عندما جاء الحديث ذات يوم مع بيكار رائد الفن الصحفي حول زملائه بأخبار اليوم من نجوم الكاريكاتير أفاض الكلام حول صاروخان الأرميني الفصيح.. العلامة الأولي في هذا الفن المشاكس واستطرد طويلا حول رخا العلامة الثانية والنجم المصري الأول.. وكانا كطرفي المقص..واتبع كلامه باستفاضة بتلميذه مصطفي حسين وهو أستاذه بالفنون الجميلة..وكان هناك شاب بدا يبزغ نجمه قال عنه:" أما عفت فهو ماشي بدماغه!!..يعيش مع نفسه كثيرا وهذا هو السر في رسومه الصامتة والموحية ". كان محمد عفت في ذلك الوقت يمثل أحدث الاجيال في أخبار اليوم.. متمردا في سلوكه في الرسم الذي لا يسير علي قضبان..فيه روح تلقائية طليقة لا تعرف من أين يبدأ وكيف ينتهي..هو في الحقيقة خارج علي الإطار.. له" باترون" خاص به وله لغته في الخطوط..ومع رسومه الكاريكاتيرية التي لا تشبه احدا ويقدمها بدون كلام تتحدث إلينا بتعبيرية الموقف.. أضاف أيضا الرسم التعبيري"اليستريشن " بروح الكاريكاتير مع فن البورتريه أو تصوير الشخصيات بلغة مختزلة من عمق هذا الفن.. ابن شبرا ومحمد عفت ينتمي إلي حي شبرا ولد ومازال يعيش هناك..هذا الحي الذي قال عنه د.محمد عفيفي "اسكندرية صغيرة في القاهرة..وهو عنوان كتابه الذي ذكر فيه العديد من الرموز ممن ولدوا فيه أو سكنوه..وقال عنه: شبرا حي ابناء المهاجرين من البحر المتوسط والدلتا والصعيد ليخلفوا لنا عالما جديدا..عالم يسمونه "كوزموبيليت "اي متعدد الأجناس والاعراف متفتح الثقافة..والتعليم سلاح المستقبل فيه.. عالم أقرب الي حال مدينة الإسكندرية في عصرها الزاهر. شبرا التي كانت تعيش فيها داليدا الإيطالية وكان يعيش فيها في الوقت نفسه كبار مشايخ الأزهر والأنبا شنودة الثالث ويوسف السباعي الروائي والصحفي أحمد حلمي جد فناننا صلاح جاهين والذي يحمل اسمه حي »أحمد حلمي» بشبرا. ولو كان د. عفيفي يعرف أن عفت من أبناء شبرا ولو كان قد اطلع علي عالمه في الكاريكاتير والفن الصحفي ودوره كحلقة وصل بيننا وبين الغرب في هذا الفن.. لجعل له فصلا في الكتاب !.. خاصة وهو أول رسام مصري استطاع أن يجعل الأجانب يعرفون مصر بالكاريكاتير..عن طريق المسابقات الدولية التي فاز فيها واشترك بها مما جعله أحد مؤسسي الإتحاد الأوروبي للكاريكاتير..وهو أحد أعضائه كما أنه المسئول عن مصر والوطن العربي. الطفولة والفن ولد محمد عفت ساخرا من البداية..كان في طفولته يقوم بتقليد المدرسين ويعلق علي تصرفاتهم اثناء الفصل وكان ذلك يكلفه الكثير.. في كل مرة ينال علقة ساخنة من الناظر بعد أن يكون قد أدار طريقه.. خارجا من الفصل إلي مكتبه قسرا وبضغط من الأساتذة.. واستمر في هذا التعبير الدرامي الهزلي إلي أن ظهر ولعه الشديد بالفن..ساعده في ذلك ابن خالته مجدي رزق مهندس ديكور المسرح, والذي كان يصحبه معه إلي مسارح القاهرة.. وبدأ يشترك معه في تنفيذ الديكورات المسرحية خاصة في مسرح محمد فريد وهنا تعلق بالرسوم ومفردات الديكور من الألوان والخطوط والإضاءة والنقوش والتفاعل مع خامات التشكيل..وبعد انتهائه من المرحلة الثانوية..تقدم للالتحاق بمعهد الفنون المسرحية ولكنه رسب بسبب التنافس بالواسطة ورغم هذا لم ييأس فأقام معرضا لرسومه الكاريكاتيرية في قاعة اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي.. وبعد إصرار وتحد التحق بالمعهد وتخرج منه بتقدير امتياز وكان في ذلك الوقت يقضي أغلب وقته في النهار والليل بالمعهد يرسم وينحت ويصمم الديكور. كتاب اليوم والفن الصحفي ومحمد عفت صاحب اكثر من 500 كتاب أخرجها ورسمها بأخبار اليوم مابين "كتاب اليوم " وكتاب اليوم الطبي "مع رسومه الكاريكاتيرية بالأخبار وبقية إصدارات الدار ورسومه بمجلة "نصف الدنيا ". امتدت أعمال عفت في فن الكتاب إلي الرسوم الداخلية والغلاف وأبواب وفصول الكتاب.. وقد قدم إضافة جديدة في الفن الصحفي من خلال تلك الرسوم التعبيرية والتي كان يقدمها بالكاريكاتير وهي رسوم ضاحكة بدون كلام تثير الدهشة تكاد تتحرك علي الورق من فرط حيويتها تعتمد علي الموقف بخطوط تتناسل من بعضها البعض، جسد فيها روح الحياة وقوتها موازيا للنصوص والكتابات.. ومضيفا ومضيئا علي الأفكار.. وفي بعض كتب السلسلة كان يقوم بتصوير الشخصيات في صور بخطوط مختزلة كما في كتاب "الظرفاء " للساخر محمود السعدني والذي صور فيه:البشري وعبد الحميد الديب وحسين شفيق المصري وغيرهم من نجوم الفكاهة وجاءت ريشته فيها الروح والصورة..الشخصية بكيانها المادي في أبسط تعبير. رسام الكاريكاتير يمثل عفت برسومه الكاريكاتيرية حالة خاصة ومختلفة..فتبدو شخوصه وكأنها جاءت من كوكب آخر وعالمه يتميز بروح سيريالية أو ما فوق الواقع بلمسة من الخيال الفانتازي في خطوط لولبية تلتف حول بعضها..لقد مل فناننا الواقع بصوره الحالية الضارية ولجأ إلي الخيال "بعد أن كانت له مئات الرسوم السياسية "..خيال جامح نبتسم له ونتفاعل معه مثلما نري شخصين يلتفان حول بعضهما البعض ينفخ كل منهما في بوق وتنساب الموسيقي..أو نري فرقة موسيقية كاملة ذات رؤوس مفرغة ينبعث منها الموسيقي مع آلات الطرب وتبدو الشخوص متوحدة في اندماج مع بعضها البعض ومع آلات.. وليس أجمل من مشهد طلمبة المياه يلتف حولها النساء وشخص يقوم بإدارتها في مشهد فيه الواقع والخيال وتبدو الشخصيات بأنف طويل مثل أنف "بيونوكيو الخشبي" في الرواية الشهيرة..ولا شك أن احتكاك الفنان عفت برسامي الكاريكاتير في العالم كمحكم دولي جعلت عالمه يتسم بروح إنسانية تتجاوز الحدود روح الانسان في كل مكان.. اختار عفت حرف العين الذي يقع في أول اسمه وأخذ يلف ويدور بالحرف حتي بدا أكثر سطوعا كدوائر أشعة الشمس..اختار هذا بذكاء وفصاحة الرسام صاحب الاسلوب وحرف العين هو حرف البصر وكأنه يجذبنا بتوقيعه لتأمل رسومه بتلك الحاسة..حاسة النظر!!. منذ عامين تقريبا تألقت لوحات عفت الكاريكاتيرية مع لوحات محمد حاكم في معرض أقيم بقاعة بيكاسو بالزمالك وفي هذا تأكيد واعتراف بأهمية فن الكاريكاتير بثراء التشكيل والتعبير والذي أصبح ينافس لوحة التصوير بعد أن انحسرت مساحته في الصحافة عموما كما أقام معرضا آخر بعنوان "ناس مزيكا "بالإسكندرية..بقاعة نادي "التاج الملكي". ونحن نتمني من مؤسسة أخبار اليوم بيت الفنان عفت أن تعود مساحته بصحيفة الأخبار وأخبار الأدب وهي مساحة يتفاعل معها القاريء..يفكر ويبتسم بلغة مختلفة في فن الكاريكاتير..لغة الرسم بدون كلام والتعبير بلا تعليق. تحية إلي محمد عفت فنان الكاريكاتير بعمق ريشة تغني للحياة غزت أوروبا وأمريكا بقوة التعبير والتشكيل.