حلمى سالم لعلكَ تتذكر الآنَ علي مهلٍ يا حلمي حفنة ساعاتٍ في بداية التسعينيات، حين كنا نقابل بعضنا البعض نحن الذين ندهتنا نداهة الكتابة مصادفة في شارع عبد الخالق ثروت فنبتسم ونعرف علي الفور أننا متجهون إليكَ، كنتُ قد قررتُ وقتها بشكلٍ لا رجعة فيه أن الصحافة ليست طريقي، وكنتُ أهز رأسي بحماس حمامة خرقاء تحاول أن تتعلم الطيران وأنا أردد في سحائب دخان سجائركَ: لا. لا. الصحافة مش حلمي. فتتساءل أنتَ مازحاً: ليه بس؟ ده حلمي كويس وشاعر وابن حلال. أكثر من عشرين عاماً تفصل بيني وبين مكاتب جريدة الأهالي الضيقة المزدحمة، وعشرات الهزائم والانتصارات الصغيرة وطعم خيبات وددتُ لو وصفتها لكَ، وعشرات الشخوص التي تتحلي بقدرٍ لا بأس به من الشر المجاني والسماجة حالتْ بين أن نجلس طويلاً علي طاولة واحدة، ودولة عظمي سعيت إليها وأنا أردد أفكاركَ فانهارت أمام عيني ببطء انهيار عمارة صعقها زلزال ولم يتبق منها إلا بضع عبارات نناقشها علي المقاهي أوشلالات من كلماتي الأولي المتلعثمة والحائرة والغاضبة والمارقة لتوها من الركام والطامحة مع ذلك إلي حصار كل ألق العالم وبؤسه دفعة واحدة، كنتُ أرسلها لكَ يا حلمي من موسكو في أظرفٍ بيضاء مزرقشة بإطارٍ أزرق أحمر ومكتوب عليها بخط كبير "شكراً لساعي البريد" كانت الجملة أكبر من اسمك ومن اسم الأستاذة "فريدة النقاش" والله فقط خوفاً من أن تضيع رسائلي وهي تعبر من تلال الثلج والوحدة إلي دفء الأصدقاء. كنتُ آنذاك كما تعرف ما زلت أتعلم كيف يكون الألم سكندرياً وكنتُ غارقةٌ في "الأبيض المتوسط" و"سيرة بيروت"، لا أدري لماذا أتذكركَ الآنَ خلف مكتبكَ الصغير وأمامكَ مئات النصوص، تستقبل أحد الضيوف بأدبٍ جمٍ وتقرأ لنا بعد أن يمضي مجردَ مسخٍ لأبيات أمل دنقل أو نزار قباني فتعتذر له بصعوبة وخجل عن النشر، وتتحمل سبابه الذي يتناهي إلي مسامعنا من الخارج واتهامه لكَ بأنكَ مجرد حجرعثرة كبير بين الجماهير وبينه هو الذي سيكون المتنبي! وهأنا قد تعلمتُ منكَ الصبر ومحبة العالم حتي برداءته وأكثر من ذلك التسامح مع مفرداته. لا شيء جديد بعدُ يا حلمي في البلاد، ما زال الواقع يفرز سيناريوهات تدعو كلها للرثاء، وما زال الفصيلان اللذان يسيطران علي الشارع السياسي منذ عقود يتناطحانِ وما زلنا نحن نضع أيدينا علي قلوبنا مخافة أن يقضي علي الأخضر واليابس ومجد البلاد صراعُ العسكر والإخوان. لا شيء جديد بعدُ يا حلمي، فلقد شهدنا علي كل حال ذروة عسلٍ في تاريخ مصر تواري بعدها الثوار النبلاء وكعادة فترة ما بعد الثورات خرجت زرافات من الضفادع تنقنق في الفضائيات. لعلكَ لديكَ الآن وقتٌ لتتأملَ روعة ما خطته يداكَ وأنتَ المتواضع الذي قدمته منذ عام وقبل مرضكَ الأخير في إحدي الأمسيات الشعرية بعشر جملٍ فقط لا غير فطبطبتَ علي كتفي قائلاً للجمهور: هذا والله من فائض كرم صديقتي. ولعلكَ تتذكر الآنَ الاحتفالية المقامة لكَ والتي احتضننا فيها قلب "ميسون صقر" المخملي، في هذه الليلة بكيتَ من فرطِ محبتِنا لكَ وأبكيتنا، ولن أسمي لكَ مَنْ كانوا هناك من أصدقائنا الشعراء فأنتَ أدري مني يا حلمي علي كل حالٍ بالأسماء، فلقد لاحظتَ بنفسكَ بل فرحتَ بأن جميع الحضورأصغر منكَ وأنهم منذ سنوات طالت أم قصرت قد مروا عليك بمحبةٍ أو بمشاكسةٍ تؤدي لا محالة إلي المحبة، في هذه الليلة قلتُ لكَ حين حان دوري: لقد كتبَ الشاعر الصديق "أحمد يماني".. ستنجو هذه المرة أيضاً. فأعجبتني كلماته كثيراً إلي حدِّ التوقف عن الكتابة لكَ في عزَ الكتابة، وهأنتَ تخذل أحمد وتخذلني، أم تُراكَ بالفعل قد نجوت؟! طيب يا حلمي انطلق الآنَ بسلامٍ، فليس بوسعكَ علي كل حالٍ أن تفعل أكثر، فقد كتبتَ ما لو أخذوا به لكانوا أكثر تسامحاً، ولقد سامحتَ قبل رحيلك كل مَنْ تطاولَ عليكَ من الجهلاء وأرباع الموهوبين، ولقد ابتسمتَ كثيراً في وجوه مَنْ طعنوكَ من الخلفِ، ولقد نثرتَ في الكونِ أبياتاً رائعة سيستغرقون الكثير من الوقتِ لكي يدخلوها ويتكئوا علي أعمدتها ويستريحوا من كراهيتهم في أروقتها، ولقد فتحتَ للكثيرين آفاقاً تكفي لكي ينطلقوا نحو شموسٍ لا حصر لها. طيب يا حلمي ونحن الذين فرحنا بهبوطِكَ كملاكٍ علي الفضاءِ الإلكتروني بحسابك الجديد علي الفيس بوك، أظن أنكَ لم تلحق أن تضيف الصديق رقم مائة، وأظن أنكَ لم يكن لكَ علي كل حالٍ أن تحتملَ ما يُكتبُ علي جدرانه من مدي خِفته الآنَ. طيب يا حلمي سنلتقي بعد حين هذا مما لا شك فيه وربما نُطل من "شرفة ليلي مراد" بعد أن يختفي من الوجود ضيقو الأفق المتربصون، وربما نسير معاً علي ممرٍ مشمسٍ يشبه كثيراً ذلكَ الممر الذي وصفه "بولجاكوف" في رائعته "المُعلمُ ومارجريتا" وقد نتحدثُ آنذاكَ عن وعورةِ الكتابةِ، وعن خيباتِ قلبكَ الكبير، وعن كيف يكون الغرام مسلحاً وعن انكسارات الضوء علي حَجركَ الكريم وعن العميان الذين ما زالوا يتكاثرونَ هنا، وقد أسرُّ لكَ آنذاكَ بأن مصر التي أحببتها كثيراً أصبحت علي ما يرام وأنها هشّتْ عن طرقاتها كلَّ مَنْ حاول تدمير هويتها وجمالها، وقد أختتم حديثي معكَ بأنه علي الرغم من ذلكَ فإن الحياة بعد حين تكون يا أخي الأكبر غير سائغة المذاق. ولكن وحتي نلتقي ثانية يا حلمي سنواصل الثناء معكَ علي ضعفنا، وسنسير علي دربِكَ ممتدحينَ أيةَ جلطةٍ في المخِ أو في القلبِ تنتابنا وقد نستغرق في الأثناء في "فقه اللذة". طيب يا حلمي انطلق كما تشاء سالماً الآنَ.