ما أسعد الأفكار السوداء والمبادئ الهدامة بالفراغ، ففي عبثيته تتمدد، وفي فوضاه تسبح منتشية، وهو البيئة المثالية لتكاثر تلك المبادئ المنكرة والأفكار المدمرة، وهي الأجواء الأنسب لانتشارها كالجراثيم بصورة وبائية مهلكة، وللأسف ذلك ما حدث في بلادنا علي مدي العقود الأخيرة، حيث استولي الفراغ علي الساحات، وأخذت تعربد فيه الأفكار السوداء وجراثيم التطرف والتشدد متعانقة، - وياللعجب - مع "فيروسات" العدمية والانحلال والإباحية، مما يدعو إلي التساؤل الملح: أية قوة جمعت بين النقيضين؟، وأية كارثة قربت بين الضدين؟، وفي الفراغ أخذ الفكر الهدام ينتشر في خفة وسرعة مذهلة، وبدت الأذهان والأفئدة أمامه كالفريسة السهلة، التي تسقط في الفخاخ المنصوبة، بلا أدني حذر، وقد أعد "الفراغ" الذي صنعه التخلي عن الأدوار الملحة والواجبات الضرورية، ممرات آمنة وساحات ممهدة وطرقات معبدة للسقوط، وللأسف انشغلت المؤسسات الثقافية القومية بأشياء أخري غير التصدي لزحف الأفكار السوداء وتمدد المبادئ الهدامة، كانت تلك المؤسسات تراوح في أمكنتها، وتتحرك بعيدًا عن الساحات المستهدفة، والشوارع والحارات التي ابتلعها الفراغ بكل سهولة ويسر، حيث لم يجد الفكر المتطرف والقناعات المريضة أية مقاومة تذكر من الجهات الثقافية المفترض أن تكون هي السد المنيع، وحائط الصد الأول في مواجهة الزحف العدمي، والهجوم الأخرق، فجاءت النتائج مروعة كما رأينا في السنوات التي سبقت الثلاثين من يونيو، ولولا أن صرحًا عملاقًا كمكتبة الأسكندرية بدأ منذ أشهر في النزول بثقله إلي الساحة، وانبري للتصدي بجرأة عبر مؤتمراته المنظمة وفعالياته المعدة بعناية إلي سيل التطرف وعواصف التشدد، وأعاصير العدمية، لسيطر الفراغ مجددًا، فالمؤسسات الأخري لا تعي خطورة اللحظة، ولا تدرك عظم المسئولية، ولا يمنعنا هذا من الإشادة بالمحاولات الجادة التي يبذلها د.أحمد عواض رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة الآن كي ينهض بهذه الشبكة الهائلة من الشرايين التي يمكن من خلالها ضخ الحيوية والرقي في شتي الأنحاء ومختلف الأطراف، ولكن الأمر يحتاج إلي أكثر من مؤسسة ويتطلب تضافر الجهود بقوة لإنقاذ ما يمكن، أما ما تبذله مكتبة الإسكندرية من جهود لملء الفراغ فأمر مشهود، وتجربة حقيقية أرجو أن تحتذي.