توفي الكاتب الأمريكي الشهير راي برادبوري صباح 6 يونية، ويومها نعاه باراك أوباما، وجاء في نعيه "إن موهبته أعادت تشكيل ثقافتنا ووسعت من عالمنا كثيرا، إذ أدرك أن بالإمكان استخدام خيالنا كأداة لفهم أفضل للحياة والعمل علي تغييرها والتعبير عن أرقي القيم، ولا جدال في أن أعماله ستظل تلهم الأجيال". وبليغ الدلالة أن برادبوري نفسه أوصي أن يكتَب علي شاهد قبره "مؤلف فهرنهايت 451" فما حكايتها؟ سياسة جائرة وحتي نتفرغ لرواية "فهرنهايت 451" لابأس من كلمات سريعة تهم منطقتنا، جاءت علي لسان برادبوري في حوار أجرته معه صحيفة "لو فيجارو" الفرنسية.. فعلي سؤال: هل تعتقد أن أحداث 11 سبتمبر كانت بمثابة "ضربة صاعقة" بالنسبة إلي الولاياتالمتحدة؟ أجاب: بالطبع كانت كذلك. ومع ذلك أجد أن هذا الأمر المأساوي لم يقدم أي درس لمسئولينا. تدمير البرجين كان يجب أن يقود الولاياتالمتحدة إلي الوعي بأن سياستها الخارجية جائرة بشكل عميق. كان علينا دفع هيئة الأمم للاستثمار في الشرق الأوسط منذ عشرين أو ثلاثين سنة، للحفاظ علي حدود مرسومة بين فلسطين وإسرائيل. هناك ملايين الأشخاص المعنيين بهذا الأمر. لكننا لم نفعل شيئا. اخترنا أن نعترف بإسرائيل وحدها. فضلنا أن نهتم بمصالحنا وبقوادنا الذين يحكمون بدلا من أن نهتم بالبشر. بهذه الطريقة أستطيع شرح كارثة 11 سبتمبر. هذه العملية الإرهابية قد أصابتنا في الصميم، كردة فعل علي تصرفاتنا الظالمة والمحتقرة تجاه شعوب الشرق الأوسط. وحين سأله محرر "لو فيجارو" ما رأيك في رد فعل الشعب الأمريكي تجاه هذا الحدث المأساوي؟ أجاب: شعرنا بالرعب. وهذا بالضبط ما لم يكن علينا أن نقوم به. أصبحنا ذهانيين. بالغنا في رد فعلنا وهذا ما جلب المتعة للعدو. معالجتنا الإعلامية كانت بدورها هيستيرية. هنا عاود المحرر سؤاله: بصفتك كاتب خيال علمي، هل تصورت شيئا مماثلا؟ فأجاب: ولا للحظة واحدة. العديد من روائيي الخيال العلمي أمضوا حياتهم وهم يتخيلون مستقبلا قاتما، مليئا بالضجة، بالرعب، بالتنبؤ بكوارث. حتي أنا نفسي مع "فهرنهايت 451" رغبت في توصيف مستقبل مظلم. ومع ذلك لم نتخيل قط أنه يمكن الاستفادة من طائرة لنجعلها أداة تدمير. في اللحظة التي شاهدت فيها الصور علي التلفاز، قلت لنفسي: "يا إلهي، لقد فعلوا ذلك". إن كان يمكن للإرهابيين الذين أرسلهم بن لادن أن يقوموا بذلك مرة، فهذا معناه أنه يمكنهم أن يقوموا بذلك بأدوات أخري. تعلمت من 11 سبتمبر أنه يمكن لأي فرد أن يصبح قنبلة. لا يمكننا أن نحمي أنفسنا من الكائنات البشرية. أي واحد، وفي أي لحظة، يمكنه أن يحول جسده- الذي هو رمز الحياة - إلي محرك رهيب للموت. رد فعل الحكومة الأمريكية كان سيئا. كان عليها أن تركز علي أسباب المشكلة الحقيقية بدلا من أن تشن حربا علي الإرهاب. علينا أن نفكر بهذا في المستقبل وإلا...". فهرنهايت 451 نأتي بعد ذلك إلي حكاية "فهرنهايت 451" وهي رواية خيالية أخاذة ومبهرة، تحكي حكاية نظام شمولي يمنع قراءة الكتب ويحرقها لحضها علي التفكير، ويشيع التليفزيون ويوظفه في خدمة سياساته وفي سياقة الناس وتحويلهم إلي مخلوقات أسهل قيادا، عن طريق إغراقهم في سيل لا ينقطع من المعلومات التافهة الجاهزة والأصوات والألوان، بحيث لا يجدون الوقت للتفكير أو الانتقاد. وتشير 451 في العنوان الي درجة الحرارة التي يشتعل فيها ورق الكتب. والرواية تحكي عن رجل مطافئ في مجتمع مستقبلي وظيفته الأساسية ليست إطفاء الحرائق لكن إشعالها! فهو يعمل في إدارة تقوم بالبحث، بناء علي بلاغات أو تحريات، عن الكتب في منازل المواطنين ومن ثم تضطلع بحرقها، والغريب أن من يكلفونها بذلك يدعون فعله من أجل خير البشرية! فهم يعتقدون أن القراءة تقود الإنسان إلي التفكير وتقوي من فرديته وتعوقه عن الاندماج في المجتمع. ولهذا يستخدمون التليفزيون في تدمير الرغبة في القراءة، ذلك أنه يقود الناس إلي الاعتقاد أن المعرفة مجرد معلومات جزئية منزوعة من سياقها، كمعرفة اسم أو تاريخ ميلاد شخص مرموق، دون أن يكون ذلك في إطار من يكون هذا الشخص، وما دوره، وماذا فعل ولصالح من و... . ومن هنا تحظر السلطات القراءة علي المواطنين تماما، ويتم القبض علي كل من يضبط كتبا في منزله، مع حرقها. وتتوالي أحداث الرواية علي هذا النحو، حتي يقع البطل في المحظور، رغم اهتمامه بعمله وبراعته فيه. أدب الخيال السياسي وقد حظيت رواية "451 فهرنهايت" بشهرة واسعة، وصارت علامة بارزة ليس في أدب الخيال العلمي فقط، ولا في الأدب السياسي فحسب، بل إنها رسخت توجهات جديدة في الفكر العالمي.. ذلك أن مفاهيم تكريس السلطة الشمولية القمعية، وغسل وسائل الإعلام لعقول البشر لا يمكن أن تكتمل إلا بذكر "451 فهرنهايت" ورائعتي "1984" لأورويل و"عالم جديد شجاع" لهكسلي. كما عدت الرواية التي نشرت 1953 إرهاصا بعصر آت، تهيمن فيه حضارة الصورة عبر انتشار التليفزيون، حيث تجسد أناسا مدمنين علي مشاهدة التليفزيون، ويحملون في آذانهم سماعات صغيرة تقدم سيلا مستمرا من الموسيقي والأخبار و... . والمطلع علي أحوال عالمنا يدرك مدي تورطنا في الواقع المؤلم الذي تصفه تلك الرواية النبوئية. تدور أحداث الرواية حول رجل المطافئ مونتاج- لاحظ الاسم- الذي يمارس عمله بحماس.. ومهمته محددة جدًا: حرق الكتب بكل أشكالها، فواقع المجتمع ومصالحه ورفاهيته لا يحتمل من ما زالوا يمارسون القراءة والتفكير. لهذا استغني تمامًا عن الكتب واستبدل بها ثقافة الصور المرئية. فبكل بيت شاشة تليفزيون حائطية عملاقة لا يتم إغلاقها تقريبًا، وقد يصل الأمر إلي أربع شاشات تغطي الجدران، وثمة طرائق إلكترونية تسمح لمقدمي البرامج بأن يروا المتفرج و يخاطبوه بشكل شخصي... . فهذا زمان الرقابة والسيطرة الإعلامية والخطاب الموجه للاوعي، الذي يأتي بنتائج مبهرة، علي طريقة الإعلان الذي يتضمن الجميلة أو لاعب الكرة أو الممثل الذين تحبهم يتناولون المشروب الغازي، وهكذا يقترن المحبوب الذي تتطلع إليه في اللاوعي بالمشروب، فتطلبه بصورة أوتوماتيكية في أية مناسبة... . مأزق القمع والتغييب ظل المونتاج جزءا من هذا النظام. إلي أن وقع حجر في بركة حياته الراكدة. فتاة رقيقة تدعي كلاريس ما زالت تحاول أن تعيش بصورة حقيقية.. تسأل أسئلة. تتمهل في زمن لاهث لا يرحم، حتي لا يأخذها تيار الحياة المندفع. تستنشق الزهور. تستمتع بالمطر.. تنتمي إلي بشر من لحم ودم، وليس إلي كائنات جامدة شبه آلية باردة العواطف مصطنعة المشاعر. تضع كلاريس مونتاج أمام نفسه بالذات حين تسأله: هل أنت سعيد بحياتك؟ وهي تقول له: "أنت تضحك بينما أنا لا أقول دعابات. وتجيب بلا تفكير دون أن تتروي لتفهم كلماتي"، "الصبية في عمري يتسلون بقتل الواحد الآخر. وقد أطلقت الشرطة الرصاص علي ستة منهم العام الماضي. ومات عشرة منهم في حوادث سيارات"... . وفي مقابل عالم هذه الفتاة يعيش مونتاج في مجتمع قمعي تجوب فيه فرق الأمن الشوارع، تحلق رؤوس من يطيلون شعورهم علي اعتبار أن في ذلك دلالة علي التمرد وعدم الخضوع للسلطات وطاعتها، كما توزع السلطة حبوب السعادة المغيبة علي الناس وتشجعهم علي تناولها إمعانا في تحويلهم إلي كيانات أكثر سلبيية.. يعيش مونتاج إلي جوار زوجة تشبه كلاريس في الشكل تماما (في الفيلم الذي قدمه فرانسوا تريفو عن الرواية (1967) قامت الممثلة جولي كريستي بالدورين معًا- الزوجة وكلاريس- كجزء من الرمز أو المعادلة الصعبة). لا تكف- الزوجة- عن متابعة التليفزيون والانتحار كل ليلة، التهاما لحبوب السعادة في شراهة، وتصحو كل صباح وقد نسيت تماما ما كان في اليوم السابق! قامت كلاريس باحتواء مونتاج وجذبه وإقناعة، حتي أقدم علي قراءة رواية جميلة فوقع في حب القراءة، ومن ثم أصبح عاشقا للتراث الإنساني، وبالتدريج أخذ يتمرد هو أيضا علي السلطة القامعة التي تحترف التجهيل. ومن المشاهد التي لا تنسي وتدل علي الاعتزاز بالكتب، لدرجة يصعب تصديقها، مشهد سيدة كبيرة- من أصدقاء كلاريس- رفضت ترك منزلها الملئ بالكتب وهم يحرقونه، مفضلة الموت محترقة وسط الكتب.. فضلت أن تحترق معها، وزملاء مونتاج يثرثرون تخفيفا لوقع ما تصنعه أيديهم: "كثير من هؤلاء المخابيل يفضلون الموت مع كتبهم، هذا نمط سلوكي معتاد". وتدفع الهزة مونتاج دفعًا إلي التعمق في معرفة سر هذه الممنوعات التي يفضل الناس أن يحترقوا معها. وتدريجىًا يندمج في هذا العالم السحري، الذي يأخذه تماما، بينما يحاول تفادي شكوك زملائه ورئيسه، الذي لا يكف عن التباسط معه بكلمات تعبر تماماً عما تريده السلطات: "في الماضي كانت الحياة هادئة تسمح بالاختلاف. لكن الحركة تسارعت في القرن العشرين... أدر عقل الإنسان في آلة الطرد المركزي لتتخلص من كل الأفكار غير المجدية المضيعة للوقت. أنشر المزيد من الرسوم الهزلية. اعط الناس صورًا أكثر. استعن بالرياضات الجماهيرية الممتعة التي تغري بعدم التفكير". ويواصل رئيس مونتاج في المطافئ غسل مخه: "كلمة مثقف صارت سبة كما يجب لها أن تكون. تذكر كيف كنت في طفولتك تكره الصبي الذكي في الصف، وتختصه بالضرب والتعذيب بعد الدراسة. إنه خوفنا المبرر من أن نكون أقل من الآخرين. خذ صراعاتك إلي المحرقة يا مونتاج. في النار يكمن حل كل شيء. النار نقية طاهرة". ولا يكف عن معزوفته: "دعني أؤكد لك أن الكتب لا تقول شيئًا. لو كانت قصصًا فهي تتكلم عن أناس لا وجود لهم. ولو لم تكن قصصًا فالأمر أسوأ. أستاذ يعتبر الآخر أبله، وفيلسوف يحاول خنق فيلسوف آخر. كلهم يكافحون محاولين محو النجوم وإطفاء الشمس. فقط النار تستطيع أن تطهرنا من كل ذلك".. "الناس تريد السعادة. ونحن نقدمها لهم. نوفر لهم المرح وصفاء العقل يا مونتاج". تحيط الشكوك بكلاريس بعد أن فضلت صديقتها المسنة الاحتراق مع كتبها، فترفت من عملها، وتوضع في القائمة السوداء بعد الإبلاغ عنها، فعلي بيتها لا يرتفع هوائي التليفزيون مثل كل البيوت حولها، مما يبعث علي الريبة فيها و... لتهرب في نهاية المطاف... . اقرأ وفي البدء كانت الكلمة وسرعان ما يصير مونتاج رمز النظام وأداته الفاعلة عدوًا له، ويصير مطاردًا بعد ملاحقة زميله فابيان له، وبعد إبلاغ زوجته عن نشاطه مع الكتب في البيت، ويصر فريق حرق الكتب علي اصطحابه في عملية يكتشف أنها لحرق الكتب في بيته، ومع تنفيذه الأوامر يخرق السيناريو فيوجه مدفع النيران مع الكتب إلي شاشة التليفزيون، بل وإلي زملائه "رجال الإطفاء!!"، ثم يفر إلي المكان الذي فرت إليه كلاريس. يعبر النهر لكي تعجز كلاب الشرطة عن متابعة رائحته. ويستقبلونه هناك بصفته رجل الساعة.. الخائن الذي لا يكف التليفزيون عن تحذير الناس منه مع مطالبتهم بالمساعدة في القبض عليه.. بل ويري علي الشاشة الكبيرة عملية إعدام كاملة، يقولون إنها له، بينما هي لرجل لا علاقة له به، اختارته السلطة لإنقاذ ماء الوجه، وتم إعدامه بحوامة مدججة بالأسلحة أمام العدسات دون لقطة مكبره واحدة لوجهه تثبت أن الضحية لم يكن هو مونتاج. يندمج مونتاج مع العاصين الذين اعتزلوا مجتمع القهر.. يعيشون في عزلة بعيدًا عنه وقد جعلوا مهمتهم الحفاظ علي تراث البشرية. كل واحد منهم يحفظ كتابًا بعينه، ولا يفتأ يراجعه حتي يصير هو الكتاب ذاته، قبل أن يعمل علي توريثه (تحفيظه) لآخر أصغر سنا.. رجل هو الكتاب المقدس. وسيدة هي هاملت. ورجل هو تواريخ برادبوري المريخية. وامرأة هي كتاب الأمير لميكيافيللي، وأخري رحلة... . ولعل هذا هو أجمل مشاهد الرواية، الذي يقفز مباشرة إلي ذاكرة الناس كلما تطرقوا عنها. تنتهي الرواية وقد نشبت الحرب النووية وأبيدت عاصمة الدولة، ولم يبق من أمل لدي البشر الباقين إلا أن يحاولوا استعادة ما اختزنوه في صدورهم من تراث. وعلي هذا النحو تنتهي الرواية الرائعة الأقرب إلي النبوءة فعلاً. لقد كتب راي برادبوري الرواية خلال خمسينيات القرن العشرين، بعد الحرب العالمية الثانية وقنبلتي هيروشيما وناجازاكي، أيام الحرب الباردة وسباق التسلح النووي وشبح الفناء به، وكانت ردا علي الإرهاب الثقافي الذي مارسه السيناتور جوزيف مكارثي علي الكتاب والمثقفين في أمريكا. ونقدا لما رأي أنه تحلل يصيب توجهات المجتمع الأمريكي.. كما أن المؤلف أطلق عبرها صرخة عارمة ضد سيطرة التليفزيون علي وعي ومشاعر المواطنين، وانحسار دور الكتاب كأداة تثقيفية هامة وأولية وأساسية في حياة البشر (إقرأ.. في البدء كانت الكلمة...). تبقي إشارة سريعة إلي قولين من أقوال برادبوري لا يخليان من مغزي فيما يخصنا: "إذا كنت تعرف كيف تقرأ، تكون أكملت تعلمك عن الحياة، ومن ثم تعرف كيف تعطي صوتك في سياق الديمقراطية. ولكن إذا لم تكن تعرف كيف تقرأ، فانك لن تعرف كيف تقرر". "لست محتاجاً بحرق الكتب لتدمير حضارة ما، كل ما عليك فعله هو أن تجعل الناس يتوقفون عن قراءتها".