«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الكاتب الإسباني خوان جويتيسولو يكتب عن العلاقة الشائكة بين السلطة والأدب:
الز يني بركات الرواية النبوءة
نشر في أخبار الأدب يوم 22 - 01 - 2011

في فترة الاضطرابات التي نفضتْ الخلافة الأموية، أرسل الخليفة التحذير التالي إلي جامع الكوفة- بذرة المجادلات الدينية والتفسيرات المختلفة لكتاب الوحي القرآني-:"هذه الليلة/ سيزرع طاغيةُ الرعبَ/ لن يكون جمّالاً/ ولا راعياً/ بل جزاراً/ مستعداً للذبح".
استلهم الكاتب المصري الكبير جمال الغيطاني من السلطات الاستبدادية الخانقة التي تحدث علي طول التاريخ في حضارات الكوكب المختلفة، والتي تأسست دوماً علي خوف وذل الكائن البشري، صوراً متناقضة، لكنها مكتملة، للزيني بركات، الشخصية التي عنون بها روايته، ولزكريا بن راضي، وكلاهما من حاشية السلطان الغوري. فبينما تُلخَص "فلسفة" بن راضي، ولي جحيم التعذيب وأحكام الإعدام للمشتبه في سخطهم علي الطاغية، في فكره كحارس:" يجب أن يكون عبور السجين لعتبة أبوابنا حداً بين مرحلتين. يجب أن تنقسم حياته إلي جزئين، بحيث لا يتغير اسم الفرد عند خروجه من هنا، بل روحه". يدعو الزيني لوسائل أكثر رقة من التعذيب، مثل وسيلة يوتوبيا العالم الافتراضي الذي نعيشه الآن .
يقول الزيني علي لسان زكريا:»إنني أري يوما يجئ فيمكن للبصاص الأعظم أن يرصد حياة كل انسان منذ لحظة ميلاده حتي وفاته،ليس الظاهر فحسب، إنما مايبطن من خواطره ،مايراه من أحلام،لهذا نرصد كل شئ منذ مولده فنعرف أهواءه ومشاربه بحيث نتنيأ بما سيفعل الفرد في العام العشرين من عمره«
في آن واحد، ترُد أرشيفات المهنة المقدسة والشرطة السوفييتية التي سنعرضها لاحقاً علي وحشية بن راضي وعلي نظام الوشاية والتدقيق للزيني. يقول الأخير:"إن تنفس أحد بشكل مختلف عن باقي جيرانه، يطلّع في الحال". في النهاية، هو عين مبصرة بكل شيء وسمع يلقط كل شيء ويسجّله.
في فترة الاعتقالات الجماعية من 1937-1939، وشي بافليك موروزوف، أحد أعضاء الشباب الشيوعي، بأبيه بسبب أفكاره المناهضة للثورة. حينها تم فوراً قتل الأب، ورُقي الابن لدرجة بطل الوطن، وصار أيقونة للإنسان الجديد، ونموذجاً جديراً بالتقليد.
حلم الزيني بركات ببشرية ماهرة في التجسس، مَنْ يتنفس فيها بشكل مختلف تتم الوشاية به، صار واقعاً قائماًَ. فالوشاية السائدة بالجيران، بالمعارف، بالأصدقاء وحتي بالأقرباء القريبين اكتسبت قيمة أخلاقية سواء في فترة محاكم التفتيش التي أقيمت في قشتالة بيد إيسابيل الكاثوليكية كما في روسيا ستالين. وأرشيفات المهنة المقدسة، مثل أرشيفات الاستخبارات السوفييتية، تفيض بمستندات من كل نوع عن هذا النشاط الذي تعززه وتمتدحه السلطات الدينية الكاثوليكية وسلطات النظام السوفييتي. وبعقد مقارنة بين البعض والبعض الآخر سيبقي واضحاً أن: كتب خوان أنطونيو يورينتي، سيرانو و سانث، أمادور دي لوس ريوس، أميريكو كاسترو، سيكروف، دومينجيث أورتيث، كارو باروخا، خيلمان و خيمينيث لوثانو أعادت نسخ كم من الوثائق الشبيهة جداً بالوثائق المعروضة في ثلاثية فيتالي شينتالينسكي(عبيد الحرية، وشاية ضد سقراط، جريمة بلا عقاب). هكذا نجد الكلمات التي نطقها كاتب قاتم في حالة سُكْر ضد الرفيق ستالين أحثت صاحب البيت حيث نُطقتْ علي إبلاغ إتحاد الكُتاب في الحال، ومن إتحاد الكُتاب إلي البوليس السياسي والأيديولوجي بالإتحاد السوفييتي.
في يونيو 1525 قبض محضرو المهنة المقدسة علي ألبارو مونتالبان، حمي فرناندو روخاس، وحبسوه في زنزاناتهم. كان تسجيله كيهودي مشتبه فيه يرجع لأربعين سنة مضت. وكان مونتالبان قد "تصالح عقب اعتراف تبعه هدف بالتعديل، لكن تسجيله تبعه كظله". ومجبراً علي الحياة محتاطاً، كان يعرف أن عيون وآذان حراس العقيدة وعصابتها من الواشين يقفون له بالمرصاد ليلاً ونهاراً. وأن أي إهمال بسيط من الممكن أن ينقلب ضده وهذا ما حدث كما يحكي لنا ستيفن خيلمان في "إسبانيا فرناندو روخاس".
أثناء سفره إلي مدريد لزيارة أقربائه، بعد غداء ريفي في حدائق ليجانيس التي أكل فيها وشرب في جو صاف، رد مونتالبان علي كلام البصاص حول سرعة زوال المتع الدنيوية مقارنة بالحياة الأبدية، بقوله "أتمتع هنا لأنني لا أعرف إن كان هناك شيئ". وعند تذكير الشاهد بأن الإيمان بالآخرة كان أساس العقيدة، أكّد حمي فرناندو روخاس:"فلنتمتع هنا، فأنا لا أعرف شيئاً عما يوجد بعد ذلك". هنا قطع البصاص الحوار، متخذاً كشاهد قس كنيسة سان خينيس الحاضر هناك، قائلاً "كنت أتمني ألا أسمع ذلك لأنه هرطقة وأجد نفسي مضطراً للتبليغ". ورغم إدانة مونتالبان بالسجن مدي الحياة، إلا أن الأموال التي دفعها ذويه إلي السادة حكام التفتيش غيرت الحكم ليكون سجناً منزلياً مدي الحياة.
يكمن التباين بين المهنة المقدسة وجهاز الشرطة الروسي في أن الثانية، علي عكس الأولي، لا تسمح بالفساد. مع ذلك، فميكانيزم المراقبة- الوشاية- التسجيل- القبض علي- الاستجواب بتعذيب وبدونه-إصدار الحكم، كله متشابه.
عند النبش في خبايا ماضينا الخاص، سنجد عينة من الصدق وحسن النية لحكام التفتيش، ظل آل بابل وبولجاكوف ومانديلشتام وآخرون دون معرفة بصمات مواطنينا اللانهائية. ففي عام 1535 اتهم ألبارو دي مونتالبان نفسه بأنه حذف من اعترافه منذ عقود مضت نطقه باستخفاف بكلمات مناهضة لتعاليم العقيدة الكاثوليكية، وقريبة أخري لفرناندو دي روخاس فعلت نفس الشيئ بعد أن قالت بصوت عال داخل بيتها كلمات أخري شبيهة في المضمون. وأمام خوفها من أن يكون سمعها الجيران فيوشون بها، جرت هي لتقدم نفسها لمستشاري المهنة المقدسة:
"أنا إيسابيل لوبيث، زوجة فرنثيسكو بيريث، أقول إنني لم أنظر لما كنت أقوله ولا أعتقد بما قلته من الكلمات التالية- في هذا العالم لن تراني بحياة سيئة ففي العالم الآخر لن تري عقاباً- وأقول إنني قلت هذا باعتباره من الأمثلة التي نعتاد قولها".
وفي اعترافها أمام هؤلاء تقبل سلالتها "الملوثة"، التي يظهر فيها آل مونتالبان، "المرتدون عن اليهودية". لقد أغرقت قوات البصاصين، التي كانت تمارس دور الشرطة الأنثروبولوجية للمسيحيين الجدد، هؤلاء المرتدين في حالة مستمرة من المجابهة والضيق والقلق. وأي تهور أو زلة لسان من الممكن أن يؤدي إلي خراب.
وكانت ورقة الخدمات الخاصة بالبصاصين الذين كانوا يعرضون التقارير الحقيقية والمزيفة علي السادة حكام التفتيش، سواء لأسباب عقائدية، مالية بفجاجة أو لحقد مهني علي المتهمين (وهي حالة فراي لويس دي ليون)، أيضاً ورقة النمّامين البسطاء والفضوليين، تفتحا أبواباً كثيرة في المجتمع الإسباني لتلك الفترة.
وكان هناك جيران يدعون بكل لطف أبناء اليهود ليقتسموا معهم شريحة من لحم الخنزير ويراقبون حركاتهم أيام السبت. وكانت شجرة عائلة المرتدين نميمة الشعوب. ولم يكن البصاصون يعرفون ساعات الراحة. هكذا يتحقق بكل كمال حلم بطل جمال الغيطاني الذي عنون باسمه روايته وكان ممراً لزنزانات نائبه زكريا بن راضي. لا يمكن أن يتضح أكثر من ذلك راحة البطل
المضاد عند ماتيو أليمان ضد مَنْ " يأتون ويحضرون الأكاذيب، يخترعون أكذوبات أخري، يمشون بالنميمة، يرفعون الشهادات، يضعون الشقاق، ينتزعون الشرف، يقذفون المحصنين، يطاردون المقتصدين، يسرقون المزارع، يقتلون الأبرياء ويعذبونهم". وتحول صيد المشتبه في سخطهم الديني أو الأيديولوجي في الإتحاد
السوفييتي كما في إسبانيا عائلة هابسبورجو إلي مسابقة قومية:
"يشترك فيها الجميع، بمرسوم وتحفيز من السلطة: الجيران، الزملاء، الأقرباء، فيتبصص بعضهم علي بعض، يفضحون ويوافقون ويصوتون ويغلقون العيون ويسدون الآذان حتي لا يروا ولا يسمعوا، حتي لا يعرفوا أن الشر ينتصر، وبالتالي يهبونهم الطريق".
وبنقل كلمات فيتالي شينتالينسكي من روسيا إلي إسبانيا، يمكن أن نقول أيضاً، علي ضوء التاريخ من الملكية المطلقة إلي موت فرانكو، إنه ما من عدو خارجي أساء معاملتنا مثلما فعل أبناء وطننا.في ليلة ما بين 16 و17 مايو 1934 اقتحم ثلاثة من عملاء المخابرات السوفييتية شقة أوسيب مانديلشتام بموسكو، وبعد تسجيل دقيق، صادروا مخطوطاته في حضور زوجته وأنّا أخماتوفا، التي جاءت بالصدفة من لينينجرادو، قبل أن يأخذوه كسجين إلي رئاسة المخابرات. وفي الاستجواب الذي خضع له، كانت قصيدته عن الرفيق ستالين، التي قرأها مؤلفها قبل ذلك بأسابيع علي أصدقائه، محل تركيز حاكم التفتيش: إنها النص الشهير ل "ساكن جبل كاوكاسو" الذي "يضحك شاربه شبيه الصرصار وتلمع رقبة حذائه". يتعرّف مانديلشتام علي قصيدته ويجد نفسه مضطراً إلي كتابة تاريخ الأشخاص الذين ألقاها عليهم. وكان من بينهم أخماتوفا وابنها ليو جيميليوف. كان كاتبو التقارير يعتمدون علي مساعدة ثمينة من قبل مخبرين قريبين من محيط أصدقاء الشاعر ومن زملائه متوسطي الموهبة، والوصوليين والحاقدين الذي يحلقون عالياً منذ أزمنة لا يمكن تذكرها.
كان يبدو أن محاكمة مانديلشتام جاهزة للتنفيذ-إهانة الرفيق القائد لا تستحق العفو ولا الرحمة لكن تدخل باتسيرناك الشجاع بمكالمة تليفونية لستالين- أنقذت حياته. فكّر : لو قُتِل مانديلشتام سيكون أكثر ضرراً من لو حُجز بلا حول ولا قوة مع عنكبوت المخابرات. بعدها سيُحكم عليه فقط بثلاث سنوات نفي، وعند عودته إلي موسكو في 1937، يتم اعتقاله من جديد ويُرسل ليتربي في معتقل العمل بفلاديفوستوك وكولايما. وفي عام 1940 تترك لنا أرملته ناديزهدا شهادة مؤثرة عن موته البطيء. ينسخ فيتالي شينتالينسكي الرسالة اليائسة التي بعثتها الأرملة إلي بيريا طالبة منه تدخله لكن المفتش الخائف لم ينل شرف الرد.

تُشكّل كتابات الندم الموجهة إلي ستالين نوعاً أدبياً حقيقياً: اللهفة إلي نيل غفران الخطايا المقترفة ضد الرب وحاكم الحيوات والممتلكات تشبه اللهفة التي عبّر عنها المشتبه في هرطقتهم لحراس العقيدة الكاثوليكية منذ أربعة قرون مضت. كانت السلطة المطلقة لإله الكرملين تسحر ضحاياها. ومانديلشتام، مثل أخماتوفا وبيلجاكوف وباستيرناك، لم يهربوا إلي هذه الأصنام المثيرة للضيق.
وكما قال في 1663 أنطونيو إنريكيث جوميث، مؤلف "حياة دُن جريجوريو جوادانيا"، الرواية الرائدة- لابتكار ذكريات البطل داخل الرحم- عن تريسترام شاندي وبراس كوباس، وكريستوبال نوناتو المتوفي في سجن سري بالمهنة المقدسة بتهمة اليهودية:
"هذه المحكمة أسوأ من الموت، حيث نري أنها تختص بالأحياء، لا بالأموات".
القمع الديني في إسبانيا التفتيشية والأيديولوجية في خدمة الستالينية تتعانقان: وأفضل دليل علي ذلك القضايا التي لا حصر لها المسجلة في أرشيفات المهنة المقدسة.

في عام 1965، خلال رحلتي الأولي للإتحاد السوفييتي بدعوة من إتحاد الكُتّاب، حدثني مواطن من بلدي وسني، "طفل سابق في الحرب"، عن انتظارهم بلهفة لنشر رواية قريبة لميخائيل بولجاكوف. أعترف أنها كانت المرة الأولي التي أسمع فيها اسم هذا المؤلف المدفون في النسيان منذ عقود. هذا الانتظار لنشر مخطوط تراكم فوقه التراب بصبر منذ وفاة الكاتب كان يبرز إعجاب الكثيرين السري بمؤلف مسرحي توقف تمثيل أعماله منذ الثلاثينيات. كان الأدب حينها ملجأ من يقاومون تلقين السلطة القهري، الذي كان يسميه العالم الفسيولوجي بافلوف "تلقيح الفكر في الشعب العائش في خضوع العبد": ولكي أحصل علي نسخة من ديوان أنّا أخماتوفا المسموح بنشره قبل رحلتي بشهور، وقفت في صف من مئات الأشخاص طوال ليلة أمام باب مكتبة حكومية كانت توزعه. كان بولجاكوف يقول، وسجّل المقولة شينتالينسكي، أن تكون كاتباً في روسيا يعني أن تكون لديك ميول بطل. ومؤلف"الأستاذ ومارجريتا" كان كذلك من كثرة ما قرأنا له ونعيد قرأت عمله العظيم.
إذن، العلاقة بين الوثائق والخطابات، المصادرة أولاً والمحفوظة بعد ذلك في أرشيفات KGB، تسمح لنا برسم سيرة فريدة للشعراء والكُتّاب والفنانين، حيث يلخص محتواها بيانات شخصية وعلاقات أدبية وأفكاراً سياسية ضرورية خاصة بمراقبتهم والسيطرة عليهم.
ويبدأ خيط الحبكة الذي يحيط بولجاكوف في تاريخ مبكر جداً مثل 1925 مع وصفه الخاص والساخر للمراقبة بأنها شئ من فرد من شيكا المخيفة، وبعد عام، مع تقرير التسجيل الرسمي ومصادرة مخطوطاته، التي من بينها يوميات بعنوان ذي مغزي"تحت الجبيرة". وفي 28 مارس، 1930، يرسل بولجاكوف خطاباً مؤثراً ومثيراً بعض الشئ إلي حكومة الإتحاد السوفييتي:
" أدعو إنسانية السلطات السوفييتية وأرجوها أن تهبني حريتي بكل شهامة، حيث أنني كاتب لا يمكن أن أفيدهم في البيت، في الوطن...وإن كان كل ما كتبته غير مقنع بما فيه الكفاية وتدينوني بالصمت إلي الأبد في الإتحاد السوفييتي، فأرجو الحكومة السوفييتية أن تعطيني عملاً...وإذا لم يكن هذا ممكناً أيضاً، أرجو الحكومة السوفييتية أن تهتم بي بما يترائي لها، لكن افعلوا شيئاً، لأنني، كمؤلف مسرحي كتبت خمسة أعمالاً، ونلت شهرة في الإتحاد السوفييتي وفي الخارج، أجد نفسي في هذه اللحظة علي أبواب البؤس والطرد والموت".

في 18 أبريل من نفس العام حدثت المعجزة. تلقي الكاتب المسرحي مكالمة تليفونية من الكرملين: الرفيق ستالين يريد أن يتحدث معه! المفاجيء وما لا يصدق في المحادثة المقتضبة، التي اهتم به من خلالها رب الأجساد والأرواح بالإتحاد السوفييتي ووعده بوظيفة، جعل بولجاكوف يرتاب في هوية المتصل. هكذا هاتف الكرملين وتلقي تأكيداً بإجراء المكالمة. هذا التدخل من الجهة العليا هزت الكاتب وبالتالي كانت خطاباته التالية في 1931 و1934 و1938 والمهداة إلي "السيد الموقر جداً يوسف فيساريونفيك"، والصادرة في دار نشر سبعة وعشرون حرفاً بمقدمة لمارثيلو فيجيراس، تعكس كما يقول الأخير مزيجاً من الريبة والانبهار. أراد بولجاكوف أن يكون ستالين "أول قارئ له" ويعترف له أن حلمه ككاتب أن يقابله شخصياً. وعند إلغاء السلطة الإلهية للسياسة والكنيسة الأرثوذوكسية، كان ستالين يتمتع بمزايا وخصائص كليهما. كم كانوا يعانون في تطهير السجون والمعتقلات ويخافون أن تتوجه إليه إدانتهم بالجحيم. ورغم أن بولجاكوف لم ينل الإذن بالسفر مثل زامياتين، بل نال عملاً متواضعاً، إلا أنه استطاع العيش كما تحكي لنا أرملته، رغم حالة الضيق الناتجة عن خوفه من مصادرة مخطوط روايته. "الأستاذ ومارجريتا" نُشرت في النهاية عام 1966، بعد 26 عاماً من وفاة مؤلفها.

عند عقد علاقة بين المهنة المقدسة وجهاز الشرطة والاستخبارات السوفييتية، لا ننسي بالطبع الاختلافات الموجودة بينها فيما يتعلق بالفترة التي تطورت فيها أنشطتها والمبادئ التي تقوم عليها. الشرطة الأيديولوجية التي تجسدها كانت قائمة علي أسس أنثروبولوجية في حالة محاكم التفتيش التي أنشئت لتراقب عن قرب اليهود المرتدين من خلال كلامهم وعاداتهم وكتاباتهم. وكان قلقهم الثقافي، نتاج الضغط المستمر الخاضعين له، يجعلهم يميلون للعقلانية-"خسائر فلسفية"، كما يسميها ميننديث بيلايو- التي تنتقل من فرناندو دي روخاس إلي سبينوثا وأورييل دا كوستا الذي درسه ريبا جيداً، وبداية من لوثر، تنتقل للبروتستانتية التي تنتشر في أوروبا من منتصف القرن. وعزز تهديد البروتستانتية هذا الضغط، خاصة مع عودة فليب الثاني ملك إنجلترا وفنلندا. وكانت محاكم التفتيش تتمتع بشبكة من المخبرين والبصاصين المعروفين لدي عامة الناس: حيث الوشاية واجباً وطنياً ودينياً من أجل أعين"جسد سليم للأمة الإسبانية" وحراس العقيدة الكاثوليكية كانوا يتمتعون بتقدير اجتماعي، ومزايا اقتصادية وترقيات في السلم الكنسي والإداري.
لهذا السبب، كانت دراسة مؤلفين كثيرين من فترة ما تسمي بالعصر الذهبي، بعيداً عن السياق الذي تطور فيه عملهم، تبدو لي متسرعة الأحكام ومضللة مثل قراءة أعمال أخماتوفا أو بولجاكوف أو مانديلشتام، فلا يصح إلغاء الظروف الدراماتيكية التي أعدت فيها طبقاً لما تبرهنه أرشيفات مطارديهم المعروضة في ثلاثية شينتالينسكي.
وكما يؤكد مننديث بيلايو نفسه، فيما يخص بروتستانتيي أشبيلية وبلد الوليد، امتلأت السجون بالناس. مئات منهم أحرقوا في محرقة الجثث. وكانت الكتب والمخطوطات تثير الخجل سواء لما تكتبه أو لما تسكت عنه. و"الطوق الصحي" الذي استحضره باتايون عند التعليق علي نظام العودة لإسبانيا الخاص بمن كانوا يدرسون في فنلندا وبلدان أخري ملوثة بالهرطقة، أغلق حدودنا بالطوب والأسمنت. والذين كانوا يبدون قلقاً روحانياً، خاصة من ذوي الأصول اليهودية، كانوا خاضعين لمراقبة ضيقة بينما كانوا يسجلونهم بكل نوع من الجرائم. والإشارات المتعددة للفترة "الزمن الذي نعيشه" أو"زمن خطير جداً ومحاط بالزجاج" يمكن أن تلخص جو الخوف والخناق لمن يقول عنهم جمال الغيطاني في الزيني بركات:"كانوا يتنفسون بطريقة مختلفة عن بقية جيرانهم".

خلال إقامتي في الإتحاد السوفييتي تعرفت علي اثنين من الشخصيات الذين ذكرهم شينتالينسكي في ثلاثيته العظيمة: أليسكاندر تفاردوفيسكي وليلي بريك.
الأول، الحائز علي جائزة ستالين في الأدب وعضو اللجنة المركزية بالحزب، كان قد أوشي به مع ذلك كمناهض للسوفييتية خلال سنوات الرعب الكبير، واجتهد منذ موت الديكتاتور في
فتح مكان في المدار الأدبي حيث أمكن للمبدعين أن يتنفسوا: مجلة نوفي مير، التي ذهبت إلي مكتبها لزيارته مع مترجمي. استقبلني تفاردوفيسكي بحماس كبير: كنت أول كاتب إسباني من فترة ما بعد الحرب الأهلية الذي يتعرف عليه ولم أكن بالإضافة لذلك منضماً إلي PCE (الحزب الشيوعي الإسباني)الذي كان سرياً حينها. وشرح لي مشكلاته مع الرقابة وسريعاً، دون أن تأتي مناسبة، قال لي إنه حتي لو ترأس المجلة لن ينشر شيئاً لبابلو نيرودا. سألته لماذا وأجابني:" هو كان يعرف ما يحدث هنا وبدلاً من إعلانه، صفّق لكل الصدامات". ولضعف إيمانه ببطولة النومنكلاتورا(صفوة المجتمع الروسي) تحول إلي مدمن للفودكا. كان يخشي نهاية ذوبان خروتشوف وتوقعاته المتشائمة تحققت. وتهدمت نوفي مير بعدها بقليل ورحل هو بعد هذه الضربة النهائية للمجلة التي حملت آماله وأشواقه.
أما ليلي بريك، زوجة الناقد أوسيب بريك وأخت إلسا تريولت، زوجة لويس أراجوان، فقد تعرفت عليها خلال زيارة لأوبرا موسكو. كانت سيدة ثرية، مرتدية ملابس فضفاضة، وفي المربع الذي شغلته كان حولها عدد صغير من شبان متكلفين(الوحيدون الذين رأيتهم في الإتحاد السوفييتي). وكان من بين عشاق شبابها الكثيرين تبرز ماياكوفسكي، التي كانت تعتبرها الوريثة الروحية بعد انتحارها. وبينما كانت ماياكوفسكي تحارب في جانب وبشكل منهجي أخماتوفا، التي كانت تتهمها بقولها:"مهاجرة من الداخل"، كانت في جانب آخر تكتب لستالين متحسرة علي عدم اهتمام وسائل الإعلام بالأعمال الشعرية لحبها القديم. وبداية من هنا، يكتب شينتالينسكي، الناقدة ماياكوفسكي صارت جريمة ضد الإتحاد السوفييتي.

كان غموض وتناقضات من ازدهروا تحت السلطة السوفييتية- مثل جوركي الواشي بالصدامات التي تعرض لها مثقفو فترة لينين، والمنفي في إيطاليا خلال سبعة أعوام والمدافع عند عودته عن الإتحاد السوفييتي الخاص بزامياتين وبولجاكوف ومؤلفين آخرين طاردهم البوليس السياسي وتحوله بعدها لطوطم بعينين معصبتين في نهاية حياته- يعكس حال كثير من الكُتّاب والفنانين الذين تنازلوا عن أفكارهم المثالية ليستريحوا في ظل حياة فضفاضة ومنعمة يمنحها لهم رجال السلطة. ويكثر عدد نماذج الوشاة الإراديين الذين أسماهم ثيرنودا "بطون ممتلئة" سواء في الإتحاد السوفييتي أو في إسبانيا التفتيشية أو في فترة حكم فرانكو ولا يسع المجال لذكرهم هنا.
وتعتبر حالة أسقف طليطلة، بارتولوميه دي كارانثا، صاحب المسيرة المضيئة التي استحقت عداوة وحقد الكثيرين من زملائه مثل الجنرال التفتيشي العنيف فرناندو دي بالديس واللاهوتي الحريص علي الشكليات ميلتشور كانو، أقول إنها خير مثال للأخطار التي كان يحصدها، دون تمييز في التدرج الوظيفي، من كانوا يدعون لمسيحية أكثر انفتاحاً علي الهواء الخارجي في تلك الأزمنة القديمة. ومبعوثاً من قبل فليب الثاني إلي انجلترا وفنلندا ليتحدي الهرطقة اللوثرية، اتهموه عند عودته لإسبانيا بأنه قد تلوث بآراء وأفكار الزندقة. وكان نشر كتابه "تعاليم مسيحية" نقطة البدء للمعركة اللاهوتية المحبوكة ضده بعناية. وبالتالي سحبه حراس المهنة المقدسة من سريره وقادوه تحت البنادق إلي بلد الوليد، واستمر سجيناً مدة ثمانية أعوام ونصف حتي نُقل إلي روما بعد تدخل ملّح من البابا. وعن ظروف اعتقاله أترك الكلمة لمؤلف "تاريخ الزنادقة الإسبان":
"تعامل بالديس بسفالة مع كارانثا، فعين عليه سجاناً يسمي دييجو جونثالث، الذي كان نموذجاً يسجل في الذاكرة مظالم السجن، حيث كان يتلذذ بتعذيبه بالبطيء. وضع أقفالاً علي نوافذ الزنزانة، فمنع بذلك الضوء والهواء؛ حبسه في مكان ليس فقط مع رجال، بل أيضاً مع مصابيح وكلاب وبنادق قديمة؛ كان يعطيه الطعام في أطباق مكسورة؛ كان يضع ملاءة السرير كمفرش لأكله؛ كان يقدم له الفاكهة علي غلاف كتاب؛ ووصل حد الإهمال أن تحولت الزنزانة لإسطبل خيول. وبدون توقف كان يحضر له رسائل مزيفة ولا يرسل رسائله؛ كان يمنع دخول زواره؛ كان يسخر منه وجهاً لوجه بإيماءات وحركات غريبة، وبكل الطرق كان يعجزه ويقتله أكثر من لو كان يعامل مسلماً أو يهودياً".
وعن هذا الدييجو جونثالث يعطيناً خوسيه خيمينيث لوثانو خبراً كاملاً في كتابه "الراهب لويس دي ليون".حاصلاً علي الإجازة العليا وحاكماً في محكمة تفتيش بلد الوليد، قام بدور أساسي في العملية المنظمة ضد أتباع العبرانيين السلامنكيين لحقده الشديد والمهني وكرهه المناهض لليهود:
" لأن جراخال والراهب لويس كانا من المرتدين البارزين، أعتقد أنهما لا يجب أن يريدا سوي إخفاء عقيدتهما القديمة، وإلا وقعا تحت طائلة القانون، لهذا أري أن لويس دي ليون كان سجيناً جاء إلي المعتقل من قبل المهنة المقدسة ليواصل مع المحقق تهمته".
مزيجاً من المفتش السوفييتي والرئيس النازي، تميز دييجو جونثالث بالوحشية- من الأفضل أن نقول سادية- التي عامل بها ضحاياه. وكانت مراسلات الأستاذ جراخال المحركة للمشاعر ومراسلات ألفونسو دي جوديال _ اللذان سقطا في نفس الغارة التي سقط فيها الراهب لويس ومارتينيث دي كانتالبييدرا- عن بعض ظروف الاعتقال شبيهة جداً لما تعرضت له الحركة الإصلاحية المقضي عليها في ثلاثينيات القرن الماضي، وقد أرشفت هذه المراسلات بيد السادة حكام التفتيش وكلاهما لقي حتفه في زنزانته. وكانت الصورة المثالية التي يود الجلاد دييجو جونثالث أن يري عليها المدان "تحوله لحيوان عار"، كما وصف نفسه بعد ذلك بقرون أحد ضيوف لوبيانكا.
ما حدث لإسحاق بابل، مؤلف "الفروسية الحمراء" وعدد آخر من القصص المنشورة في عشرينيات القرن الماضي، يستحق فصلاً مستقلاً. فبعد أن أقصي نفسه بإرادته عن الأدب المكرس لتشييد الشيوعية، عاش بعد ذلك فترة طويلة من النبذ الرسمي مثل عدد آخر من كبار شخصيات الأدب الروسي (بيلي، زامياتين، أخماتوفا، مانديلشتام، بولجاكوف، باسترناك،الخ). وعندما بدأت الموجة الثانية للرعب الكبير، صار ارتباطه بمشتبه فيهم آخرين لسخطهم علي النظام ورحلاته للخارج هدفاً مفضلاً للتشيكا. وكما يذكّرنا فيتالي شينتالينسكي، كان المفوضون الثقافيون في فترة لينين وتروتسكي يطلبون أن يكون "لكل كاتب ملخصه". وبعد 12 عاماً، طافت علي سطح العمليات الملخصات السرية للمبدعين العنيدين. هكذا كان استجواب بابل من قبل مفوضي الشعب العنيدين مركزاً في رحلاته. تحدث بابل في برلين مع بيكولايفسكي الحاد، مؤلف سيرة كارل ماركس الممتازة التي استوحيت منها روايتي عن "أب الشيوعية العلمية"، ومع بوريس سوفارين التابع لتروتسكي، والمطرود من الإتحاد السوفييتي تحت الضغط العالمي الذي سبّب اعتقاله. ما يهم المفوض التفتيشي هو نشاطات الجاسوس أكثر من محادثاته المناهضة للإتحاد السوفييتي:
"كان لك لقاءات كثيرة مع أجانب، من بينهم عملاء في أجهزة التجسس. هل حاول بعضهم تجنيدك؟ ننبهك أن أي محاولة صغيرة من جانبك لإخفاء أي إيماءة من نشاطك كعدو ستكون غير مقنعة".
"في 1933، خلال رحلتي الثانية إلي باريس، جندني الكاتب أندريه مالاروكس لعمليات تجسس لصالح فرنسا".
"حدد أي نوع من المعلومات السرية يريدها مالاروكس".
يبدو مقتطعاً من رواية بوليسية رديئة سيناريو الاستجواب الهذياني هذا، حيث يعد كل أجنبي جاسوساً وكل موعد "بداية علاقة" وكل حوار نقلاً لمعلومات وتقارير سرية. ولم يتعرض بابل للتعذيب بوحشية ميرهولد التي وصفها في رسالته المؤثرة إلي مولوتوف، والتي أعاد فيتالي شينتالينسكي كتابتها في عمله. لأنه مقتنع أنه بتعذيب وبدون تعذيب سيعترف في النهاية ب"جرائمه"، تعاون مع المحققين في كتابة ملخصه:
"انقسمت ذاتي إلي شخصين. بدأ الأول يبحث عن جرائم الآخر، ولما لم يجدها اخترعها. كان المحقق فعالاً، متعاوناً في هذه الأمور، وهكذا ابتدعنا معاً".
الخطاب الأكثر إثارة للشفقة خطاب بابل لعناية مفتش الشعب الداخلي للإتحاد السوفييتي والذي يعترف فيه بدماره الداخلي الناتج عن ميوله التروتسكية، كتاباته المستبعدة عن اهتمامات البناء الشيوعي والقاريء السوفييتي. كما فعل ذلك بعد ثلاثين عاماً الشاعر الكوبي هيبيرتو بادييا، وفي سخرية متعمدة من الاعترافات للشرطة السوفييتية يكتب بابل:
جاءني التحرر في السجن. فخلال شهور الحبس هذه تأملت ربما أكثر مما تأملت في حياتي كلها وفهمت أشياءً كثيرة. وأمامي تجسدت في صفوف وبكل وضوح مزعزع كل أخطاء وجرائم حياتي، فساد كل شيئ وعفونته كانت تحيك بي، خاصة الدائرة التروتسكية".
ومع كل، في نهاية الاعتراف، ينفي المدان قائلاً:
"لست مذنباً في شيء، لم أكن أبداً جاسوساً، ولا قمت بنشاطات ضد الإتحاد السوفيتي. لقد كذبت في اعترافاتي ضد نفسي. أطلب منكم فقط أن تهبوني الفرصة لأنهي عملي..."
وفي 27 من يناير عام 1940، صدر الحكم بإعدام بابل وحرقه في محرقة موسكو لمحو كل آثاره. وبعد ذلك بأيام يصدر حكماً بالقتل بالرصاص علي ميرهولد وكولستوف، وكذلك علي محقق لوبيانكا يزهوف الوحشي، الذي أكد في اعترافه"سأموت واسم ستالين علي شفتي".
أعود لكلمات رسول الخليفة الأموي لسكان الكوفة المتمردين وإلي الميول الاستراتيجية البوليسية لزكريا بن راضي والزيني بركات في رواية الغيطاني. فالاستجواب الذي خضع له ليو جوميليوف بعد اعتقاله في سنوات الرعب الكبير، (وهو بالمناسبة ابن شاعر كبير يحمل نفس الاسم وأعدم سنة 1919 وابن أنّا أخماتوفا)، يلخص أمام حكامه مضمون قصيدته"إكباتانا" التي صادر عملاء الشرطة الروسية مخطوطها:
" حكاية هذا العمل هي حكاية موت جورباج، والي مدينة إكباتانا. ولأن السكان لا يريدون البكاء لموته، يأمر الملك أن يُعرض جسد جورباج، لكن السكان أيضاً لا يبكون. حينئذ يأمر الملك بقتل مئات من المواطنين، وبعدها تبكي المدينة بأسرها".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.