تبدأ غواية حلمي سالم بالنسبة لي، من نقطة أساسية في دفتر الشعر ، تتقاطع وتتشابك بطفولة وحميمية مع نقطة أساسية أخري في دفتر الحياة والوجود.في دفتر الشعر يتراءي حلمي سالم كفاتح سكك وطرق، ومجترح أشكال وصيغ شعرية بامتياز. وفي كل هذا لا يكف عن اللعب والمناوأة والمناورة فوق سطح القصيدة، ويغامر بالغوص في الأعماق، وينسي أنه عمليا لا يجيد السباحة، لكنه يغوص ويطفو بقوة الفن وقلق الوجود، مسكونا برغبة عارمة في أن تتحول القصيدة إلي فخ لاصطياد الأمل والحلم، اصطياد اللذة والحرية، اصطياد الزمن والوطن، وقبل كل شيء اصطياد الذات، ثم كيف بمحبة الشعر، بمحبة الجسد تتحمل القصيدة صدمة الروح في المرآة. في هذه المغامرة من الصعب أن ندلف إلي نص حلمي سالم من باب واحد، أو نأخذه رهينة لدلالات ورموز ومضامين معينة، قد تخدعنا بوميضها الخاطف فوق السطح، أو يغرينا بريق الإيقاع وكثافة التراكيب والصور المباغتة المشطوفة بمهارة الصانع والعراف معا، وكأنها قدت للتو من صخرة اللغة والحياة. ففي ظني أن نص حلمي سالم حين يتسع لنفسه، يتسع في الوقت نفسه للآخر، يفيض عليه ويغمره في مائه الخاص، لذلك من الصعب أن نتمثل الآخر علي تنوع أقنعته ومحمولاته الإنسانية وأزمنته الحياتية والتراثية كحقيقة واقعية مكتفية بذاتها، وإنما كإمكانية لوجود يظل معلقا بمدي فعاليته في النص، وبقدرته علي اكتشاف ذاته من جديد في فضائه الخاص. هذه المغايرة في التعامل مع الآخر، لا تبحث عن نقطة توازن أو اتزان في نص حلمي سالم، بقدر ما تظل مسكونة بمغامرة الهتك والاجتراع والتخطي، وهي مغامرة مفتوحة علي احتمالات شتي، تكره الإقامة في عباءة شكل أو مضمون معين، وتكرس دوما لفكرة السفر والإبحار، بين شطوط اللغة، ومرافئ المعرفة والذات والتاريخ. من بين كل هذا يبقي القلق المسكون بجرأة طرح الأسئلة، واكتشاف طزاجتها وحيويتها من زوايا ومساقط مهمشة ومنسية في مدار الرؤية ودهاليز الواقع والحياة، هو محور الجذب لغواية حلمي سالم منذ لحظة تعرفنا قبل أكثر من أربعين عاما. في البداية اتسم هذا القلق بنزق وجودي مشرَّب أحيانا بمسحة تمرد مستقاة من عباءة الايدولوجيا الماركسية، وقد انعكس هذا آنذاك علي شعر حلمي سالم في الانشغال باللعب علي وتر الثنائيات المتضادة، مما حد من فعالية الصراع وأصبحت مهمة النص هي احتواؤه والتعبير عنه بأي شكل، وأيضا إبراز طبقاته المتنوعة، في معادلات ضدية ساكنة، ومفارقات خارجية كثيرا ما تبدو مقحمة علي النص. هذا القلق كان يشع في ومضات شعرية خاطفة، لكنها سرعان ما تنكمش تحت وطأة الايدولوجيا، وتتوه في المسافة بين الشعر وبين الشعار خاصة في مظانه الطبقية والسياسية. لكن حلمي سالم بقوة القلق نفسه سرعان ما تمرد علي لعبة الثنائيات الجامدة، بلعبة أخري أكثر رحابة، تتميز بتنوع الأقنعة، وتتيح للذات تبادل المواقف والأدوار مع الآخر، وامتلاك حيوية تشكيل مناطق الثقل والخفة في النص.. ومن ثم كانت مغامرة الكولاج الشعري، بمثابة خيط الوصل بين مفارقات أزمنة بعضها مشدود إلي الماضي، ويشكل نوعا من النوستالجيا الخاصة، وبعضها مفتوح علي الحاضر والقادم، وفي الوقت نفسه، مسكون بانبثاقات وتدفقات روحية وجسدية، تتنوع طرق اكتشافها من قصيدة لأخري، وفي ظل طاقة فنية قادرة علي أن تخلق الشعر من عثرات الحياة واحباطاتها التي لا تكف عن المباغتة. لقد وسًّع الكولاج الشعري من مشهدية نص حلمي سالم، ومنح الإيقاع مساحة أرحب من التوتر الدرامي، وأصبح صوت الشاعر ممتلئا بالخلفية يتماهي، ويتوحد، يئن ويصرخ، يزهو ويلعب، في فانتازيا صاعدة وهابطة من الأسفل إلي الأعلي، تعيد ترتيب الحلم في فراغات الشخوص والأشكال والعناصر والأشياء.. فهكذا، لم تعد القصيدة تبحث عن موضوع، لقد أصبحت هي الموضوع ذاته، هي الشكل ذاته، هي الشاعر في أقصي لحظات التجلي الحميم. تحت مظلة هذا الكولاج الذي أصبح رافدا أساسيا في شعر حلمي سالم، أذكر أنني كثيرا ما كنت أشاكسه، وأقول له بحس أبيقوري محض، أنت شاعر غريزي بامتياز. الشعر هو لذتك الخالصة، لكنه مع ذلك يبدو شيئا عاديا كالأكل والشرب، كالنوم واليقظة، كالحب والكره، كالجنس والعشق. لا فواصل بين قصيدتك وهذه الحيوات التي تظل محض سلوك يحقق فسيولوجياً فعل الشبع والارتواء، فيبتسم ويقول:" نعم ، أنا أمارس كل هذه الحيوات لكن ليس فقط لأحقق فعل الارتواء أو الشبع وإنما لأستخلص من كل هذا ما أشرت أنت إليه، وهو متعة اللذة الخالصة، لذة الكتابة، لذلك أنا أجل كل هذه الحيوات وأقدسها. فأنا كائن غريزي بقوة الشعر، وإنسان عادي بقوة الحياة ". لكن، الآن يا صديق عمري، وفي هذه الشهادة المرتعشة اسمح لي بتعديل بسيط في حوارنا الخاطف هذا، ربما تغافلت عنه من فرط سماحتك ونبلك..اسمح لي أن أقول أنك بمحبة الحياة التي كنت كل يوم تشدها من أذنيها وتضحك، عشت بيننا وستظل شاعرا خلاقا وإنسانا نادرا، وأنك كنت توزع هذه المحبة علينا، وتربت علي أكتافنا كطفل.. وتهمس" الحداثة أخت التسامح ".