لم أشأ أن أقطع عليها استرسالها.. جحظت عيناي.. كظمت غيظي.. توقفت عن الكلام.. مسحت دموعها.. ربتت علي كتفي تحثني.. أنكفأت عليها.. أصرخ.. إسعاف.. أرجوكم.. قشعريرة تملكتني.. التصقت بها.. رفعت كتفيها عن الأرض.. وضعت رأسها علي صدري .. وجدت من يقول: - يبدو أنه قريبها أو زوجها.. آخر.. فارقت الحياة. هززت رأسي.. بحثت عن يدها.. هي الأخري في وهن تبحث عن يدي.. ألتفت هالني مارأيت.. يد بها خطاب والأخري قابضة علي حفنة من تراب.. برفق أخذت الخطاب.. نظرت في عينيها.. بنفس الرفق حاولت أن أنظف اليد الأخري منعتني.. بعيني رجوتها رفضت.. كم من الوقت مضي لا أعرف.. الإسعاف.. ركبت معها.. غرفة العمليات.. أمسكت يدي. أبعدوني.. غابت عني. انتظرت من يطمئنني.. الإنتظار يقتلني.. رجل يضرب علي كتفي بأنامله. - شنطة المدام.. احتضنتها. - هذا هو الشاب الذي أتي معها. رفعت رأسي.. رجل بالزي الرسمي. - أرجوك نريد منك بعض المعلومات عن المصابة والحادثة. أعطيتهم الشنطة. هممت بالخروج.. ممرضة تحدث زميلة. - أرأيت كم هي متمسكة بحفنة التراب؟!! استقبلت الشارع.. عاد لي توازني.. سرت بغير هدي.. علي أول كرسي في الميدان جلست. تحسست جيبي.. الخطاب. تريدني أن أرسله. العنوان... ريفية.. البريد.. سيتأخر.. بصعوبة وصلت.. - ماوراءك ياولدي؟.. تماسكي. خذني إليها.. معي خطاب.. أرني إبنتي. القطار يشاركها اللهفة.. عيناها شاردة. تنظر للمجهول.. تتمتم.. - قلبي من يوم أن سافرت يحدثني بأنك تتألمين.. ليتني منعتك.. أنا السبب.. ذكرتها بالخطاب.. أقرأه. - أمي وهبك الله مسحة من جمال الجسد والروح.. لم تفلح السنون ولا الفقر أن تمحوها.. وأنا منك.. هل العيب فينا؟ رأيت منه كرما بلا حدود.. أراني القاهرة بصخبها.. كم من الملابس غالية الثمن.. وظيفة لم أكن أحلم بها. مرتب خيالي.. كل هذا في يومين.. غاص قلبي بين ضلوعي. فاتحته في البحث لي عن مسكن.. بادرني.. - الشقة تحت أمرك وأنا ضيفك كلما حللت بالقاهرة. سافر للبلدة . تركني للخوف من المجهول.. والفرحة التي أعيشها .لم يطل به المقام بالقرية.. ثلاثة ايام وعاد.. تصرفات غير مريحة.. صبرت.. في المساء طلب إعداد الطعام.. زجاجات ألوانها غريبة.. أيقنت من الليلة سداد الدين.. - آه يا ابنتي.. قلت لك اتركي لي هذا ولن يضيعنا الله.. إحساسك بالعجز وأنت ترينني أخرج يوميا (بالمطرحة والمشنة) علي رأسي.. تحجبين عني دموعك .. وقلبك يقطر دما.. إحترمت عتابها الكلمات أمامي تصرخ.. عند أول تنهيدة أكملت: كشر عن أنيابه ، وليس بذئب.. رفع ذراعين شعرهما كثيف.. انتبهت إلي يدين غليظة أصابعهما طويلة.. وأطول منهما الأظافر.. والتي انتزع بهما الوجه الذي عرفناه به.. تسمرت عيناي في حدقاتهما. هالني ما رأيت.. وجه أخذت أجمع شتات أفكاري وجسدي كله يرتعد أين رأيته؟.. عين دائرية متحجرة بغير رموش.. والاخري غير مستقرة يتطاير منها المكر والتبجح.. جبهة عريضة كشرة.. شفته العليا يطمسها شارب أسود كثيف. والسفلي غليظة تتدلي كخرشومة حلوف.. الجسد طويل وكأنه يناطح ويحجب عني ضوء المصباح.. هنا تذكرت المسيخ الدجال الذي رأيت صوره علي أغلفة الكتب الدينية وقرأت عنه.. بلعت الكلام في حلقي قبل أن يخرج عن الحلال والحرام توسلت إليه.. حدّق في.. أهانني. عيرني بك. أسرع إلي الملابس التي ابتاعها لي.. قذف بها في وجهي . أمرني أن أرتديها أمامه.. بكيت. أنحنيت أقبل قدميه.. لكزني.. تكومت بجوار مقعد.. رفعني.. لم يرحمني.. توقفت عن القراءة.. نظرت إلي الأم. دموعها تتساقط علي خديها. تنظر من النافذة .. تضغط بأسنانها علي شفتيها. تتأوه تأوهات مكتومة .. أدمت قلبي قالت: - يا الله.. زوجي أسكنته بجوارك.. أهل تخلوا عنا..وغد لم يرحم ضعف إبنتي.. عنادك جعلك تصرين علي السفر معه.. مثلما عاندتني ألا تكلمي دراستك.. عانيت الأمرين لإيجاد فرصة عمل في مجتمعنا الضيق.. أحسست بخوف يتملكني عندما نظر إليك في أول لقاء. نبهتك.. حاولت أن أثنيك عن عزمك.. ذقت الإهانة قبلك من صدودي لتلك النظرة.. لولا احترام زوجته وكرمها وحاجتنا مادخلت له دار.. لم أشأ أن أقطع عليها استرسالها.. جحظت عيناي.. كظمت غيظي.. توقفت عن الكلام.. مسحت دموعها.. ربتت علي كتفي تحثني.. استحييت.. عيناها ترجوني.. يداي ترتعشان.. تخرج الحروف بصعوبة خوفا من القادم.. غبت عن الوعي.. أفقت.. وجدتني في فراشه.. يبدو أنني نزفت كثيرا.. حاول تهدئتي.. مناني برغد العيش. لم أتذوق طعم النوم.. ليل طويل.. صبح أشد ظلمة.. رضخت لنصائحه.. رجوته أن أذهب للعمل . سمح لي.. همت علي وجهي أجوب الشوارع والطرقات.. آمل أن أرتمي في أحضانك .. بعيني انكسار.. دموعي تحول بيني وبين طريقي.. هدني التعب.. جلست.. سامحيني.. سأنتظرك بعد أن تملئي يدك بحفنة من تراب وتذريها في أعين أهالينا وأقاربنا وفي عيون الذين رفعوه عاليا.. يهتفون بشهامته ونبله علهم يذرفون الدمع علي ابنة لهم أو أخت أهدر دمها رخيصا..