بداية اود ان اقول اني افضل اصطلاح "التعبير بحرية " لأنه يعطي دقة اكثر عن العلاقة بين "التعبير "وبين والحرية .. والتعبير هنا شامل لكل انواع النشاط الانساني الذهني والفني والابداعي والخلاّق .. وحتي لا "نتوه " في غابة المصطلحات المخادعة دعني اولا ان اؤكد ان " الحرية " في اتخاذ قرار ما وفي ممارسة نشاط انساني ما بإطلاقه مكفولة في الشرائع السماوية .. بل ان مبدأ الجبر والاختيار الذي أعيا الفلاسفة والفقهاء الدينيين ابتداء من فكرة " اللوح المحفوظ " و نزول الآية " من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" نجد هنا اطلاق الاختيار في تعبير "من شاء". من ناحية أخري فإن التوق الانساني للحرية مر وما يزال يمر - بمراحل متعددة من "القمع " الذي تمارسه السلطات الدنيوية والدينية بغض النظر عن نوع الديانة التي تمارسها جماعة بشرية محددة ، حتي استطاعات جماعات بشرية ان تتخلص من نير العبودية وان تمارس نشاطها الطبيعي بحرية متمثلة اساسا في الحرية الشخصية للافراد . ان العلاقة بين " الحرية الفردية الشخصية " وبين الحق في "التعبير بحرية " علاقة جدلية وثيقة وديناميكية؛ فبسلب الحرية الشخصية وتنميط الافراد في قطعان متشابهة في الثياب والتفكير والافعال وردود الافعال ، وخلق هوس الاضطهاد القادم من انظمة سياسية وايديولوجية مخالفة ، يحول الافراد في مجتمع كهذا الي " نحن والآخر" لاغيا الانا الشخصية . ونشاهد في مصر في السنوات العشرين الأخيرة تنميطا دينيا ثقافيايستشري بقوة بين المسلمين وبين المسيحيين ؛ وهو وياللغرابة تنميط تطوعي ! حيث تصبح انواع محددة من الثياب النسائية "نمطا " مكررا لغالبية النساء المسلمات ، واصبحت "علامة الصلاة " موجودة بكثرة بين غالبية الذكور المسلمين ..ومن الجانب الآخر تفشي ظهور وشم الصليب ايضا علي رسغ وأذرع العديد من المسيحيين نساء ورجالا ..ولدارسة مغزي هذا " التنميط " نجد انه يحدد للرائي بدون عناء ديانة( وهوية ) شخص ما لا تعرفه ولا تهتم حتي ان تتعرف عليه .ويتحول التنميط الي "هوية " ليصبح مثل " العلامات " القبلية الأثنية التي يتم وشمها او "جرحها " في الوجوه ، للجماعات البشرية التي تتعارف وتتواصل من خلال "علاماتها " . ان مبدأ التنميط المرتبط بالفكر الشمولي هو النقيض لمبدأ الحرية الفردية الخاصة التي هي التتويج النهائي للتعبير بحرية ، كأفراد وكجماعات ..ولقد كانت ثورة " الهيبيز " في العالم الغربي هي الرفض الفردي للتنميط الجماعي ، في الثياب وقصة الشعر والسلوك الاجتماعي ومارسوا ما يمكن تسميته " بالفردية الجماعية " اي العيش في "كميونات " وتأسيس العائلة الواسعة الكبيرة والمشاركة الجماعية الكثير من التفاصيل الحياتية اليومية دون التخلي عن الفردية الشخصية لكل فرد . وقد صاحبت هذه الثورة الابداعية ثورة في الميديا المكتوبة والمسموعة والمقروءة . لقد قرأنا وسمعنا عن جماعات دينية بعينها "تزجر " المواطنين الذين يمارسون حريتهم في الملبس وفي العلاقات الخاصة العاطفية حتي وصل الأمر الي حد القتل ، بل ان جماعات مشابهة قامت في تونس بالتهجم علي مسرح كان يستضيف شعراء من فلسطين ولبنان .. هنا تظهر محاولة فرض نمط اخلاقي ديني علي الاخرين ؛ بوضوح وقسوة وغلظة . ونجد كيف استفحلت مؤخرا ظاهرة التحرش بالنساء في مصر ( بلد المليون مئذنة ) حتي لم توفر المحجبات والمتنقبات منهن ،وهي ليست ظاهرة لا اخلاقية فقط ، لكنها ظاهرة تسلب بطريقة فظة وهمجية ؛ الحرية الشخصية للمواطنات- بغض النظر عن دينهن وملبسهن ، والزائرات ( كما حدث في ميدان التحرير منذ فترة لصحفية من شبكة السي ان ان ) وما يحدث و ان بدا في ظاهره تحرشا جنسيا ، الا انه يحتوي علي مدلول اخطر بكثير من ذلك قمع لحرية الحركة والتنقل لنوع محدد من الناس هم الاناث ..لا لسبب الا لأنهن إناث (!) . فإذا كانت الجماعات الدينية تزعم انها تقوم بما يمليه عليها التزامها الديني " بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " فارضة قانونها الديني الاخلاقي علي الاخرين .. فإن "جماعات وعصابات التحرش " تفرض قانونها الاجرامي ايضا علي " الآخرين " ..ونلاحظ ان الجماعتين تشتركان في تهديف سهامها الي النساء .. فجماعة الامر تهاجم محلات تصفيف الشعر ..الخ وجماعة التحرش تهاجم "جسد " الانثي وتشترك الجماعتان في اخافة النساء وارهابهن حتي لو كن يسرن ويتحركن مع ذكر او ذكور آخرين كما في حادث القتل الذي تم مؤخرا للشاب مع الفتاة صديقته ( او خطيبته ) .. إذا كانت "اسئلة الحرية " مرتبطة بالدستور ..اي دستور ... فهذا لا يكفي ؛ فالدساتير تحدد المسار العام، لشعب ما فيما يتعلق بحقوقه- وواجباته - كأفراد وكجماعات ..واذا اخذنا حق التظاهر والاعتصام كمثل ونموذج هنا ؛ فنجد ان "كل دساتير العالم " تكفل هذا الحق " في حدود القانون " .. لكن لكي يتمكن ان يمارس الافراد والجماعات هذا الحق الدستوري بمواجهة " الآخرين " حتي لو كانت ممارستهم في حدود القانون ، يكون لزاما علي الدولة ممثلة في اجهزة امنها "حماية " هذا الحق الدستوري عبر حماية هذه التظاهرة من مهاجمة الآخرين لها ، اؤلئك الذين يناوؤنها ..لا ان تتخلي وزارة الداخية المصرية كما حدث مؤخرا عن واجباتها الوظيفية وتحمّل المتظاهرين مسؤلية سلامتهم الشخصية (!) هنا تظهر العلاقة الوطيدة بين الدستور وتطبيقاته ..اي انه بدون وجود قانون قوي ورادع لن يتمكن المواطنون من ممارسة حقوقهم الدستورية ..هذا هو مربط الفرس . واذ كانت هنا الان في مصر "معركة " حول الصياغة التي يجب ان يكون عليها دستور ما بعد ثورة الخامس والعشرين وصراع حول من هم الذن من حقهم الجلوس معا وصياغة مواد هذا الدستور المرتجي ..فهذه معركة تبدو لغير المتمحصين مجهولة الاسباب والانساب ..لكن اسبابها عميقة في التربة المصرية وهي "الشك " في الآخر وفي نواياه .الآخر المختلف دينيا والآخر المختلف مذهبيا والآخر المختلف طبقيا .. انها في النهاية معركة لن يحسمها الدستور الذي لا يعالج الاسباب لكن يفرض الاعراف ..لكن حتي لو صغنا او صاغ " الآخر " دستورا مثاليا سنكتشف انه مجرد ثوب بهي علي جسد شائه .. فان كانت اجهزة القضاء واجهزة الأمن والسلطات التنفيذية والتشريعية والرئاسية، ما تزال تغض الطرف عن تطبيق مواد الدستور المرتجي او الدساتير السابقة ..اي بدون وجود اليد الحازمة لتطبيقه، فسوف لن يساوي الحبر الذي سطرت به مواده . فالدساتير مثل "الفنارات " التي تقود السفن في المياه المضطربة .. لكن ما فائدة الفنار اذا لم يجد ما يقوم بتشغيله وتنشيطه ؟! لأنه .. اذا كانت الدولة باجهزتها الامنية تطالب جزء (مسيحيا) من اهالي قرية ان يتركوا منازلهم ويهجروا قريتهم ويهاجروا منها "درءا لفتنة طائفية " .. واذا كان بعض ولاة الأمر ينعتون بعضا من اهلنا في النوبة بنعوت عنصرية واذا كان هناك من يفتي بإهدار دم المتظاهرين السلميين واذا كان هناك من يعبيء بعض السذج وبعض الاشرار في باصات لتهاجم قناة تلفزيونية "أساءت الأدب " وقرروا تأديب صاحبها هنا لاينفع دستور ولا مواد بعينها تُضاف او تُحذف ..ولا يجدي ان تشارك كل فئات المجتمع واطيافه في صياعة هكذا دستور لأنه اذا كانت الحرية الشخصية للأفراد مُهددة بالأمر الواقع وبتغاضي اجهزة الامن عن حسم الموقف بشكل قانوني ، او ميل بعض القضاة لجانب طرف ما بغير عدل وزوغهم عن الحق .. لأنه لا يمكن لحرية عامة ان تتحقق بدون تحقق حرية الفرد اولا في اختياره لملبسه ونشاطه الفردي والاجتماعي ولاعتقاده الديني ولعقيدته . وبالتالي لا يمكن لوجود دستور عام للأمة بدون تحقيق الحرية الشخصية لكل فرد في هذه الأمة بشكل عملي !