- محاضرة 6 - ثانية واحدة ! وأسرعَتْ إلي ركن المكتبة الصغيرة المملوء بأرفف تعج بالكثير من أوراق المحاضرات والدروس . بحثت قليلا بين أكداس الأرفف حتي عثرت علي المحاضرة المطلوبة . أخذتها وشغّلت ماكينة التصوير ووضعت الأوراق في المسند الخاص بها ، فبدأت الماكينة تعمل . تركت الماكينة واستدارت مقتربة من الطالبة .. أشرق وجهها بابتسامة جميلة ، وهي تنظر إليها فتبدو في عينيها كشخصية محببة ، بدفاتر كليتها ونظارتها ، ونظرة عينيها التي كلها عزم وثقة . كم كانت تتمني أن تكون مثلها .. تأخذ قسطا وافرا من التعليم ، ولكن ليس كل ما يتمناه المرء ... توقف قطار تعليمها عند الدبلوم ! كانت تتمني أن تعمل في وظيفة مهمة ، يضربون لها فيها " تعظيم سلام " ، ولكنها لم تجد سوي تلك المكتبة ، المنزوية في ركن حارة أمام الحرم الجامعي ، شق داخل سبعة شقوق . - ياااااه ! كم كان يثمل هذا القلب الذي بين جوانحها بعظيم الأحلام ... كانت تحلم بالفارس يأتي علي فرسه ( المرسيدس ) ليقيم لها عرسا تحلم بمثله كل بنت ، يشبكها بنن عينه ، يسكنها أعمق مكان من قلبه ، يطعمها معسول الكلام ، يسقيها رحيق السعادة . كانت تحلم بطفل يملأ عليها دنياها ، ترضعه محبتها ، تسمعه وهو ينطق أولي كلماته ، وحينما يكبر يبح صوتها معه . كانت تحلم وتحلم ، ولكن هاهي السنوات تمضي والماكينة تعمل دون روية ولا توقف ! الماكينة شارفت علي الانتهاء من الأوراق ، كما شارفت أحلامها هي علي النضوب ، عادت تنظر إليها مع آخر ورقة خرجت منها ، إنها تعرف الوقت الذي تحتاجه لكي تنتهي فيه من التصوير ، تبسمت في ثقة شابها شيء من المرارة ، فهناك أشياء - رغم كل شيء - لا تعرف متي يمكن أن تنتهي! أمسكت الأوراق المصورة ، وهمت بأن تستدير لكي تعطيها للطالبة ، لكنها تسمرت فجأة في مكانها ، وراحت تنظر للأوراق في وجوم . مضي بعض الوقت وهي علي تلك الحال ، حتي شعرت الطالبة بالاستغراب . بقيت في انتظار أن تكمل استدارتها وتعطيها المحاضرة ، لكنها ظلت متحجرة في مكانها . فرغ صبر الطالبة ، نادتها ، لكنها لم ترد ، نادتها مرة أخري لكنها ظلت مسمرة لا تتحرك ولا تجيب ! - يا آنسة ! كم واحدا وواحدة مثلك يا فتاتي مروا علي.. - يا آنسة ! وأنا هنا واقفة في مكاني .. - يا آنسة ! أعرفكم منذ أن تلتحقوا بالجامعة إلي أن تنهوا دراستكم فيها ، ثم .. - يا آنسة ! يا آنسة!! وجوه تظهر ووجوه تختفي وأنا علي حالي دائما .. - يا آنسة .. ماذا دهاك؟! حتي متي؟.. - ألا تردين؟! حتي متي؟!.. - المحاضرة بالله عليك! حتي... وضغطت علي الأوراق ، كأنها نسيت أنها بين يديها ، إنها تحب الطلاب وتحرص علي مساعدتهم بأوراق جيدة التصوير ، وبأن تخفض لهم أحيانا - من ثمنها - ما أمكنها - ولا تحب أن يصدر منها شيء يؤذي واحدا منهم ، لكنها رغم هذا ضغطت علي الأوراق حتي انبعجت وتثنت أطرافها بل وتقطع بعضها ، لقد نسيت حقا أنها بين يديها ! فوجئت بيد قوية تهزها فتعيدها لوعيها ، إنها يد الطالبة التي تخطت الباب الخشبي الصغير الذي يفصل بينهما وراحت تهزها وقد أمضها طول النداء ! - يا آنسة ستفوتني المحاضرة ! نظرت إليها أخيرا ، فأحست بالخجل ، همت بأن تعتذر لها ولكن من هذه الواقفة أمامها ؟ وأين الأخري صاحبة النظارة والنظرة الواثقة ؟ يااااه ما أضعف ذاكرتها ، لقد اختفت تلك منذ سنوات ، وهذه أخري ، عرفتها منذ أن ظهرت أمامها تطلب صور المحاضرات ، وها هو اختفاؤها هي الأخري أصبح وشيكا ! نظرت إلي أوراق المحاضرة التالفة ، ثم أشارت بيدها وهي تقول مستسمحة : - أنا آسفة .. ثانية واحدة ! وأسرعت إلي الماكينة فصورت نسخة جديدة ، وعادت تعطيها للطالبة ، التي ما إن لمست يدها الأوراق حتي أسرعت تمضي وتختفي