الكتاب: »نساء الشرفات« المؤلف: جمال القصاص الناشر: العين نشر مجموعة شعرية جديدة، في مسيرة شاعر متميز، حدث مثير للقلق. قلق الشاعر بشأن حرفته معتاد ومتوقع، لكن القاريء أعني.. ذلك الذي يفترض أن سنوات من الممارسة سوف تغير الحرفة، حدة المنظور أو عمقه، ويقبل علي المجموعة الجديدة متسائلا عما إذا كان الشاعر ما زال مهتما بالمشاعر/ الأفكار التي أثارت من قبل اهتمامه؟ هل ما زال مطمئنا لأدوات التشكيل/ التصوير عينها؟ وهل المجموعة الجديدة.. جديدة حقا؟ "نساء الشرفات" عنوان جديد في قائمة إصدارات الشاعر جمال القصاص، ومجموعة شعرية تسعي لأن تكون "جديدة" من خلال العمل علي تيمة رئيسية ودافع/ محرك أساسي، تشكيل غني للصور الجزئية، وإيقاع متنوع للوصل/ القطع بين الفصول. التيمة الرئيسية تصريح شجي، يجمع بين اليأس ومقاومته بعناد، عن الخذلان.. "خذلتني الشرفات"، وعن خسائر الروح/ الشرفة المفتوحة علي فضاء الغفران.. "سأفتح دائما الشرفة". تصريح شيخ/ طفل رسام يطارد في الكراس شهوات هاربة، يحاول استعادة أغنيته/ ذاته/ شرفاته و "كل شرفة زمن". تستكشف المجموعة هذه التيمة عبر تسعة فصول معنونة، يضم كل فصل منها نصوصا غير معنونة، يتراوح عددها بين نص واحد (ما تحت القميص) وتسعة نصوص (غبار النوم). وكالمعتاد في تشكيل المجموعات الشعرية، ينسجم بعض النصوص مع التيمة الفرعية، السائدة في الفصل الذي يضمها، ويصلح بعضها للانضواء تحت أي فصل آخر. الإشارة إلي سلفادور دالي في النص الأول بالفصل التاسع، علي سبيل المثال، تجعله منتميا إلي بداية الفصل الثامن، وفقا لسياق العنونة، وإلي الفصلين الأول والسادس وفقا لسياق الدافع المعنوي أو المحرك الأول للتيمة الرئيسية. يرتبط دافع التيمة الرئيسية بذلك الغموض اللطيف الذي يحيط بعنوان المجموعة، نساء الشرفات! كل شرفة امرأة أم كل شرفة زمن مرت به امرأة؟ لا فارق؟ الاحتمال الأول يفقد المجموعة جاذبيتها، يجعلها لا تزيد عن ثرثرة متباهية، ويشوه تأثيرات صورة الخذلان/ الخسارة التي "تستغل" مجاز الشرفة/ المرأة. "شيخٌ اغتالتَهُ محبّتتُهُ، أفسدتهُ حَصَاةٌ، علَّمَهَا كيف تطيرُ، كيف تحتطبُ الحروف..". حصاة/ شرفة/ امرأة.. قسوة وجحود غير مبررين في مقابل محبة وعطاء، موقف مثالي معنويا لاستدعاء أخريات، استعطاف رقتهن بأكثر من إشارة للضعف، استحضارهن في تجربة "صنع حلم علي شكل طائر"، وإطلاق سراحهن من شرفة الروح. "يا نساءَ الشُّرفات/ مهلاً../ أنا الأعزلُ حتي من نفسي/ لا إرثَ لي/ الحياةُ تمرُّ تحت لساني مثلَ قرصِ المخدِّر/ لا أستطيعُ أن أستعيدَ أغنيتي/ لا أستطيعُ أن أكتبَ../ حتي يتذكَّرَ أحدٌ../ أنني عشتُ هنا". أزمة كتابة؟ يمكن التفكير في ذلك عند الربط بين "موتيفات" الحروف والطيران في صورة الدافع، لكنها علي الأرجح كتابة أزمة فقد أو خسارة تمتد من الفصل الأول عبر الفصول، بخاصة الفصل السادس. "فقدتُ شرفةً/ أشكُّ في نَقَّار الخشبِ/ فعَلهَا في الفصلِ الأولِ/ لا أظنُّ أنني سألجأُ إلي الشرطةِ/ أو أرتكبُ جريمةً حمقاءَ/ سأحتكمُ لحرفٍ لم أكتبْهُ/ لقُبلةٍ لم يفسدْ النّومُ شكَّتَهَا/ لن أقتنعَ بأن ماساً كهربائياً/ أغواها في لحظة طيشٍ/ أو أن الفاعلُ مجهولٌ/ لم تنضجْ هويتُهُ..". مَنْ نقار الخشب؟ ما العلاقة بين منظور كل من هذا النص والنص الأخير في الفصل الأول؟ ما العلاقة بين التبريرات الرسمية المشهورة للحرائق والشرفة المفقودة؟ الإجابة موجودة، بالمجموعة كلها، في تشكيل حالة.. لوحة غنية من الصور الجزئية، انطلاقا من تجربة الفقد، الشعور الفادح بالانكسار والوحدة عند المرض.. في لحظات صحو مشوش بالحلم والهذيان، واعتمادا علي المزج بين تأثيرات كل من التيمة الرئيسية والتيمات الفرعية، مجاز كراس الرسم ومجازات اللغة اليومية والتعبيرات المنهكة من فرط الاستخدام، أصوات النساء الحاويات الطاردات وصوت يراوح بين الوداعة والعنف تجاه الخارج في تمرينات للثقة في الذات. معنويا، تقاوم الذات في المجموعة يأسها بالعناد، بالسخط والسخرية، باللوم والرجاء، تقلب الافتراضات لتفسير حالة الفقد، وتتمثل معاناة الآخر والمواساة. وفنيا، تقوم بمعارضة عابرة للأنواع، تخطف من دالي فتاة النافذة، تقيدها بالانتظار في شرفة، وبفرشاة متمردة وعجينة ألوان أنثي تشكل كيانا واحدا.. نافذة للروح وشرفة للإطلال علي غيرها وأشياء أخري. تسع شرفات لحالة فنية مركبة، لا تساوي الموجز المتسرع في النص الثاني من الفصل الأخير، تتوحد فيها الذات مع الموضوع، وتنفصل عنه بإيقاع مبهم، لكن.. "ليس مهما غمغمة الإيقاع" ما دامت طاقته قادرة علي دفع الحالة إلي لحظة الخلاص أو تحرير الذات/ الموضوع، في نهاية المجموعة، وما دام إحساس القاريء به مريحا، لا تربكه وقفات كتلك التي تسببها أخطاء لغوية في الإحالة والوصف. الإحساس بإيقاع الوصل/ القطع بين التيمات والصور، الرئيسية والفرعية، في "نساء الشرفات"، يجعل القراءة ممكنة من أي فصل أو نص، وبدون ترتيب، العلاقات الداخلية مبعثرة كلمسات متعمدة لمقاومة الرغبة في تشكيل ديوان تقليدي، للعب قليلا مع توقعات القراء، ولإنتاج كتابة حية، بخبرة متجددة، في مجموعة شعرية سعت لأن تكون جديدة، ونجحت بكشف المزيد من ملامح الصوت المميز لجمال القصاص.