«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجورب اللامع و«الجين »

في أحد الأيام، توقفت سيارة »فولجا»‬ سوداء أمام منزل »‬زارا». كانت »‬زارا» تقف علي السلالم، حين حدث ذلك. فُتِح باب ال»‬فولجا»، وظهرت منه قدمٌ مغطاة بجوربٍ لامع، ثم لامست الأرض. في البدء، خافت »‬زارا».. ما الذي يجعل »‬فولجا» سوداء تتوقف أمام بيتهم؟ لكنها سرعان ما تجاوزت خوفها حين ضربت أشعة الشمس الجزء السفلي من ساق »‬أوكسانكا». الجدّات العجائز اللواتي كن يجلسن علي المقعد الخشبي العريض بجوار البيت، صمتن فجأة، ورحن يحدّقن في المعدن البرّاق للسيارة، والساق اللامعة. لم ترَ »‬زارا» شيئًا مماثلًا من قبل. الجورب بلون البشرة بالضبط. لا يبدو كجورب حقيقي، في الواقع. لعله ليس جوربًا، بالفعل. لكن الضوء المتلأليء علي الساق، يؤكد أنها مغطاة بشيء، وأنها ليست عارية. كأنما هناك هالة تحيط بالساق. هالةٌ تشبه تلك التي تمتلكها »‬مريم العذراء»، »‬أم الرب». نورٌ يشع في كل اتجاه. تنتهي الساق بكاحلٍ دقيق، وحذاءٍ ذي كعبٍ مرتفع.. ويا له من حذاء! الكعب يضيق في المنتصف، ثم يعاود الاتساع. أشبه ما يكون بساعةٍ رملية. لقد رأت »‬مدام دي بومبادور» تنتعل حذاءً مشابهًا، في كتب تاريخ الفن؛ إلا أن الحذاء الممتد من باب السيارة أكثر رقةً وأناقة، وله طرف مدبب، كما أن كعبه أطول. هبط الحذاء واستقر علي الأرض المتربة، واصطدم طرف كعبه بحجرٍ في الطريق، مصدرًا صريرًا مرتفعًا، سمعته بوضوح من مكانها في مدخل البيت. ثم نزلت المرأة بأكملها من السيارة. »‬أوكسانكا».
نزل وراءها رجلان، من المقعدين الأماميين. يرتدي كل واحد منهما معطفًا جلديًا أسود اللون، ويحيط رقبته بسلاسل ذهبية غليظة. لم يقولا شيئًا. وقفا بجوار السيارة، ينظران إلي »‬أوكسانكا». كان هناك الكثير الذي يستحق الرؤية. إنها جميلة. لم تقابل »‬زارا» صديقتها القديمة منذ فترةٍ طويلة. منذ انتقالها إلي »‬موسكو» للالتحاق بالجامعة. تلقت منها بضع بطاقات بريدية، ثم خطابًا تقول فيه بأنها ستسافر إلي ألمانيا للعمل هناك. بعدها، انقطعت أخبارها تمامًا، حتي هذه اللحظة. التغير مدهش. لمعت شفتا »‬أوكسانكا» ببريقٍ أخاذ، كالفتيات اللواتي تزين صورهن أغلفة المجلات الغربية. كانت تضع فراء ثعلب حول كتفيها. لونه بني فاتح. ليس لون الثعالب المعتاد، وإنما لونٌ يقترب من مزيج القهوة بالحليب.. هل هناك ثعالب بهذا اللون؟
اتجهت »‬أوكسانكا» إلي المدخل الأمامي للبيت، وحين لمحت »‬زارا»، توقفت ولوحت لها بيدها. ولأنها ثنت أصابعها قليلًا، فقد بدا أنها تخدش الهواء بأظافرها المصبوغة بالأحمر. التفتت الجدّات العجائز نحو »‬زارا». أحكمت إحداهن عقدة ال»‬إيشارب» تحت ذقنها. سحبت أخري عصاها، ووضعتها بين ساقيها. أمسكت الثالثة عصاها بيديها الإثنتين.
انطلق نفيرٌ مرتفع من السيارة ال»‬فولجا»
اقتربت »‬أوكسانكا» من »‬زارا». صعدت الدَرَج مبتسمة. انعكست الشمس علي أسنانها البيضاء النظيفة. مدت يديها الشبيهتين بالمخالب تجاهها، وعانقتها. لامس فراء الثعلب خدّي »‬زارا». رمقها بعينيه الزجاجيتين. بادلته النظر. فكرت للحظة بأن نظراته مألوفة، ثم تذكرت بأن لعينيّ جدّتها الشكل ذاته، في بعض الأحيان.
همست »‬أوكسانكا»:
اشتقتُ إليكِ كثيرًا.
فتحت شفتيها ببعض الصعوبة عند حديثها، بفعل البريق اللزج الذي يغطيهما كالصمغ.
طيّر الهواء خصلة ملتوية من شعر »‬أوكسانكا»، فالتصقت بشفتيها المصبوغتين. أزاحتها بيدها. تركت الخصلة أثرًا أحمر اللون علي خدها. رقبتها تمتليء بخطوط حمراء مماثلة. كانت كمن تعرض لصعق كهربائي. ضغطت »‬أوكسانكا» علي يديّ »‬زارا»، التي شعرت بأن أطراف تلك الأظافر الحادة تنغرز في جلدها.
قالت »‬أوكسانكا» ضاحكة، وهي تعبث بشعر صديقتها:
عليكِ أن تذهبي للكوافير يا حبيبتي. لونٌ جديد، وتسريحة عصرية!
لم تقل »‬زارا» شيئًا.
حسنًا.. تذكرتُ حال صالونات التجميل هنا! ربما كان من الأفضل فعلًا ألا تسمحي لهم بلمس شعركِ.
أطلقت ضحكة جديدة، وقالت:
هيا بنا لنشرب الشاي.
اصطحبتها »‬زارا» إلي الداخل. حين عبرتا المطبخ المشترك للبناية، عمّ الصمت المكان. أنّت الأرضية تحت وقع خطواتهما. تجمعت النساء لدي الباب، لمراقبتهما. أصدر شبشب »‬زارا» المهتريء صوتًا حادًا عند احتكاكه بذرات الرمل، وقشور بذور عبّاد الشمس التي تغطي الأرض. أحست بعيون النساء وهي تخترق ظهرها في فضول.
أدخلت »‬أوكسانكا» إلي الشقة، وأغلقت الباب. توهجت »‬أوكسانكا»، كنجمٍ لامع، داخل الحجرة المعتمة. برق قرطها، كعيني قطة. سحبت »‬زارا» طرف كُمي ثوبها المنزلي، تغطي بهما يديها المحمرتين.
لم تتحرك عينا الجدّة. كانت تجلس في مكانها المعتاد، وتنظر خارج النافذة. بفعل الضوء القادم من الخارج، بدا رأسها أسود اللون. الجدة لا تغادر مقعدها أبدًا. تواصل النظر من النافذة، ليل نهار، في صمتٍ تام. الجميع يخشي الجدة، علي نحوٍ ما، بمن في ذلك والد »‬زارا»، رغم أنه كان سكرانًا طوال الوقت. ثم تلاشي شيئًا فشيئًا، ومات. بعد ذلك، انتقلت والدة »‬زارا» إلي بيت الجدة، لتعيش مع ابنتها. لم تكن الجدة تحبّه، ولم تكن تشير إليه إلا بكلمة »‬تيبلا»، والتي تعني »‬الحثالة الروسية». لكن »‬أوكسانكا» كانت معتادة علي الجدة. اقتربت منها في صخب، لتحيتها. أمسكت بيدها، وراحت تثرثر معها بمرح. ربما ضحكت الجدة قليلًا. بدأت »‬زارا» في إزالة الأشياء الموجودة علي الطاولة. فتشت »‬أوكسانكا» في شنطة يدها، إلي أن عثرت علي لوح شوكولاتة، بغلاف براق، لا يقل لمعانًا عن صاحبته. ناولته للجدة. أوصلت »‬زارا» أنبوب تسخين الماء المعدني،بالكهرباء، ووضعته داخل برّاد الشاي. ناولتها »‬أوكسانكا» كيسًا بلاستيكيًا.
ستجدين فيه أشياء متعددة.
ترددت »‬زارا» في قبوله. بدا ثقيلًا.
خذيه. كلا! انتظري!
مدت »‬أوكسانكا» يدها بداخله، وأخرجت زجاجة.
هذا مشروب الجين. هل تناولت جدتك الجين من قبل؟ لعلها تجربةٌ جديدةٌ بالنسبة لها.
جلبت كئوسًا صغيرة من علي الرف، وملأتها بالشراب. قدمت كأسًا منها للجدة. تشممته الجدة أولًا، ثم ابتسمت ابتسامةً عريضة، وضحكت، وصبت الكأس في فمها. فعلت »‬زارا» مثلها. اشتعل حريقٌ لاذعٌ في حلقها.
الجين هو المكون الأساسي في مشروب جين وتونيك. إننا نصنع الكثير منه لزبائننا.
بحركاتٍ مسرحية، حملت صينية وهمية، وقالت بإنجليزية ذات لكنةٍ ثقيلة:
هل ترغب في شيءٍ آخر يا سيدي؟ المزيد من الجين والتونيك، ربما؟
أضافت بالألمانية:
المزيد؟
كان صخبها ومرحها مُعديين. مدّت »‬زارا» يدها وكأنها تمنحها بقشيشًا، وأومأت برأسها تشكرها علي الكأس الجيد. تعالت ضحكاتهما، كالسابق.
جلست »‬أوكسانكا» وهي تلهث، عقب مسرحيتها الصغيرة، وقالت:
لقد جعلتكِ تضحكين.
أضافت:
كنا نضحك كثيرًا. هل تذكرين؟
أومأت »‬زارا». بدأ الماء يغلي. انتظرت »‬زارا» قليلًا، ثم أزالت منه الأنبوب المعدني. وضعت بعض أوراق الشاي في إبريق، وسكبت عليها الماء الساخن. حملت الفناجين إلي الطاولة. كان بإمكان »‬أوكسانكا» أن تبلغهم بموعد زيارتها، مسبقًا. أن ترسل لهم بطاقة مثلًا. عندها، كان سيتسني ل »‬زارا» أن تقدّم لها شيئًا تتناوله مع الشاي، وأن ترتدي ثيابًا لائقة تقابلها بها بدلًا من هذا الثوب المنزلي، والشبشب القديم.
جلست »‬أوكسانكا» إلي الطاولة. أعادت ترتيب فراء الثعلب. استند برأسه علي كتفها، فيما التفّ جسده علي ظهر المقعد.
هذان حقيقيان.
لمست قرطيها بأطراف أصابعها.
ماسٌ أصلي. هل ترين كم أحوالي جيدة في الغرب، يا »‬زارا»؟ هل لاحظتِ أسناني؟
ابتسمت ابتسامةً عريضة.
عندها فقط لاحظت »‬زارا» بأن عيوب أسنان »‬أوكسانكا» الأمامية لم تعد ظاهرة.
تذكرت »‬زارا» سيارات ال »‬فولجا». كانت تندفع بسرعةٍ فائقة، وتظهر أمامك فجأة، دون ضوء. والآن، ها هي »‬أوكسانكا» تمتلك واحدةً منها. ولديها سائق. وحارس شخصي. وزوجٌ من الأقراط الذهبية بفصوص ماسية كبيرة. وأسنان بيضاء.
في طفولتهما، كادت الفتاتان أن تتعرضا للدهس من قِبَل سيارة »‬فولجا». كانتا في طريقهما إلي البيت، عقب الذهاب إلي السينما. الشارع هاديء جدًا. ظلت »‬زارا» تعبث بممحاةٍ قديمةٍ وضعتها داخل جيبها. صلبة، يميل لونها إلي الرمادي، اختفي اسم الماركة من علي سطحها منذ فترة. ثم ظهرت. سمعتا صوتها المرتفع، لكنهما لم تلاحظا قدومها إلا حين اقتربت منهما بسرعةٍ فائقة، واختفت في لمح البصر. لم يفصلهما عنها إلا مسافة ضئيلة جدًا. حين وصلت »‬زارا» البيت، قامت ببَرد إظفرها السبّابة، الذي انكسر عند اصطدام السيارة بالممحاة في جيبها، أثناء لهوها بها داخل جيبها. انكسر ظفرٌ آخر وانفصل في جانبٍ منه من اللحم، جارحًا إصبعها. تساقط منه الدم.
في نفس المبني السكني، تعرضت ابنة إحدي الأُسَر للدهس بسيارة »‬فولجا» سوداء. أعلنت الميليشيا بصرامة بأن الأمر خارج سيطرتها. هكذا تسير الأمور. السيارة حكومية. ما الذي يمكنك فعله؟ أعيدت الأسرة إلي البيت، بعد أن تلقت بعض التوبيخ.
لم يكن في نية »‬زارا» إخبار أمها بما حدث. لكن الأخيرة لاحظت الأظافر المتكسرة، والإصبع الذي يغطيه الدم. لم تقنعها تبريرات »‬زارا»، وأدركت علي الفور بأن ابنتها تكذب. حين صارحتها »‬زارا»، في نهاية الأمر، بشأن ال»‬فولجا» السوداء، صفعتها بقوة. أرادت بعد ذلك معرفة ما إن كان ركّاب السيارة قد رأوهما جيدًا أم لا.
لا أظن ذلك. كانت السيارة مسرعة جدًا.
ألم يتوقفوا؟
كلا، بالطبع.
إيّاكِ أبدًا أن تقتربي من تلك السيارات. أبدًا. أبدًا. إن رأيتِ إحداها، اهربي. أينما كنتِ. اهربي وعودي إلي المنزل.
أحست »‬زارا» بالذهول. سيلٌ من الكلمات المتدافعة، انطلق من فم أمها. هذا لا يحدث كثيرًا. لم يضايقها ضرب أمها لها، لكن نظراتها الهلعة أخافتها. التعبيرات التي ارتسمت علي وجهها غريبة. وجه أمها يخلو من أي تعبير، عادةً.
جلست أمها إلي طاولة المطبخ، طوال الليل، شاردة الذهن. ومنذ تلك الليلة، صارت تطل من وراء الستائر خلسةً، وكأنها تتوقع ظهور »‬فولجا» سوداء أمام البيت، في أي لحظة، وهي تراقب مسكنهم أو تمر في شارعهم بهدوء. خلال ساعات الليل، تغادر فراشها لتطمئن علي »‬زارا»، التي تدعي الاستغراق في النوم. تنظر من النافذة، ثم تعود إلي فراشها، لتستلقي فيه بجسدٍ متخشب، إلي أن يغلبها الإرهاق فتغفو. يجافيها النوم في بعض الأحيان، فتقف وراء الستارة، لتراقب الشارع إلي الصباح.
في إحدي الليالي، تركت »‬زارا» سريرها، ووقفت وراء أمها. جذبت طرف قميص نومها القطني، وقالت لها:
لن يأتي أحد.
لم ترد أمها عليها. أزاحت أصابع »‬زارا» من علي ثيابها.
سوف يقوم »‬لينين» بحمايتنا يا ماما. لا شيء يدعو للقلق.
لم تقل أمها شيئًا. التفتت تجاه ابنتها، ونظرت نحوها مطولًا، كأنما تتابع شخصًا يقف خلف »‬زارا». »‬زارا» أخري. اشتد الظلام، وتعالت دقات الساعة. غاصت كعوب أقدامهما في الخشب العتيق للأرضية، كأنها لُصِقَت به بغراء. حملتها أمها، أخيرًا، وأعادتها إلي فراشها. غطتها بالبطانية بإحكام. لم تتبادلا كلمة واحدة، خلال ذلك كله.
كانت »‬زارا» بدورها قد سمعت حكايات عن النائب »‬بيريا»، وعن البوليس السرّي، وعن السيارات السوداء التي تجوب الشوارع ليلًا بحثًا عن الفتيات الصغيرات. تتابعهن، ثم تتوقف بجوارهن. لا أحد يسمع عنهن شيئًا، بعدها. ال »‬فولجا» السوداء هي دائمًا ال »‬فولجا» السوداء.
والآن، ها هي »‬أوكسانكا» التي صارت تشبه نجمات السينما تنزل من »‬فولجا» سوداء، وتلوح بيدٍ جميلة، وتخدش الهواء بأظافر طويلة، أنيقة، حمراء؛ تسبقها ابتسامتها المرحة. تتصرف كأرستقراطية، تجري في عروقها الدماء الزرقاء.
سألتها »‬زارا»:
هل ال »‬فولجا» ملكك؟
أجابت »‬أوكسانكا» ضاحكة:
سيارتي في ألمانيا.
لديكِ سيارة إذن؟
طبعًا! كل شخص في الغرب يمتلك سيارة.
شبكت »‬أوكسانكا» ساقًا فوق الأخري، بأناقة. ضمّت »‬زارا» ساقيها، ووضعتهما تحت مقعدها. القماش الذي يبطن شبشبها، رطب. تمامًا كما كان شبشب »‬أوكسانكا» قديمًا، ببطانته الوردية الباهتة، حين كانت تلبس النوع ذاته، وتزورها لتنهيا واجباتهما المدرسية معًا علي هذه الطاولة، بأصابع يبقعها الحبر الأسود.
قالت »‬زارا»:
السيارات لا تثير اهتمامي.
ولكن حين تمتلكين سيارة، يصبح بإمكانكِ الذهاب أينما شئتِ، بسهولة. فكري في المسألة علي هذا النحو!
فكرت »‬زارا» في أمرٍ واحدٍ فقط.. سوف تعود أمها في أي دقيقة الآن، وتري »‬فولجا» سوداء أمام البيت.
لم ترَ الجدّة السيارة، لأن النافذة التي تجلس أمامها لا تطل علي ذلك الجانب من الطريق. إنها لا تهتم بالأحداث التي تدور في الشارع، كبقية الجدّات اللواتي يجلسن بمحاذاة جدار البيت. السماء تكفيها جدًا.
عندما سارت معها »‬زارا» إلي ال »‬فولجا» السوداء، أخبرتها »‬أوكسانكا» بأن السقف في منزل أبويها لم يعد يعاني من مشكلة التسريب. لقد تولت عملية إصلاحه.
أنتِ مَن دفع التكاليف؟
بالدولار.
قبل أن تركب السيارة، احتضنت »‬أوكسانكا» صديقتها بحرارة، ثم أعطتها كراسًا طويلًا بعض الشيء.
إنه عن الفندق الذي أعمل فيه.
قلّبته »‬زارا» بين يديها. أوراقه القليلة سميكة ولامعة، وتعلوه صورة امرأة باسمة، بأسنان ناصعة البياض.
هذا يُسمّي »‬بروشور».. إنه كُتيّب أو نشرة.
»‬بروشور»؟
هناك الكثير من الفنادق. عليهم أن يصدروا مثل هذه الكتيبات، ليميز الناس بينها. هاكِ المزيد. لم أزر هذه من قبل، لكنهم يقبلون الروسيات أيضًا. يمكنني ترتيب مسألة استخراج جواز سفر لك، إن أحببتِ.
ما إن ركبت في المقعد الخلفي، حتي أدار السائق محرك السيارة، علي الفور.
صاحت »‬أوكسانكا»:
هناك جوارب مثل هذه بالضبط، في الكيس البلاستيكي.
فتحت باب السيارة، وأخرجت ساقها:
تحسسي الجورب.
مدّت »‬زارا» يدها، وتلمست ساق صديقتها.
ضحكت »‬أوكسانكا»، وقالت:
غير معقول! أليس كذلك؟
أضافت:
. سوف أعود ثانيةً في الغد. يمكننا أن نتكلم باستفاضة عندها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.