»»بالطبع هي قصة حقيقية وإن كانت مبتكرة، لدرجة أنّ كل واحد منا سيتعرّف فيها علي نفسه، لأننا جميعًا واحد"..هذا الكتاب تساؤل.. هذا الكتاب صمت». قدتكون العبارةُ السابقة،والمُقتبسة من السطور الأولي للرواية، أفضلَ مدخل لقراءة رواية "ساعة النجمة" للكاتبة البرازيلية الكبيرة كلاريس ليسبكتور (1920-1977)، والتي صدرتْ ترجمتها العربية مؤخرًا عن دار نشر الكتب خان المصرية، بترجمة رائقة للمترجم المصري د. ماجد الجبالي. هي حكاية بسيطة عن فتاة فقيرة مهمّشة في التاسعة عشرة اسمها ماكابيا، تعيش في مدنية بلا قلب،يلمحها راوي الحكاية رودريجو س.م. في أحد شوارع البرازيل، فيجد نفسه مدفوعًا "بقوّة عظمي" علي حدّ تعبيره لكتابة قصتها. ماكابيا فتاة مُهمَلة، حياتها بلا طعم مثل خبز بائت مدهون بالزبد، تكالبتْ عليها نوائب الدهر منذ ولادتها، فقد وُلِدتْ مصابةً بلين عظام، وهي إلي جانب ذلك هزيلة، دميمة، بلهاء لدرجة أنها تبتسم أحيانًا في الشارع، ولا أحد يردّ علي ابتسامتها لأنهم لا يرونها من الأساس، درسَتْ حتي الصف الثالث الابتدائي، وتشتغل موظفّة علي الآلة الكاتبة براتب أشدّ هزالًا من جسدها النحيل. لكنها - رغم ذلك- فتاة حالمة، تُمني نفسها علي الدوام بأن تصير نجمة سينمائية، ويَكتِب لها القدر أن تصير نجمة في ساعةٍ ما، هي الساعة التي يتحوّل فيها كل إنسان إلي نجم سينمائي. وبينما يحاول الراوي كتابة قصّة ماكيبا، تتجوّل ليسبكتور بخفّة بين السطور لتناقشَ رؤيتها للأدب وللفنّ وقدرتهما علي كشف حقيقة الوجود.لماذا أكتب؟ وكيف أكتب؟ هل أنا كاتب فعلًا؟وكيف ستكون قصّتي؟ تطرح ليسبكتور الإجابات علي لسان رودريجو راوي القصّة في صورة شذرات متفرقة هنا وهناك، هي بالأحري إجابات خفيفة عن أسئلة دسمة، فتقول:"أكتب لأني ليس لديّ شيء أعمله في العالم، لم أعد أحتمل رتابة أن أكون نفسي، ولولا الجيّد المستمرّ المتمثّل في الكتابة، لمِتُّ رمزيًا كل يوم، أكتب لأنني أمسكت بروح اللغة، وهكذا أحيانًا يصنع الشكل مضمونه". وهنا مربط الفرس؛ شكل سرديّ بسيط يصنع أدبًاجميلًا دون الوقوع في مأزق الخطاب المباشر. في الصفحات الأوليمن الرواية يقترح الراوي ألا يكتب بشكل معقد،وأن يحكي حكاية بسيطة مثل بطلتها، حكاية لها بداية ووسط ثمّ "نهاية كبري"، يعقبها صمت أبدي وهطول الأمطار، فيتوقف عن قراءة أي شيء في أثناء الكتابة كيلا يلوث بالفخامة لغته البسيطة.يواصل السارد عمليات التمهيد والتهيئة والتحضير لحكاية القصّة، واصفًا ذلك بأنه "تمرين إحماء". ويستمرّ تمرين الإحماء صفحةً تلو الأحري حتي نجد أنفسنا قد بلغنا عشرين صفحة من الرواية، ومازلنا خارج حلبة الحكاية المُراد سردها. لماذا؟ يبرّر رودريجو هدف هذه الثرثرة بأنه إرجاء لبؤس القصّة.
استطاع الراوي رسم ملامح شخصية ماكابيا كما يرسم رسّام بضربات فرشاة قوية وحيوية، وذلك من خلال نتف ومقتطفات هامشية عن حياتها، لكنها في الوقت ذاته موحية ودالّة، ساعدتْ كثيرًا علي ضبط صورة البطلة في عيوننا، والولوج إلي عالمها فحين نتابع وصف رودريجو ينتابنا إحساس بأنّ ماكيبا مخلوقة فطرية، لا ظهر لها في الدنيا ولا بطن، بل لا تنتمي إلي أهل الأرض رغم نزعتها الحسّية الشبِقة تجاه الرجال في بعض الأحيان. فبطلة الرواية لم تشتكِ يومًا من شيء، لأنها راضية عن كل شيء، رغم أنّ الدنيا لم تعطِها أي شيء، لا مالًا ولا جمالًا ولا حبيبًا ولا صديقًا، بل حتي صديقها أوليمبيكو، الفظّ غليظ القلب، تركها من أجل زميلتها في العمل "جلوريا" الأنثي الفائرة، لكنها، ورغم حزنها لفقد صديق وحبيب مُحتمل تتقبّل الأمر ببساطة. ماكابيا بطلة بلا أحزان، لا لشيء إلا لإنّ الحزن ترف يخصّ الأغنياء وحدهم، الحزن ترف لمن ليس لديه ما يفعله. وهي أيضًا بطلة بلا هموم، فحين يسألها أوليمبيكو: وأنتِ يا ماكابيا ألديكِ هموم؟ تجيب ببراءة: "لا.. ليست لدي هموم.. فأنا لستُ بحاجة لانتصارات في حياتي". قبل منتصف الرواية بصفحات قليلة، وقبل تسارع وتيرة الأحداث، يتساءل رودريجو (ومن ورائه ليسبكتور): "هل سأثري هذه القصة إن استخدمتُ بعض المصطلحات الفنية الصعبة"؟ فيعود مؤكِدًا: "هذه القصة لا تنطوي علي أي تقنية، ولا أسلوب، إنها تسير وفقًا لمشيئة الرب، مضيفًا: "ومهما كان الثمن فلن ألوّث حياة هزيلة كحياة فتاة الآلة الكاتبة بكلمات براقة وزائفة". بهذا المعني، هل تلوّث البلاغة والزخرفة اللغوية أحيانًا ثوب الحكاية النقيّ؟ إذا أخذنا في الاعتبار أنّ رواية ساعة النجمة هي آخر روايات كلاريس ليسبكتور بحسب كلمة ناشر الترجمة علي ظهر الغلاف، حيث توفيّت المؤلّفة عقب صدور الرواية بقليل عشية عيد ميلادها السابع والخمسين، فلنا أن نتساءل، هل كانت هذه الرواية إعلانًا صريحًا وأخيرًا من جانب ليسبكتور عن موقفها الجماليّ من فنّ الرواية، ومن قدرة الكتابة علي كشف الحقيقة؟
هل كانت ليسبكتور تشُعر بدنوّ أجلها، فكتبتْ هذه الرواية لتقدّم لنا فنًا مُقطّرًا خالصًا، فنًاعاريًامن الزخارف اللغوية والحيل السردية، مُتوسلة في ذلك بشكل سرد يبسيط، يتحرّر من قيود الحبكة، ومن الوصف التفصيلي، ومن شرح دوافع الشخصيات؟ بحسب قرائتي الشخصية للرواية الإجابة نعم. فالراوي يتبنّي منذ السطور الأولي فكرة كتابة ما لا يُمكن أن تقبله أذهان متطلبة ومتعطشة للتنميق، هادفًا إليقول الحكاية العارية فقط، بل إنه كان يتعجّل فيقول: "هل أستبق الزمن فألخّص النهاية فورًا، وإن كنتُ لا أدري بشكل تام كيف ستنتهي القصّة". في صفحة 87 من الرواية، يقطع رودريجو مسار السرد قائلًا: "معالجة الوقائع والأحداث اليومية تُحيلني إلي عدم، وأنا كسول جدًا في كتابة هذه القصة، وهي مجرد فضفضة"، مضيفًا: "أري أنه لا يمكن التعمق في هذه القصة، فالوصف يتعبني".وهكذا فالوصف المُتقن، والحبكة المُحكمة، والتحليلات النفسية للشخصيات أشبه بمطبات صناعية، أو حواجزتحول دونتدفّق مسار الحكاية الحقيقية، الحكاية الجديرة بأن تُروَي. وكأنّ ليسبكتور تصرخ علي الأوراق قائلةً: ليس لدي نَفَس طويل، ولا وقت ولا طاقة؛ لديّ حكاية أريد كتابتها، وكفي.
مع اقترابنا مع نهاية الرواية يتماهي الرواي مع بطلة قصّته تماهيًا يصل حدّ التوحّد الكامل، تحقيقًا لرغبة تاقتْ إليها نفسه في الصفحات الأولي من الرواية، وهيأن يتحوّل الكاتب إلي موضوع كتابته. يصاب رودريجو بالإرهاق مِن صحبة البطلة ماكابيا، ومِن صحبة باقي الشخصيات، فيقرر مقاطعة القصة لمدة ثلاثة أيام، متجرّدًا من شخصيته، ومنتزعًا نفسَه مِنه كما يتجرّد المرء من ثيابه، فيسقط في النوم، وحين يستيقظ، يستشعر غياب ماكابيا، فيواصل الكتابة. وإن كان الحال هكذا، فهل سيلتقي مصير الراوي بمصير البطلة في النهاية؟ يعرَّف الباحث الفرنسي رينيه جيرار في كتابه المهم "الكذبة الرومانسية والحقيقة الروائية" (ترجمة: د. رضوان ظاظا، المنظمة العربية للترجمة 2008)، خاتمةَ العمل الروائي بأنها معبد الحقيقة، مشيرًا إلي أنّ الخاتمة هي محور دوران الدولاب الذي هو الرواية، والعبرة بالخواتيم كما يقول شكسبير. تمرّ الأيام كالأحلام حتي تأتي ساعة النجمة، لتُختتمَ الرواية بخاتمةٍ تليق بعمل أدبي جميل. تزور ماكابيامدام كارلوتا، العرّافةَ العجوز (الدنيا التي تعِد ُولا تفي؟)، وهي قوّادة ثرية تتظاهر بالتقوي وبِمَحبّة السيد المسيح، فتقرأ الطالعَ لبطلتنا، وتتنبأ بمصيرها، وتعدها بحبيب أشقرٍ ثريّ. فتغادر ماكابيا مثل امرأة حُبلي بمستقبلها، وتخطو لعبور الشارع، فتجد القدر منتظرًا علي الناصية الأخري، هامسًا: ها قد حان دوري. تتحوّل اللحظة الأخيرة إلي لحظة الحرية. يقول الراوي عن هذه اللحظة: "حرّرت ماكيبا نفسَها أخيرًا من نفسِها ومِنّا". في السطور الأخيرة يطرح الراوي السؤال التالي: "ماذا كانت حقيقة ماكابيا؟ مع اكتشاف الحقيقة تكون قد غابت علي الفور، عظمة كل إنسانٍ هي الصمت".