إذا كانت الشريعة الإسلامية قد نهت عن قتل النفس إلا بالحق,, فلماذا تسيل الدماء ؟ وإذا كانت الكتب السماوية وضعت لنا ضوابط محددة لحرية الإنسان وحفظ حقوقه في المجتمع, فلماذا نري هذه الأيام اختراقا واضحا لضوابط ومفاهيم الحرية, تحت دعوي التعبير عن الرأي أيا كان هذا الرأي- دون مراعاة لحقوق الآخرين ؟! وبعد أن باتت مشاهد القتل وإراقة الدماء, والسرقة والتعديات علي الخاص والعام, وقطع الطرق, وأعمال البلطجة,والاعتصامات, والمطالب الفئوية مألوفة, نسأل علماء الدين: متي يعلم كل فرد في المجتمع ما له وما عليه فعله؟ وأين ذهب العقلاء المنوط بهم إعادة المياه إلي مجاريها؟ كيف نخرج من الأزمات المتتالية التي تضرب عصب المجتمع, وتروع الآمنين؟!! وفي ظل موجة الاضطرابات التي تجتاح مصر حاليا, أكد علماء الدين أن إراقة الدماء, وتنظيم المظاهرات والاعتصامات والمشاركة فيها تتعارض مع مبادئ الشريعة الإسلامية وقيم وأعراف المجتمع الإسلامي, لما يترتب عليها من إخلال بالنظام العام, والتعدي علي حقوق الآخرين, وما ينشأ عن ذلك من إشاعة الفوضي التي تؤدي إلي سفك الدماء وانتهاك الأعراض وسلب الأموال والتعرض للممتلكات والإضرار بالمصالح العليا للدولة. مخالفات شرعية وحول الأحداث الأخيرة التي تمر بها البلاد ناشد الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف, جموع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بوقف نزيف الدماء فورا, وأن يتمسكوا بأداء واجبهم نحو أنفسهم وأهليهم, ووطنهم ومواطنيهم, ولله رب العالمين, في كل حين, وفي هذه الأيام خاصة التي تتعرض فيها الأمة الإسلامية لكثير من الفتن والمؤامرات والشدائد والمحن بسبب دعاة الهدم وتعطيل العمل والبناء, من بعض المغرر بهم أو الأدعياء, الذين ينادون بالتخريب والتوقف عن العمل, حتي نصبح فريسة للأعداء الذين يتربصون بالأمة الإسلامية ومقدراتها. وطالب شيخ الأزهر الفاعلين بأن يتقوا الله في وطنهم وأهليهم, ويتوقفوا عن ارتكاب هذه المحرمات التي يجرمها الشرع والعقل والأخلاق والتقاليد العربية العريقة, وأضاف قائلا: اعلموا أنكم مسئولون غدا بين يدي الله تعالي عن هذه التصرفات, وسوف يحاسبكم عليها في يوم يحاسب فيه كل إنسان عما قدمت يداه في هذه الحياة الدنيا..فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره.. ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره. مطالبا الجميع بالتوقف فورا ودون إبطاء عن أي عمل من أعمال العنف, التي تمس بدن المصري أو تودي بروحه, محذرا الجميع من إراقة الدماء والدخول في هذا النفق المظلم المشئوم. كما حث العلماء والحكماء والسياسيين وقوي المجتمع المصري أن يتدخلوا فورا لإنهاء هذه الفجيعة التي تشوه المشهد الوطني كله, وأن يبذلوا كل الجهود وبأقصي سرعة لوقف هذا النزيف, أولا وبلا قيد ولا شرط, ثم العمل الدائب المسئول أمام الله وأمام الضمير, للقضاء علي أسبابه, ولإعلاء مطالب الوطن ومصالحه العليا علي كل المطالب الأخري. واجب المسلم من جانبه طالب الدكتور علي جمعة مفتي الجمهورية جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بالتمسك بأداء الواجب وعدم تعطيل المصالح التي لا تؤدي في النهاية إلا إلي العبث بمقدرات هذا الوطن وتعطيل مصالح العباد, مشيرا إلي أن أحداث الترويع والفتن والمؤامرات التي يشهدها الكثير من البلدان الإسلامية تتناقض مع كل القيم والمبادئ الحقيقية التي قامت عليها الشريعة الإسلامية وتستهدف نشر الفوضي في الوطن الإسلامي. وأكد حرمة إراقة الدم المسلم مطالبا بالضرب بيد القانون لكل من تسول له نفسه إشاعة الفوضي والإفساد في الأرض أيا كان, وأن واجب الوقت يقتضي أن يتعاهد المسلمون في كل مكان علي حفظ الدماء والأموال والأعراض, وعدم التعدي علي حقوق الآخرين والمحافظة علي الوطن الذي هو أمن كل مسلم, وأن نلتزم السلم وأقصي درجات ضبط النفس في كل المواقف, وأن يعمل كل إنسان بكامل طاقته حتي لا تغرق السفينة, كما طالب الجميع في مصر بالبعد عن أي صدام أو أي عنف, وحفظ حرمات الناس والوطن; خاصة في هذه الظروف الاستثنائية التي تمر بها مصر. وأضاف قائلا: أوجب الشرع علي الأفراد والمجتمعات أن يقفوا بحزم وحسم أمام هذه الممارسات الغاشمة, وأن يواجهوها بكل ما أوتوا من قوة حتي لا تتحول إلي ظاهرة تستوجب العقوبة العامة, وتمنع استجابة الدعاء, مشيرا إلي حديث النبي صلي الله عليه وسلم:إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا علي يديه, أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده كما حمل الشرع الدولة والمجتمع مسئولية حماية الأفراد, بطريقة تضمن لهم حياة آمنة, مطالبا في نهاية بيانه الشرطة والسلطات التنفيذية والقضائية وجميع العقلاء والمجتمع كله باحتواء الأزمات ورأب الصدع, والحفاظ علي الأمن, وقطع السبل أمام مثيري الشغب, محذرا من ضياع الوطن بمثل تلك الأفعال. وناشد المفتي كل مسلم أن يرعي الله تعالي ويتقيه ويبذل كل جهد لإعادة الأمن وحفظ الأمان والسعي بكل ما أوتي من قوة للانتقال بالبلاد والعباد إلي النهضة المنشودة, وخص بهذه الدعوة كل الفاعلين في الشأن العام من الثوار والجهات التنفيذية والمسئولين عن إدارة البلاد, كما طالب وسائل الإعلام العربية بأن تتحري الدقة والحقيقة في كل ما تبثه علي الناس وأن يقوموا بدورهم الحقيقي تجاه أوطانهم وبخاصة مصر في التوعية حتي لا ننجر لفتنة قد تودي بكل آمالنا وأحلامنا. الدم حق مقدس وحول عصمة الدماء في الإسلام يقول الدكتور محمد الشحات الجندي- عضو مجمع البحوث الإسلامية إن الإنسان خليفة الله في الكون يؤدي الرسالة التي وجد من أجلها, وجدير به أن يكون في طليعة القائمين بواجب الخلافة الحق في عبادة الله سبحانه وتعالي وتوحيده التزاما بقوله تعالي وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ولا شك أن هذا المؤمن برسالات السماء هو المكرم عند الله تعالي والأجدر بحماية حقه في الحياة, لان في بقائه عزة الدين وصلاح الدنيا ونصرة الأوطان, لذلك كان دم المؤمن معصوما, وكيانه مصونا, ووجوده محفوظا لأن حقه في الحياة وعصمة دمه حق مقدس, لا يجوز الاعتداء عليه أو المساس به أو التفريط فيه, فقتله وإزهاق روحه كبيرة من الكبائر, وجناية عظمي جعلها الإسلام أقدس عند الله من بيته الحرام الكعبة المشرفة كما دل علي ذلك حديث الرسول صلي الله عليه وسلم, فلا عجب في ذلك فإن المؤمن الذي حمل أمانه التكليف وصار علي هدي رسالة الدين في حمل الأمانة التي فضل بها علي السماوات والأرض وهي اكبر عند الله من خلق الإنسان, وهو ما ورد في قوله تعالي( إنا عرضنا الأمانة علي السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان) فهذا الإنسان هو صنع الله, وهو سيد الكون, والخليفة عن الله في هذا الوجود, فهو مصدر العمران وصانع الحضارة, ووجوده واستمرار حياته برهان علي عظمة الخالق كما دل عليه الحديث القدسي( كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق وعرفتهم بي فبي عرفوني) لذلك فإن من يعتدي علي هذا الصرح الذي أبدعه الله وخلقه علي أحسن صورة هو معتد جزاؤه العقاب الشديد لأنه أراق دم أخ له في الوطن والدين وهو صنيع الجهالة وتدبير عدو الدين والوطن الذي لم يرع بصنيعه هذا حرمة للدين ولم يتق الله في أخوة الوطن ولم يحفظ الكرامة الإنسانية, وأقدم علي الجريمة التي يهتز من هولها عرش الرحمن ويتصدع من شدتها الملك والملكوت, وكيف لا, وهو قد انتحل بقتله بريئا.. صفة الخالق واستلب حقه في إماتة الإنسان واستعجل القضاء الإلهي واغتصب حق الربوبية, وتعدي علي سلطانه فإن الله هو المحيي والمميت. الإضرار بالمصالح العامة أما الدكتور أحمد عمر هاشم عضو مجمع البحوث الإسلامية فيقول إن الإسلام حرم كل ما يضر بمصالح العامة والخاصة, وأضاف قائلا: لا يصح الخروج الذي يؤدي إلي عدم استقرار الأمن, وهذا لا يتناسب مع شرع الله تعالي, لأن الله يدعو لاستقرار المجتمعات وأمنها وطمأنتها, والأصل أن المظاهرات والإضرابات ممنوعان في الشرع الإسلامي, وأن التعبير عن الرأي يكون بوسائل أخري غير هذا, وما يحدث الآن في كثير من الدول الإسلامية مخالف لآداب التعبير لأن هناك قنوات كثيرة للتعبير عن الرأي, حتي لو كان الأمر المطالبة بالتغيير, حيث إن التغيير يحتاج لقنوات شرعية. الحق في الحرية وإذا كان البعض يري أن حرية الرأي والتعبير كفلتها الشرائع الاسلامية والدساتير والقوانين الدولية فان علماء الدين يضعون ضوابط لتلك الحريات, ويؤكدون أنها ليست علي إطلاقها, ويقول الدكتور سالم عبد الجليل وكيل الأوقاف لشئون الدعوة: لاشك أن من أهم القيم التي تستأثر بالاهتمام اليوم قيمة الحرية, إذ لا قيمة لحياة الإنسان بدون الحرية, وحين يفقد المرء حريته, يموت داخليا, وإن كان في الظاهر يعيش ويأكل ويشرب, ويعمل ويسعي في الأرض, ولقد بلغ من تعظيم الإسلام لشأن الحرية أن جعل السبيل إلي إدراك وجود الله تعالي هو العقل الحر الذي لا ينتظر الإيمان بوجوده بتأثير قوي خارجية كالخوارق والمعجزات ونحوها وفي هذا قال الحق سبحانه وتعالي لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي وفي هذه الآية نجد نفي الإكراه في الدين والذي هو أعز شيء يملكه الإنسان للدلالة علي نفيه فيما سواه وأن الإنسان مستقل فيما يملكه ويقدر عليه لا يفرض عليه أحد سيطرته بل يأتي هذه الأمور راضيا غير مجبر مختارا غير مكره. ويضيف أن الحرية تتكون من حقيقتين, إحداهما السيطرة علي النفس والخضوع لحكم العقل لا الخضوع لحكم الهوي, والثانية, الإحساس الدقيق بحق الناس عليه وإلا كانت الأنانية, فالحرية والأنانية نقيضان لا يجتمعان, وقد انتهي تحديد الحرية في العصر الحديث إلي تصنيفها إلي نوعين اثنينالحريات الفردية, وهي التي تتعلق بالفرد في ذات نفسه, كالحرية في اختيار الأفكار إذا بقيت في مستوي القناعة الذاتية, واختيار الملبس والمأكل والمسكن ومحل الإقامة وما هو في حكمها, والحريات العامة وهي التي تتعلق بالحياة الجماعية العامة, مثل حرية التعبير ونشر الأفكار, وحرية الاختيار لأنظمة الحكم, ولعل الحرية الدينية تجمع بين هذين النوعين من الحرية, وقد جاءت التعاليم الإسلامية تؤسس لهذين النوعين من الحرية في أصل مبادئها التي أقرها الوحي قرآنا وسنة. ويؤكد أنه لا يعني بطبيعة الحال إقرار الإسلام للحرية أنه أطلقها من كل قيد وضابط, لأن الحرية بهذا الشكل أقرب ما تكون إلي الفوضي, التي يثيرها الهوي والشهوة, ومن المعلوم أن الهوي يدمر الإنسان أكثر مما يبنيه, ولذلك منع من اتباعه, والإسلام ينظر إلي الإنسان علي أنه مدني بطبعه, يعيش بين كثير من بني جنسه, فلم يقر لأحد بحرية دون آخر, ولكنه أعطي كل واحد منهم حريته كيفما كان, سواء كان فردا أم جماعة, ولذلك وضع قيودا ضرورية, تضمن حرية الجميع, وتتمثل الضوابط التي وضعها الإسلام في الآتي, ألا تؤدي حرية الفرد أو الجماعة إلي تهديد سلامة النظام العام وتقويض أركانه, ألا تفوت حقوقا أعظم منها,وذلك بالنظر إلي قيمتها في ذاتها ورتبتها ونتائجها, ألا تؤدي حريته إلي الإضرار بحرية الآخرين, وبهذه القيود والضوابط ندرك أن الإسلام لم يقر الحرية لفرد علي حساب الجماعة, كما لم يثبتها للجماعة علي حساب الفرد, ولكنه وازن بينهما, فأعطي كلا منهما حقه. ضوابط شرعية ويتفق مع الطرح السابق الدكتور عبد الفتاح إدريس أستاذ الفقة جامعة الأزهر: مضيفا أن الإسلام كفل جميع الحريات بضوابطها الشرعية, مثل حرية التملك بضوابطها وحرية إبداء الرأي وحرية استعمال الحقوق والتعبير عن الرأي وإجراء المعاملات المختلفة كل هذا وفق الضوابط التي وضعتها الشريعة الإسلامية, ومن ضمن تلك الضوابط ألا تضر ممارسة الحرية بالآخرين لأن الرسول صلي الله عليه وسلم قال لا ضرر ولا ضرار, يضاف إلي هذا أنه لا ينبغي أن تترتب علي ممارسة الحريات المختلفة الإضرار بحرية الآخرين, فحرية الإنسان في التعبير عن الرأي وهي حريات مكفولة من قبل الشريعة الإسلامية ارتبطت بعدم إلحاق الضرر بالآخرين,ومن ضمن القيود أيضا ألا تفضي هذه الحريات إلي ما حرمه الله سبحانه وتعالي,إذا كان استعمال الإنسان لحرية من الحريات يترتب عليها ارتكاب محظور شرعي, ولقد كفل الله عز وجل للإنسان حرية إجراء جميع المعاملات إلا المعاملات المحرمة كالإتجار في المخدرات وبيع أعضاء الإنسان والخمور وغيرها من المعاملات التي تضر بالإنسان لأن الشريعة الإسلامية جعلت حماية النفس مقصدا من مقاصدها فحرمت الاعتداء عليها. حب الوطن وفي النهاية يشدد الدكتور محمد الدسوقي أستاذ الشريعة بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة علي أنه جاء في الأثر أن حب الوطن من الإيمان, لأن الإنسان بلا وطن يقيم فيه عزيزا كريما يكون مشردا أو لاجئا أو غريبا, فلا يشعر بأمن ولا استقرار ولا كرامة, ومن هنا يجب علي كل مكلف أن يحافظ علي الوطن الذي يقيم فيه, وعلي الأمة الاسلامية كلها أن تتعاون في حماية من يتعرض لطرده من وطنه أو احتلاله, وكلمة الحب في معناها العام يراد بها كل خلق طيب وسلوك محمود والوطن يحتاج الي هذا الحب من حيث مراعاة نظافته وعدم تلويثه, فالطرقات كلها يجب حفظها وعدم الاعتداء عليها, وقد روي أن الرسول أمر بإعطاء الطريق حقه. ويضيف الدكتور الدسوقي أن من حب الوطن العمل علي تقدمه وتنميته والإسهام في بنائه وأن يدرك الانسان انه مسئول مسئولية شرعية عن العمل الجاد الذي يسهم في تنمية اقتصاد الوطن وتحقيق الكفاية الغذائية للناس, ومن هنا فإن ما يحدث الان من مظاهر لمظاهرات فئوية تريد الحصول علي منفعة ذاتية وإن سلمنا بان لهم الحق في هذا فأن ذلك لا يعني أن تصل لحد إراقة الدماء وتعطيل وسائل الانتاج وتعطيل حركة المرور وتدمير خطوط السكك الحديدية لان هذا يعتبر تخريبا للوطن واعتداء علي حرمته, وليس حبا له, لأن الإسلام دائما يأمر بالحب بالنسبة للإنسان والحيوان والجماد وكل مخلوقات الله في الأرض لأنها كلها نعم أنعم الله بها علي الإنسان, ومن الواجب المحافظة علي هذه النعم.