تبدو الأمور عادية مثل كل يوم؛ فقد انتهي رصيدي من الدقائق في منتصف مكالمة كنتُ علي وشك أن أستعيد بها زوجتي الناشز، فانقطع صوتي عنها، وراحتْ، مثل كل مرة، تتوعدني لأنني أبالغ في المبادرة إلي تسديد فواتيرها المترتبة علي قلبي، بأن أقفل الخط أولا! لا بأس أن أسجِّل انتصارات، ولو وهمية، ولو علي زوجتي الناشز؛ فذلك شعور لا يتوفر دائما، لمبالغتي في المشي مختصرا مرحلة من مراحل المواصلات المتعددة حتي أصل عملي متأخرا، عامدا متعمِّدا، وأواجه تقريع مسؤولي في العمل، بأن أمعن في التحديق بالأرض، ثم أرفع رأسي فقط لأنظر إلي السقف، وأنبِّه مسؤولي إلي أن قطرات من الماء تسقط علي رأسه كالمعتاد. أصير أكثر شجاعة حين أذكِّرُه أن عليه مخاطبة مسؤوله بأن يجد حلا لائقا لسقفه المثقوب، وأنْ يكفَّ عن ترديد عبارته البائسة أن سقفه، الوحيد، واطئ من بين أسقف المسؤولين الآخرين! لم أكترث لكل ما جري أثناء اليوم، فكلها أمور عادية، تحدث بتواتر منتظم، حتي المظاهرة التي تم تفريقها ب "عنف مفرط"، وغاز كثيف يسد مجري الهواء والدمع، شاهدتها كثيرا في التلفاز، لكنني اليوم مرَرْتُ قربها، وهتفتُ مع المتظاهرين شعارات صاخبة، أحدها كان شديد الصلة بخلافي مع زوجتي الناشز، فقد جهر المتظاهرون برغبتهم أن يحيوا بكرامة، تلك التي انتزعتها زوجتي مني، وجعلتني "علكة" منزوعة الماء في فم ناس رأيتهم يمضغونها في المظاهرة! غادرتهم ولحسن الحظ فقد هاجم الأمن المتظاهرين بعصي غليظة. أفرطتُ في الشماتة، خصوصا أنهم صدحوا بهتافات استعصت علي استيعابي، لكن ذلك سبّب لي حرجا بالغا أمام نفسي، وقرّرتُ بشكل سريع أن أهتم بتثقيف نفسي، فلربما كانت تلك الشعارات التي لم أفهمها ذات صلة أيضا بخلافي المستعصي مع زوجتي الناشز! وتنفيذا لتوجهي بتثقيف نفسي قررت أن أكون مستمعا جيدا، وكان أول ما سمعته حين صعدتُ الحافلة صوت رجل قميء الهيئة كان يجلسُ قرب السائق، وبسرعة خاطفة منحنا وجهه الكئيب، موليا ظهره للسائق، متحدثا بعد توطئة خطبة الجمعة المعتادة، عن عقاب المنتحر في القبر. وقررتُ سريعا تأجيل تثقيفي، ليبدأ من اللحظة التي ينتهي منها الشيخ الذي بلل لحيته الحمراء بدمع قليل الملح! نزل الشيخ المتباكي في أول محطة، فوجدها السائق فرصة لتشغيل المذياع، ووجدتها فرصتي الأولي للتثقيف فأصختُ السمع. قال المذيع إن قوات الأمن فرقتْ مجموعة من الخارجين عن القانون الذين نادوا بشعارات "هدامة". صفقتُ، ثم استدركت لما رأيتُ وجوه الركاب المتعبة تتجه إلي، فارتد فرحي داخلي؛ فقد كنت علي حق حين وليتُ هاربا. لم يشأ السائق أن يُسمعنا المزيد من الأخبار التي انتهت جميعها بموت ركاب حافلات في تفجيرات متعددة من العالم، فأزاح المؤشر قليلا، لينطلق صوت غناء فصيح:"لم يعد صدر الحبيب موطني لا ولا أرض الهوي المذبوح أرضي"، كان حزنه مؤثرا ودفعني إلي مغادرة الحافلة، واستكمل الطريق إلي بيتي مشيا، فهو خال ولا أحد ينتظرني هناك إلا التلفاز الذي اعتبرته وسيلة تثقيف، فاخترت محطة تبث فيلما كان يعاني فيه البطل من مشاكل نفسية متعددة، وزوجته، الناشز فيما يبدو، تخونه وهو يدرك ذلك، ثم يغفر لها، ويقبلها، ثم تختفي ملامحهما في الغروب، وصوت تاريخي هادئ ينطلق من مشهد بحري باذخ في سحره البرتقالي يجمعهما: "اتخذتُ قرارا أرجو أن تساعدوني عليه"، تكون القبلة قد اكتملتْ، فيواصل الصوت التاريخي المألوف "فقد قررتُ أن أتنحّي تماما، ونهائيا عن أي منصب رسمي، وأنْ أعود إلي صفوف الجماهير..". وعلي الفور عبأتُ رصيدا جديدا، وهاتفتُ زوجتي التي كذبتُ حين قلتُ إنها ناشز، وكل ما في الأمر، أو أخطر ما في الأمر أنني لم أستطع الإنجاب منها. رنّ الهاتف رنينه البارد مرات ولم يقطعه صوتها الحاد. قررتُ أن أذهب إليها، مشيتُ في الشوارع كانت خالية من المتظاهرين، وليست مثلما بدت في التلفاز مليئة بجموع تثني جمال عبد الناصر عن التنحي. لم تعد زوجتي. وكل الأشياء التي كانت عادية لم تعد كذلك، منذ قرّرتُ أنْ أتنحّي تماما، ونهائيا، حين سددتُ فوهة المسدس علي صدغي، تماما كما لم يفعل جمال عبد الناصر، "إثر حفلة سمر في حزيران"، فلم أطلق طلقة واحدة، أنا الذي أباتُ في بيت النار وأمضي صباحا، ولا أري متظاهرين؛ فقط جموع غير منتظمة تحكُ صدغها!!