرر شخصياته أو نماذجه الإنسانية، فثمة قدر كبير من التنوع، علي سبيل المثال في صورة الأب الذي يأخذ إطارا سلبيا في الروايات الأولي ويصبح رمزا للتسلط والأبوية واحتكار الرأي، بينما في الرواية الأخيرة يبدو أكثر إيجابية وأقرب إلي النموذج الطبيعي الذي يحن إليه المهاجر/ الشخصية الرئيسة، ولا يكون مناقضا للأم علي نحو ما هو متحقق في روايات بيت النخيل ومدن بلا نخيل والرحلة 799 المتجهة إلي فيينا. الحب لديه يأخذ كيفية خاصة وتصوراً جديداً، لأن الحبيبة تمثل حالاً من الفرار من برد الغربة ومخاوفها أو غياب الأمان وافتقاد الحال الجنينية السابقة التي كانت تعيشها الذات الإنسانية في الوطن. الحبيبة تمثل في روايات طارق الطيب وطناً مصغراً، أو معادلاً، وفي عطائها الجنسي ومحبتها وودها يجد البطل المهاجر وطنه الرحب ويصبح علي قدر من الانغلاق عليها والاكتفاء بها أحياناً، ولهذا ربما كانت قصص حب النموذج المهاجر عند طارق الطيب ذات طبيعة خاصة وتتجنب التكرار الذي يكون في إطار حال من الرومانسية المغلقة، ولينفتح الحب بشكل غير مباشر علي معطيات دلالية أخري، لأن فقد الحبيبة بعد هذا التصور وهذا الشعور به، أو بعد حال من اللجوء إلي الحبيبة بوصفها وطنا داخل الغربة، أقول إن فقدها بعد كل هذا يكون بمثابة تجديد للجرح القديم الكبير الذي هو فقد الوطن، فكأن الإنسان العربي المهاجر هنا إنما يفقد وطنه مرتين، مرة حين يترك أرضه بالفعل ويعيش في ثقافة أخري، ومرة حين يفقد حبيبته التي وجد فيها وطنه البديل الذي أغلقه علي نفسه والتمس فيه الدفء المفقود. الحقيقة أن قراءة رواية (وأطوف عارياً) تجعل القارئ مضطراً لاستدعاء الأعمال السابقة للكاتب لأنها تتمثل شكلاً من الثنائيات أو الملامح غير المباشرة التي تمتد عابرة لهذه الروايات وتشكل فيها روحاً ممتدة تجعل مشروعه الروائي مشروعاً متسقاً مع نفسه كما ذكرت سابقاً، ويمثل حالة واحدة بتنوعاتها وثرائها. فعلي سبيل التمثيل نجد صورة العائلة بامتداداتها وحالاتها، بين الأب والأم والأخت تحديدا التي تتكرر، وكذلك الجدة التي تأخذ مساحة أبرز في هذه الرواية الجديدة. الأسرة وبخاصة المرأة؛ الأم والجدة والأخت والحبيبة تمثل رموزا للعطاء وشموسا للدفء وكأنهن هن أنفسهن ملامح الوطن وصورته لا شيء آخر. تنتج روايات طارق الطيب السابقة والحال كذلك بالنسبة لروايته الجديدة جمالياتها عبر توظيفات خاصة للألم والانقسامات التي تعيشها الذات الإنسانية المتوزعة بين المكانين، المكان الحالي أو الحاضر وهو المهجر وأرض الغربة، والمكان الماضي أو المفقود الذي يعيش صلباً وراسخاً في الذاكرة، وهو الوطن. ربما هي من الروايات الخاصة التي تكرس عبر الحكايات لحالات من الألم المتراكم بفعل الفقد والتشظي الذي تعيشه الذات الإنسانية. هو نوع من الاستثمار الجيد للألم بشكل هامس وبعيدا عن المباشرة أو العويل أو تحويل الحالة السردية إلي بكائية وندب للوطن المفقود. رواية (وأطوف عارياً) تقدم عالماً خاصاً علي قدر كبير من التشويق والغرابة أو الطرافة التي هي في الأصل غرابة واقعية، فشخصية (مينا سليمان محمود عبد الماجد) الشاب المصري المهاجر إلي فيينا هي نموذج خاص بطارق الطيب الذي ينحت مثاله الخاص بقدر عال من الفنية والاشتغال التخييلي أو نواتجه الجذابة، مينا المصري المسلم مع أبيه اليساري المعارض في مدة الستينيات والسبعينيات وغيرهما من الشخصيات نماذج ثرية تم تشكيلها أو بناؤها وفق تركيبة إنسانية تتجاوز السطحية تماما وتبتعد عن التنميط المعهود أحيانا في كثير من الروايات، فالشخصية تتشكل وفق منطق بنائي يهتم أو ينشغل من البداية بالسمات النفسية أو البنية العميقة للشخصية، فلدينا بناء للذاكرة أو بناء لوعي الشخصية ولا وعيها وثقافتها، ولدينا كذلك ما يمكن أن يسمي ببناء مصادر الألم الخاصة، فكل شخصية لها ألمها الخاص أو منابعه الخاصة التي تصبح هذه المنابع دليلا أو علامات علي هذه النماذج الإنسانية وتجعلها مميزة ومختلفة، فالرسم السردي يعمل ابتداء من داخل هذه الشخصيات ويأتي عبر نسج هادئ للتفاصيل والحكايات والذكريات القديمة والجديدة وامتزاجها كلها داخل الذاكرة وداخل وعي الشخصية ومعارفها التاريخية. فمينا هو مسلم فار من الحب إلي عالم جديد، هو عالم المهجر وهناك يحدث نوع من التداخل والصدام مع تراكماته المعرفية السابقة وتصوراته المسبقة عن الغرب وعن النمسا بشكل خاص مع ما يتم استكشافه أو الكشف عنه تدريجيا من حقائق عن العنصرية ومعاداة الآخر وغيرها، وهو ذاهب إليهم بكثير من الثوابت أو المتراكم الاجتماعي الذي تغلل في تكوينه الإنساني، ليعيش حالات خاصة من التشتت والتجول بالبصر والتأمل معا في محتويات هذين المجتمعين الذين عاشهما؛ مجتمعا الغرب والشرق، مجتمع الوطن القديم والمكان المتروك الذي يطارده ومجتمع الحاضر الذي ينهمر عليه بصرياً ويشكل راهنه أو يتصارع مع المكان القديم علي احتلال المساحات من الذاكرة والوجدان. الرواية تتجه إلي تجسيد حالات إنسانية نادرة وجديدة من التعري الذي هو بدافع الفن والتكسب معا في نوع من التقاء الضدين، لما يمثل الفن من نوازع التجرد والروحية بينما التكسب يعيدنا إلي النزعة المادية والرغبة في استمرارية الحياة وكسب القوت والمال. أوقات التعري في الرواية يتمثلها السرد بنوع من الغوص النفسي الشائق والمنقّب أو الباحث في الطبيعة الإنسانية بشكل عام ويرصد إحساسها بما يشبه بداية الخلق بحيث تلتقي في هذه المشاهد البدائية مع قمة الحضارة وسنامها في الرقي الفني وطموح الإنسان عبر الفن إلي المثالية. مينا المصري الشرقي المسلم يعمل موديل (نموذج) للتعري الكامل في المعاهد والمدارس الفنية ويشاهده الطلبة والرسامون لأوقات طويلة وهو متجرد تماما من ملابسه، يصبح في هذه الحالات ذا خصوصية نفسية تختلط فيها المشاعر الصوفيّة بالبربرية أو البدائية بمشاعر التجرد والتلاشي، ويعاني حينئذ حالات خاصة من الإرهاق النادر الذي قلما يصادفنا ما يشبهه في روايات أخري، أو هو إرهاق يصبح مقصورا علي هذه الحكاية، إنه إرهاق التحكم في النفس وضبطها الذي يتحول من نفسي إلي بدني أو ما يشبهه التراسل بين الحسي والمعنوي، فلهذا التعري قيوده المثبتة في العقود التي يبرمها مع الجهات الموظفة له أو التي تستثمر عريه. تبدو الشخصيات محاطة بكم غريب من الأسرار ويعمل السرد أو هكذا يبدو في حال من الكشف أو محاولة تعرية هذه الشخصيات وكشف تاريخها وأسرارها عبر ترتيب زمني خاص يعمد إلي الاستباق الذي يصنع الدهشة ويصدم المتلقي، فثمة دلالات توحي بها بنية الرواية من البداية واستباقاتها المقصودة، علي سبيل التمثيل أن يتشكل تصور عند القارئ بأنه أمام قصة حب بين مسلمة ومسيحي، بينما يتبدد هذا التصور مع توغل أكثر حين تتجلي الأسرار بشكل تدريجي فيه قدر من الهدوء والتنامي الطبيعي الذي يعمد إليه الخطاب السردي بشكل من الحرفية والسيطرة علي أطراف الحكاية وتأجيل بعضها إلي مساحة لاحقة فتتشكل أسباب الدهشة وكل هذا دون افتعال أو تشويه أو نقلات مفاجئة أو تحايل. ثمة شكل بنائي يستثمر الخطوط المتوازية أو المتعاقبة، علي نحو ما نري في قصة الحب القديمة التي توازي داخل النفس أو الذاكرة قصة الحب الراهنة، فكأن إحداهما ظل للأخري، فلدينا كاتيا الحاضرة في فيينا والمهجر كما لدينا كذلك شهدة الحاضرة كذلك برغم مضي زمن حبها؛ لأنها مازالت في وجدانه راسخة تنازع الحاضرة. وهكذا تبدو كل قصة حب مرآة أو ظلا للأخري وفي الحالتين من التعلق والحب تتنج بعض الدلالات بحيث تتجاوز كل واحدة مجرد قصة الحب إلي شكل الوطن والاستقرار وتنتج معاني ترتبط بالمصير والبقاء وقلق الذات الإنسانية أو اطمئنانها أو العكس. فإحدي قصتي الحب منهما تشير إلي الثبات والطمأنينة والمستقر الآمن، بينما الأخري ترتبط بالأسئلة والخوف والقلق والتعري أو التلاشي. فكأننا كذلك أمام مقابلة بين زمنين أو عصرين لا بين قصتي حبّ فقط. في الرواية كذلك نوع من التحول الفني البارع بين تكنيكات السرد وأشكاله الخاصة بالموقع أو الراوي، فثمة تبديل بين الراوي العليم والراوي المشارك؛ الراوي بضمير الغائب والراوي بضمير المتكلم، الراوي الذي يعاين من نقطة أقرب للتجرد والهدوء والمحايدة والإلمام بالتفاصيل، والراوي المنفعل بسماته البشرية ورؤيته العاطفية وتمتزج دائما مشاعره برؤيته للعالم. هذا التبديل بين التكنيكين يجعل الرواية علي قدر كبير من الديناميكية والحركة وتتجاوز الرتابة والزاوية الأحادية، ويجعل في خطابها السردي شكلا من البوليفونية أو التعدد في الأصوات ويجعل الإيقاع السردي متفاوتا ويتجاوز النغمة الواحدة للقول أو للسرد. الرواية كذلك تستثمر بشكل فني وجمالي الطقوس الشعبية في الشرق لدينا أو في حضارتنا، وتجعل الصورة المجتمعية التي يتم فيها مقابلة مجتمعنا بالمجتمع الغربي صورة متكاملة، فلدينا في النهاية صورتان لمجتمعين نابضين تتم مقابلتهما دون افتعال ببعضهما، وفي إطار هذه المقابلة تتجلي عديد النتائج عن طبيعة الإنسان بشكل عام وعن الكامن في تكوينه من العنصرية والخوف من الآخر وتتجلي حقائق بعض المجتمعات والنماذج الإنسانية التي قد تبدو بقدر من التسامح أو تفتقده تماما وترتد إلي صورة أقرب للحيوانية؛ ففي بعض الحالات نري الإنسان علي قدر عال من التسامح وقبول الآخر وفي حالات أخري يتجلي بشكل وحشي يفتك بالآخر دون أدني رحمة. ومن هذه النقطة يمكن القول بأن روايات طارق الطيب بشكل عام ورواية (وأطوف عاريا) بشكل خاص تتسم بثراء إنساني كبير، بحيث تطرح نماذج إنسانية عديدة وعلي قدر كبير من التنوع وتبتعد عن النمطية. طقوس شعبية كثيرة إسلامية ومسيحية حاضرة في خلفية الرواية لتجسد الصورة الإجمالية أو الجدارية الكاملة للمجتمع المصري أو الشرقي بما يستقر في أعماقه، وكذلك طقوس أخري غربية مرتبطة بالفن أو المعيشة منها علي سبيل المثال شوطئ العراة وثقافة الضوابط واللوائح الإرشادية المنتشرة وعلاقة الإنسان الغربي بها، وكلها تشكل صورة عميقة للمجتمعين اللذين تتم مقابلتهما دون افتعال في هذا الخطاب السردي، ولكن عبر تشكيل إنساني يغلب عليه الطابع الفني والعناية بالتفاصيل والسمات الحياتية والطابع الحركي الدرامي.