جاء في كلامٍ لعليّ بن أبي طالب؛ " فيا عجبي، وما لي لا أعجب، من خطأ هذه الفرق، علي اختلاف حُجَجِها في دينها ! لا يقتفون أثرَ نَبيٍّ، ولا يقتدرون بعمل وَصِيٍّ، ولا يؤمنون بغيبٍ، ولا يعَفُّون عن عَيْبٍ. يعملون في الشُّبُهات، ويسيرون في الشَّهوات. المعروف عندهم ما عرفوا، والمنكر عندهم ما أنكروا. وفزعهم في المعضلات إلي أنفسهم، وتعويلهم في المهمات علي آرائهم. كأن كل امرئ منهم إمام نفسه، قد أخذ منها، فيما يري، بعري ثِقات، وأسباب محكمات ". في كلام عليٍّ، هذا، ما يكشف عن الوضع الذي آل إليه الدِّين، وما عرفه من تَفَتُّت، في المذهب والاعتقاد. فبعد موت الرسول، مباشرةً، ظهر الخِلاف، رغم ما بدا من مبادرة عمر لمبايعة أبي بكر، لِدَرْءِ " الفتنة "، واجتناب التَّفَتُّت والانقسام، أو وفق كلام لمعاوية، تَوَجَّه فيه لمحمد بن أبي بكر، فإنَّ بيعة عمر لأبي بكر، كانت " مؤامرةً " بين أبي بكر وعمر، لقطع الطريق علي عليّ، وتداوُل الخلافة بينهما. يقول معاوية؛ " فكان أبوك وفاروقُه (ويقصد عمر]أول من ابتزّه حقّه وخالفه علي أمره(يقصد عليّ] علي ذلك اتَّفَقا واتَّسَقا ". رغم ما سعي من خلاله معاوية، هو الآخر، لتبرير استفراده بالسلطة، وما سيُقْدِم عليه، فيما بعد، بتوريث " الخلافة " لابنه، فهو، كان قريباً مما جري، وكان ضمن الذين عرفوا كيف سارت الأمور بعد موت الرسول صلي الله عليه وسلم. ومن يعرف ما جري في اجتماع السقيفة، ودور عمر فيها، قد يُدْرِك معني كلام معاوية هذا، وهو ما تكشف عنه، بعض القراءات المعاصرة، لهذا التاريخ الذي، اختلط فيه المقدس بالدنيوي، فضاع كثير من الحقائق، أو تَمَّ حَجْبُها، لصالح المعني الدينيّ، واعني هنا تحديداً، تغليب المقدَّس علي الدنيوي. عليّ بن أبي طالب، أدركَ هذا المعني، لكن ليس من زاوية العودة للدنيويّ، لقراءة الأحداث والوقائع، وفق ما جرتْ به، أو لوضع الإنسان في سياق وجوده علي الأرض، وما يتحمَّلُه من تبعاتٍ، بحسب طبيعة مسئولياته، وما اتَّخذه من قرارات، أو أقدم عليه من أعمال، بل من زاوية المُقَدّس، أو الدِّينيّ، فيما آلَ إليه أمر المسلمين، من تَشَتُّت وانْفِراطٍ وتَفَتُّتٍ، أو فُرْقَة، بتعبيره. لم يعد المرجع هو الدٍّين، ولا أثر الأنبياء، أو ما تركوه من وصايا، ولا حتي " الغيب "، بما في " الكتاب ". الأمر كلُّه، في نظر عليّ، أصبح بيد الأشخاص، أو " الفِرَق "، التي لم يعد " الكتاب " حُجَّتها، في الدِّين، بل إنَّ كل فرقة، أو جماعة أصبحت حُجَّةً في ذاتها، المعروف هو ما تعرفه، والمنكر هو ما تُنكره، فَرأيُهم، أو " تأويلُهُم " وفق سياق العبارة، في كلام عليّ، هو الحُجَّة، وهو " الكتاب "، أو حقيقة " الكتاب ". ما يُفَسِّرُ معني قول عليّ " كأنّ كل امرئٍ منهم إمام نفسه ". فَهِم عليّ، أن " الإمامةَ "، خرجت من يده، وهو مَنْ كان مُلَقّباً بالإمام، كما أن الدِّين، لم يعد صادراً عن نفس المرجع، ولا نفس الحُجَّة، ولا نفس " الغيب "، بل إنّ الدنيا، فعلت فعلها في الدِّين، أو خرجت من المعني المقدس الذي كانت أخذته علي زمن الرسول، لتصبح عاريةً من الدٍّين، مقابل الأطماع الشخصية، و " الشُّبُهات " و " الشهوات "، وهو ما كان جاء الدين ليرفُضَه، أو يدعو لاجتنابه. هذا الذي يتحدث عنه عليّ، كان في زمنه، وتحديداً، في زمن " الفتنة "، والخِلافات التي أفْضَت، إلي قتْل عثمان، واستفراد معاوية بالسلطة، وتوريث الحُكم لآلِه، من الأمويين، وانتقال " الخلافة "، بالتالي إلي دمشق، هو تعبير عن انحرافاتٍ، كان عليّ، يراها من منظوره كأحد القريبين من الرسول صلي الله عليه وسلم، وكأحد الذين انْتِزعت الخلافة من يدهم، لتسير الأمور في غير المجري الذي كان مُقَرَّراً لها أن تسير فيه. ثمة " خطأ " حدث، أو حَرْف للدّين، عن سياقه، عن هذا " الأصل " الذي يري عليّ أنه صارَ أُصولاً، لكنها أصول مُزَوَّرة، كاذبة، مُشَوَّهَة، لا صلة لها بحقيقة " الغيب " كما كانت، أو كما جاء بها الكتاب. المشكل، فيما أدركه عليّ، حدث في التأويل، وربما، بشَطَط وإفراطٍ في التأويل، أو انزياح عن قواعد التأويل. هؤلاء الأئمة الجُدُد، المُتأوِّلون ل " الغيب "، وفق أهوائهم، وشهواتهم، و " آرائهم "، هم من أفسدوا الدِّين، أو أفرغوا الدَّنيا من الدِّين، بما يشي به كلام عليّ، فأصبح الدِّين، في " ما عرفوا "، هو غير الدِّين الذي نزل به الكتاب، وأصبحت المعاني التي يصدرون عنها، هي محض تفسيراتٍ وتأويلات، مرجعُها دنيويّ( سياسوي ) وليس دينياً (أخروياً]. ومن هنا يأتي استغراب عليّ، لِما جري من " خطأ " في تعدُّد، أو تَفَتُّت وتَشَتُّت المصادر والأصول، وترك السماء، مقابل الشهوات و الأهواء. فعليّ نفسه هو القائل " إذا تغيَّر السُّلطان تغيّر الزمان ". ولستُ أدري، هل عليّ، كان يذهب، فيما وراء هذا الكلام، إلي تسليمه بصيرورة الزمان، وبانقلاباته الحتمية التي هي من طبيعة التقدم، وتغَيُّر الأفكار وطُرُق الحُكم، وهذا ما لا أذهبُ إليه، انسجاماً مع ما في كلامه السابق من رأي، أم أنه نوع من التسليم بما جري، حين رأي أن الخَرْقَ اتَّسَع علي الرَّاتِق، كما يقال؟ ! هذا كان في زمن عليّ، وهو حين أفضي بكلامه هذا، كان يُدْلِي بشهادة تاريخية ثمينةٍ، حين نقرأها اليوم، نفهم بعض معضلاتِ ما يجري في زمننا؛ في طبيعة العلاقة التي يُقيمُها الناس بين المقدس، أو الدينيّ والدنيوي. ما يجري في زمننا من إفراطٍ في تفسير الدُّنيا بالدِّين، أو دَيْنَنَة الدُّنيا، وتدْيينها، هو من قَبِيل هذا " الخطأ " الذي كان عليّ نَبَّه إليه، وهذه " الحُجَج " التي أصبحت هي الدّين، رغم أنها هي مجرد تأويل للدين، من خلال آراء، أو وجهات نظر، أصبحت تري في ما تقوله حقيقةً، أو أصْلاً، لا قراءةً قابلةً للنقد والمراجعة، والتقويض. السَلفيُّ، هو من يقود المجتمع، اليوم؛ هو الفقيه العالِم المُفتي النَّاصِح المُرْشِد الهادِي، ومالك الحقيقة ! مفاتيح الجنة في يده، وأيضاً مفاتيح النار. ليس السلفيُّ واحداً، بل إنه جماعاتٍ، وأفراداً. الغيبُ، بتعبير عليّ، هو غُيوبٌ، في " رأي " السلفيين، و " الكتاب " كُتُبٌ. لا سلفيَّ يَتَّفِق مع الآخر في التأويل، ليس إيماناً بمعني الرحمة التي يُفْضِي إليها اختلاف أئمة، أو علماء الأمّة، بناءً علي قواعد العلم، وشروط " الاجتهاد "، كما ذهب إلي ذلك بعض القدماء، بل إنَّ سلفية زمننا، هي سلفية لها أكثر من وجه، وأكثر من لسان، فهي سلفية عمياء، لا تري إلاّ السواد والظُّلْمَةَ، وتزدري، أو تنتهك، كل ما يأتي من الضوء والنور،فهي سلفيةٌ جاهلةٌ، لا تفهم خلفيات " النص "، ولا تمتلك ما يكفي من معرفة لقراءته، فهي سلفية السطح والقشرة و الظاهر، تكتفي بالمعاني الأُوَّل، ولا تستطيع ربط النص بسياقاته التاريخية، ولا بسياقاته المرجعية، بما تعنيه من دلالات، وما ينطوي عليه الخطاب من تعبيرات ثقافية، اشترك فيها الإسلام مع غيره من الديانات والثقافات السابقة عليه. وهو ما يسري علي عربية القرآن، التي هي ليست عربيةً صافيةً، لم تخرج عن مجتمع البادية، أو مجتمعات الجزيرة العربية. فهي لغة الحوار مع الآخر، والانفتاح علي تجارته وثقافاته وتعبيراته. السلفيّ، حين يقرأ التاريخ يحصره في نزول القرآن. ما قبل " الدعوة " لا يعني له شيئاً، وما بعد الدعوة، يعمل علي صياغته بحذف ما لا يتفق مع فهمه، ورؤيته، وتأويله، أو يعتبره تراثاً وثنياً، لا ينسجم مع التراث الإيماني التوحيدي، الذي يصدرُ عنه، ما يعني أن تاريخ السلفيّ، هو تاريخ مُجْتَزَأ، مُبْتَسَرٌ، منقوص، ومُشَوَّهٌ، مليء بالثغرات والبياضات، كما أنه لا يخرج عن سياقه الإيماني التوحيديّ. في مثل هذا التاريخ الذي يكتبه السلفي، نَسْتَشْعِر هذا الابتسار والتشويه، الذي ينعكس علي فهمنا، وعلي معرفتنا، التي، ستكون، حتماً، معرفةً مُشَوَّهَةً مُبْتَسَرَةً، ومليئة بالأباطيل، وبما أصبح داخلاً علي الدِّين نفسه من خرافات وأساطير. حين كان عليّ بن أبي طالب يستغرب " خطأ " هؤلاء، ممن ركبوا الدِّين وهُم " لا يقتفون أثر نبيّ " و " لايؤمنون بغيب "، فهو كان ينتصر للدِّين علي حساب الدنيا، أو يعتبر الدُّنيا، في تفسير هؤلاء، أكلت الدِّين وحَرَّفَتْه عن مجراه، الذي كان عرفه من الرسول، ومما جاء في القرآن، أي بدفاعه عن " الأصل "، ولم يكن يضع الدُّنيا في مقابل الدِّين، أو يستعمل الدّين لبلوغ الدنيا. فسلفية عليّ، هي سلفية رسالةٍ وعقيدة وإيمان، أما سلفية هؤلاء، فهي سلفية جَهالةٍ وبِدَعٍ وافْتِتان، وليست " الشريعة "، عندهم، هي العودة بالدِّين إلي أصوله، لأن الدين، أو " النص " في أصله سابق علي الشريعة، وهو نَصُّها الذي خضع للتأويل، و " الخطأ "، بقدر ما هي طريقة في امتهان الناس، وفي استعبادهم، وازدراء العقل والفكر والمنطق، وما وصل إليه الإنسان من تقدُّم وتطور، أو هي بالأحري، قيادةُ الأعمي لِلْمُبْصِر، دون وَعْيِ ما يذهب إليه النص نفسه، في تمجيد النهار علي حساب الليل، أو النور في مقابل الظُّلْمة، في قوله " فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْل وجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً« (الإسراء: 12