((أي شخص لم يسرق أبدًا؛ لن يفهمني. وأي شخصٍ لم يسرق ورودًا أبدًا لن يكون باستطاعتِه أن يفهمني. عندما كنتُ صغيرة، كنتُ أسرق الورود.)) تجلس؛ كما اعتادتْ دومًا، لامُباليةً بما حولها، أو، بالأحري؛ لامُبالية بالعالَم، و هم يهتفون ((فيرجينيا وولف البرازيليّة.. تشيكوف؛ النسخة الأنثويّة .. لا لا، إنَّها خليفةُ كافكا))، لا يعنيها كثيرًا ما يُطلَق عليها مِن ألقاب، حين تتحدَّث؛ تخرجُ الكلماتُ مِنها بتؤدَّة، كأنها دفق موسيقي مِن نغمة واحدة، ووجهُها في ذلِك، عن سرِّ ما بالدَّاخلِ لا يكادُ يُبين، و في لحظة، يسألها المذيع: -متي قرَّرتِ أن تكوني كاتبة مُحترِفة؟ تصوِّبُ إليه تلك النظرة الحادة ذالتي هي عاديَّتُها أصلًا!- مِن عينيها الذئبيتين ساكنتيّ وجهها المنغوليِّ، لتقول في هدوء: -لم أفعل أبدًا، أنا لستُ محترِفة، أكتبُ حين أرغب فحسب. أنا هاوية و أُصِرُّ علي البقاء علي هذا النَّهْج. المحترف لديه اِلتزامٌ شخصي تجاه الكتابة، أو اِلتزامٌ نحوَ شخص آخر، بالنِّسبة لي، أُصِرُّ أنِّي لستُ محترِفة كي أحتفِظَ بحُرِّيتي. البرازيليةُ المولودةُ في مِنطقة بودوليا بأوكرانيا في العاشر من ديسمبر عام 1920، تُعتبر "أكثرُ الكُتَّابِ اليهودِ أهميَّةً بعد فرانز كافكا". جاءت إلي البرازيل في صِغرها مع العائلة مُرغَمين، كان ذلكَ جرَّاء الكوارثِ التي حلَّت بوطنها الأمّ مِن توابعِ الحرب العالمية مِن تفكُّكِ الإمبراطوريَّةِ الرُّوسية. هُناك، بالبرازيل، قاموا جميعًا بتغيير أسمائهم، فصارت الطِّفلة شايا، هي، كلاريس ليسبكتور. في مدينةِ ريسيف، دخلت الجامعة، لتتعلَّم العبرية و اللغة اليهودية القديمة. قرر الوالد الارتحال للعاصمة ريو دي جانيرو كي يجد أزواجًا لبناته الثلاث. لكنَّ بِدرو ليسبكتور الذي كان قد ذهب أيضًا لِيُحسِّن مِن وضعه الإقتصادي قد تُوفِّي هناك بعد وقتٍ قصير، لتُغادرَ كلاريس البرازيل بعد زواجها مِن دبلوماسيّ. بدأت حياتها بالعملِ بالكتابة للصُحُف والمجلّات في أعمدة الموضة والسينما. روايةُ هِرمان هِسَّه (( ذِئبُ البراري)) كانت بمثابة الصدمة والشرارة بالنسبة إليها كي تكتُب، لتخترقَ الوسطَ الأدبي في الثالثة والعشرين مِن عُمرها، بأول عمل لها بعنوان: ((بالقُربِ مِن القلبِ الشَّرِس))، لتنال بها جائزةَ غْراسيا آرينا كأفضلِ عمل لعام 1943. خُوانا، إمرأةٌ شابة، تنزِعُ لأن تكونَ النُّسخةَ المُعاصرة مِن كامو وسارتر، حيث تبحث عن: معني الحياة وجدوي الوجود؛ في مونولوج طويل، تُحاول فيه أن تستكشِفَ بواطِنَ الذات. لذا؛ بعد صدور الرواية، تم وصفُ تقنيتها الكتابية بأنها تنتمي إلي تيَّار الوعي، تمامًا؛ مِثل كِتابات جيمس جويس وفرجينيا وُولف. لكن، كلاريس قالت أنها تعرَّفت عليهما وقرأتهما بعدما كانت روايتها قيد الطَّبع، الأمرُ الذي يُثير التَّساؤل، كيف لثلاثة في أماكنَ مُختلِفة، يكتبون بأُسلوب جديد تمامًا، ولم يتصل بعضهم ببعض مِن قبل؟ في كِتابه "روايات وروائيون" يُحاول المُترجِم ماهر البطوطي تفسير ذلك فيقول: " الحالةُ السياسية والإجتماعية القلِقة التي سادت العالَ في تِلك الفترة مِن أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، جعلت البعض يفقدُ الشُّعورَ بالأمن والاستقرار، و يتطلَّع إلي ميدانٍ آخر أكثر يقينًا مما وجده فيما حوله، وكان أنْ فشل في ذلك أيضًا، لما كان يتصف به العالَم في هذه الأوقات مِن غليانٍ و ثورة، و وجد هذا البعض نفسه وحيدًا منطويًا، فارتدَّ إلي نفسِه الداخليَّة يستبطنها ويقبعَ في داخلها، يكتشفَ أغوارها، علَّه يجدُ فيها حقيقةً تكونُ الوحيدةَ التي يراها في حياته." لا شكَّ أنَّ ما يؤيد هذا التفسير هو حالة عدمِ الاستقرارِ التي عايشتها كلاريس؛ حيثُ قُتِلَ جدها بأوكرانيا، فهاجرت اِلعائلة مِن وطنها، لتموتَ أمها بمرض شلل الأطراف هُناكَ بالبْرازيل بينما مازالتْ الطِّفلة في التاسعة، و مِن ثَمَّ، موتُ أبيها، في دراما أرَّخت لها أختها إليسا ليسبكتور، التي صارت هي الأُخري كاتبة، وذلك في سيرتها الروائية: ((في المَنفي-In Exile)). لكن، ما يُميِّز كتابةِ كلاريس عن أيِّ كاتب آخر، هي أنها تكتب نصوصًا تُسمع، حيثُ السَّرد ذو إيقاعيِّة لا تحيد، يُشبِهُ تمامًا موسيقي الجاز، خاصةً في قصصها القصيرة، فسَّرتْ ذلك حين سُئلَت بقولها: "السؤال هو: كيف أكتُب؟ أستطيعُ أن أُؤَكِّد أنني أكتُبُ بأُذُني؛ تمامًا مِثلما تعلَّمتُ الإنجليزيةَ والفرنسيَّة بالأُذُن." تجلَّي ذلكَ في افتتاحيةِ أولِ عملٍ لها والذي أحدثَ ضجةً كبيرة وقت صدوره ((بالقُربِ مِن القلبِ الشَّرِس)): " آلةُ أبي الكاتبة كانت تنقرُ تك تك.. تك تك تك.. كانت ساعةُ الحائط ترنُ متزامنةً بشكلٍ ساطع تْنْجْ تنج.. تنج تنج.. كان الصَّمتُ يُخيِّم.. ززززززززززز. وخزانةُ الملابس، ماذا كانت تقول؟ ملابس-ملابس-ملابس. لا لا. بين الساعة وآلةُ الكِتابة والصَّمت، كان ثمَّةَ أُذُنٌ تصغي، كبيرة، ورديَّة اللون، وفاقدةٌ للحياة. الأصوات الثلاثة كانوا موصولين بضوء النهار، وبخشخشةِ الأوراقِ الصغيرة، علي الشجرة، يتحاككون بمرح، كُل في مقابِل الآخر." وهو ما يصدِّق عليه الألمانيّ بّيتر سلودريك: "القراءة هي أن تسمع أو تتوهَّمَ سماعَ أصواتٍ مِن مُتحدِّثين عِدَّة" لم تكُن كلاريس معروفةً في الأوساطِ النَّاطِقة بالإنجليزيَّة كما ينبغي، الأمرُ الذي حدا بالمُترجم الأمريكيّ بنيامين مُوزْر إلي كِتابةِ سيرة لها، حين تعرَّفَ عليها بالصُّدفة عندما كان يدرسُ البرتغالية، ليلفِت الأنظار لها، يحكي ذلِك في حوارٍ إذاعيّ حيثُ يقول: ((وقعتُ في حُبِّ كلاريس ليسبكْتور حين كنتُ بالتَّاسعة عشرة تقريبًا، حين كُنتُ بالكُلِّيّة، وحدثَ أن اِنخرطت في دراسة اللغة البرتغاليّة، بينما كنتُ قد بدأتُ أدرسُ الصينيّة وكنتُ مُتحَمِّسًا لها، بعد أسابيع، فكَّرتُّ أنَّ الأمر قد يتطلَّبَ مِنِّي تسع سنواتٍ حتّي أستطيعَ أن أقرأ جريدة، وجدتُّ البُرتغاليَّةَ أسهلَ للغاية، ومُختلفة كثيرًا عن الصينيّة، كان الكاتبَ الأوَّل الذي التقينا به بعد الفصل الدراسي الثالث هو كلاريس ليسبكْتور. النَّاس يتساءلون بمَن يُقارنونها؛ إنَّها ليست شخصًا سهلًا دراسته مثل هيمنجواي أو فوكنر. بدأتُ أُفَكِّر، كيف لي أن أُساعِدَ هذا الشخص كي يصل إلي المكانةِ التي يستحقها، بعد تِسعِ سنواتٍ مِن ذلك، بينما كُنتُ أجلِسُ بحديقةِ مَنزلي هُناكَ بهوليوود، وكنتُ أقرأ أحدَ كُتُبِها للمرَّةِ الثانية عشرة تقريبًا؛ إنَّ هذا رائع! قرأتُها بالتاسعة عشرة وأقرؤها الآن في الثلاثين ومازالتْ رائعةً للغاية! فكَّرت؛ لو أنِّي كتبتُ سيرة لها، سيجلعها ذلك تعرف مَن كانت هي، وأحدُهم قد يُدرِكُ أنها شخصًا هامَّا، وسيُعيدَ نشر أعمالها. ذهبتُ إلي البِرازيل، وشرعتُ في كتابةِ سيرة لها بُعنوان: "لماذا هذا العالم"، نُشِرت عام 2009، أحدَثت ضجَّة كبيرة في بُلدان عِدَّة خاصةً في البرازيل، المشكلة كانت أنه رُغمَ هذا مُعظم أعمالها ليست في المتناول لأنها إمَّا لم تُتَرجَم، أو أنَّها تُرجِمتْ ترجمةً سيِّئة، نيو دايركشنز قالوا: لِنفعلها! أدركتُ أنَّهُم كانوا في حاجةٍ لشخصٍ مِن تاكساس، ليُخبرهم أنَّها كاتبة عظيمة.)) المترجمُ الأمركي ذو التسعة والثلاثين عامًا الذي كتب سيرتها وأعاد ترجمةَ عملين لها بنفسه حيثُ يُجيدُ سِتَّ لُغات، يفتتح كتابه عنها بأبي الهَول، حيثُ كانت قد زارت القاهرة، و تقول إنها تحدَّثت إليه، وفي وسط الصحراء، قرأ البدو لها الكَفّ، وأُخبِرَتْ أنها تملِكُ قلبًا صافيًا، لكن، لم يرقها المكان، تتحدُّث لاحقًا في خطابٍ لها إلي صديق عن القاهرة وتقول: " لم أفكَّ شِيفرتها، ولا هي فعلت وفكَّت شِيفرتي " لكن، يبدو أن صنيع موزر قد أتي ثماره. في الأوَّلِ مِن أغسطس هذا العام، صدرت القصص الكاملة لكلاريس ليسبِكتور بالفعل أخيرًا بالإنجليزية عن نيو دايركشنز بتوقيع الأمريكيَّةِ كاترينا دُودْسُن، لتضم المجموعة الكاملةُ لقَصصها، والتي كانت قد نُشِرت مِن قبل في تسع مجموعاتٍ قَصصية. كتبتْ كلاريس خمسة أعمال للأطفال، مِنها: المرأة التي قتلت السمكة، السِّرُ الغامضُ للأرنب المُفكِّر، كيفَ وُلِدتْ النُّجوم. لم تكُن مُحبَّةً لإجراءِ الُمقابلات، لكن، أجرت لقاءً تلفزيونيَّا وحيدًا عام 1977، حين سألها المذيعُ: كيفَ تُفسِّرينَ اهتمام كلاريس ليسبكتور بأدب الأطفال؟ قالت: "بدأ ذلك مع ابني حين كان بالسادسة، كان يأمرني أن أكتُبَ قصةً لأجله، لذلك فعلت، ثم وضعتها جانبًا ولم أعد أُفكِّر بشأنها أبدًا مُجدّدًا. حينَ طلبَ مِنِّي أحدُهم كتابًا للأطفال، كنتُ قد نسيتُ أمره تمامًا. لم أكُن أُريدُ نشره، كان لأجلِ ابني فقط، لكنهم نشروه. -هل الأمرُ أكثرُ صعوبةً بالنسبة إليكِ التعاملُ مع النّاضجين أم مع الأطفال؟ -حين تتواصلَ مع طِفل، هو أمرٌ هيِّن، لأني ذاتُ طبيعةٍ أُموميَّةٍ للغاية. حين أتواصلُ مع شخصٍ بالغ، فإنني أتواصلُ مع أكثرِ الأجزاءِ السريِّةِ في ذاتي، و هذا يُصبِحُ صعبًا. الأطفال لديهم المُخيِّلة، إنهم أحرار." علي ذِكرِ المُخيلةِ و التحرر، روايتها: ((نفخة مِن الحياة))، التي قدَّمَ لها بنيامين موزر كاتب سيرتها، والمُخرج الشهير بِيدرو ألمودوفار، تتبَعُ فيها تقنية فريدة، حيثُ الروايةُ حِوارٌ بين مُؤلِّفٍ- وهو كلاريس- وآنجيلا برانيلي؛ شخصيةِ المؤلِّف في الرواية التي خلقها علي الورق، والتي استعادتها مِن عمل سابق لها ((أين كنت في المساء)) لتخلقَ من شذرات روايتها السابقة ((ساعةُ النُّجوم)) عملًا متفرِّدًا تمامًا. في روايتها ((نفخةٌ مِن الحياة)) تقول: "أكتُبُ كما لو أنِّي أنقِذُ حياةَ شخص آخر. مِن المُمكن أنها حياتي أنا. الحياةٌ نوعٌ مِن الجنون الذي يصنعُه الموت. كم هي مديدةٌ حياةُ الموتي لأننا نحيا فيهم". لذا، لعلَّها مِثلَ وردةِ إيكو؛ قبل أن ترحل كتبتْ-لا لكي نحيا فيها، بل، كي تحيا فينا. المصادر: Slate.com ويكيبيديا، النيويوركر، لوس أنجلوس ريفيو أوف بوكس، نيويورك تايمز، مجلة جيرنيكا، باريس ريفيو