القومي للإعاقة يطلق غرفة عمليات لمتابعة انتخابات النواب 2025    مدبولي: نقدم أسرع إنترنت في إفريقيا.. والاستثمار في البشر الركيزة الأهم في تقدمنا    المدير الإقليمي لليونسكو بالقاهرة: تعمل على إصدار توصيات بشأن استخدام الذكاء الاصطناعي    «المرشدين السياحيين»: المتحف المصرى الكبير سيحدث دفعة قوية للسياحة    الجيش الإسرائيلي يعلن بدء مناورات عسكرية بالضفة والأغوار الاثنين    مقتل شخص بغارة إسرائيلية إستهدفت بلدة حومين الفوقا في النبطية    أردوغان: أكثر من 1.29 مليون لاجئ سوري عادوا إلى بلادهم منذ 2016    الاتحاد الأوروبي يرفض استخدام واشنطن القوة ضد قوارب في الكاريبي    عضو بالحزب الجمهوري: ترامب والديمقراطيون يتحملون مسؤولية الإغلاق والمحكمة العليا أصبحت سياسية    روما يهزم أودينيزي وينفرد بصدارة الدوري الإيطالي    خيانة تنتهي بجريمة.. 3 قصص دامية تكشف الوجه المظلم للعلاقات المحرمة    جنايات المستأنفة تقضي بالبراءة والمشدد لمتهمين باستعراض القوة والشروع في القتل    «فريق المليار يستحق اللقب».. تعليق مثير من خالد الغندور بعد فوز الأهلي على الزمالك    برنامج مطروح للنقاش يستعرض الانتخابات العراقية وسط أزمات الشرق الأوسط    بث مباشر.. البابا تواضروس يشارك في احتفالية مرور 17 قرنًا على انعقاد مجمع نيقية    خروج 6 مصابين من حادث الطريق الإقليمي بالمنوفية بعد تلقيهم العلاج (بالأسماء)    وداعًا مصطفى نصر.. صاحب «جبل ناعسة» و«الهماميل»    الوطنية للانتخابات للحياة اليوم: تطبيق إلكتروني جديد لتسهيل مشاركة الناخبين    شبيه شخصية جعفر العمدة يقدم واجب العزاء فى وفاة والد محمد رمضان    قراءة صورة    ذا جراند بول !    هل يجوز أن تكتب الأم ذهبها كله لابنتها؟.. عضو مركز الأزهر تجيب    هل يجوز الحلف ب«وحياتك» أو «ورحمة أمك»؟.. أمين الفتوى يُجيب    تدخل طبي نادر بمعهد الكبد القومي بالمنوفية ينقذ حياة مريض خمسيني    محافظ الغربية خلال جولة مفاجئة بمستشفى قطور: لن نسمح بأي تقصير    خالد الجندي: الاستخارة ليست منامًا ولا 3 أيام فقط بل تيسير أو صرف من الله    هل يذهب من مسه السحر للمعالجين بالقرآن؟.. أمين الفتوى يجيب    قتل وهو ساجد.. التصريح بدفن جثة معلم أزهرى قتله شخص داخل مسجد بقنا    غدًا.. وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة فى لقاء خاص على القاهرة الإخبارية    حزب السادات: مشهد المصريين بالخارج في الانتخابات ملحمة وطنية تؤكد وحدة الصف    رسميًا.. بدء إجراء المقابلات الشخصية للمتقدمين للعمل بمساجد النذور ل«أوقاف الإسكندرية»    الخبرة تحسم الفائز.. الذكاء الاصطناعي يتوقع نتيجة نهائي السوبر بين الأهلي والزمالك    استعدادات أمنية مكثفة لتأمين انتخابات مجلس النواب 2025    رئيس الوزراء يتابع مستجدات الموقف التنفيذي لمشروع مدينة «رأس الحكمة»    بيحبوا يثيروا الجدل.. 4 أبراج جريئة بطبعها    توقيع مذكرة تفاهم لدمج مستشفى «شفاء الأورمان» بالأقصر ضمن منظومة المستشفيات الجامعية    الشروط الجديدة لحذف غير المستحقين من بطاقات التموين 2025 وتحديث البيانات    راحة 4 أيام للاعبي الاتحاد السعودي بعد خسارة ديربي جدة    المستشارة أمل عمار تدعو سيدات مصر للمشاركة بقوة في انتخابات مجلس النواب 2025    محافظ بني سويف ورئيسة المجلس القومي للطفولة والأمومة يفتتحان فرع المجلس بديوان عام المحافظة    الصدفة تكتب تاريخ جديد لمنتخب مصر لكرة القدم النسائية ويتأهل لأمم إفريقيا للمرة الثالثة في تاريخه    المشاط: ألمانيا من أبرز شركاء التنمية الدوليين لمصر.. وتربط البلدين علاقات تعاون ثنائي تمتد لعقود    زلزال قوي يضرب الساحل الشمالي لليابان وتحذير من تسونامي    علاج مجانى ل1382 مواطنا من أبناء مدينة أبو سمبل السياحية    أحمد سعد يتألق على مسرح "يايلا أرينا" في ألمانيا.. صور    رئيس الجامعة الفيوم يستقبل فريق الهيئة القومية لضمان جودة التعليم    رئيس البورصة: 5 شركات جديدة تستعد للقيد خلال 2026    ضبط تشكيل عصابي لتهريب المخدرات بقيمة 105 مليون جنيه بأسوان    امتحانات الشهادة الإعدادية للترم الأول وموعد تسجيل استمارة البيانات    زيادة فى الهجمات ضد مساجد بريطانيا.. تقرير: استهداف 25 مسجدا فى 4 أشهر    وجبات خفيفة صحية، تمنح الشبع بدون زيادة الوزن    تأجيل محاكمة 10 متهمين بخلية التجمع لجلسة 29 ديسمبر    انتخابات مجلس النواب 2025.. اعرف لجنتك الانتخابية بالرقم القومي من هنا (رابط)    الزمالك كعبه عالي على بيراميدز وعبدالرؤوف نجح في دعم لاعبيه نفسيًا    التشكيل المتوقع للزمالك أمام الأهلي في نهائي السوبر    معلومات الوزراء : 70.8% من المصريين تابعوا افتتاح المتحف الكبير عبر التليفزيون    تعرف على مواقيت الصلاة بمطروح اليوم وأذكار الصباح    طارق السعيد: أُفضّل شكرى عن كوكا فى تشكيل الأهلى وشخصية زيزو مثل السعيد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المفكرون الأساسيون من النظرية النقدية إلي ما بعد الماركسية:
معاول علي جدار الماركسية!
نشر في أخبار الأدب يوم 05 - 05 - 2018

احتلت النظرية النقدية مكانة كبيرة، كما تقاسمت أطروحاتها النظرية علوم كثيرة، فلم تقتصر علي النقد وفقط، بل اشتملت العلوم الاجتماعية والفلسفية والسياسية أيضًا. وعلي الجانب الآخر شغلت الأطروحات الماركسية اهتمامات أجيال كثيرة من الأدباء والنقاد والمفكرين الذين تبنوا وروّجوا للأفكار الاشتراكية إبّان حركات التحرّر والمدّ الاشتراكي. ومع أهمية هذه الأفكار إلّا أن أحداث مايو 1968 كانت بمثابة مراجعة وإعادة تقييم والتفكير من جديد في الماركسية في ظلّ المعطيات الجديدة. فنشأ جيل جديد من المفكّرين وقفوا ضدّ هذه الأفكار، بل قاموا بمقاطعة هذه الأفكار وروّجوا لما يمكن أنْ يُطلق عليه ما بعد الماركسية، وهناك مَن سَعي لتبديل وتعديل الماركسيّة من الداخل كما أراد جيل ديلوز وجواتاري.
ما بعد الماركسية
ومن هنا تأتي أهمية هذا الكتاب الجديد »‬المفكّرون الأساسيون: من النظرية النقدية إلي بعد الماركسية» تأليف سايمون تورمي وجولز تاونزند، والصّادر حديثا بترجمة عربيّة تصدّي لها الدكتور محمد عناني، عن المركز القومي للترجمة في مصر بالاشتراك مع مركز المحروسة 2017، والكتاب في أصله معني بتقديم وتقييم لعدد من الشخصيات التي كان لها أكبر تأثير في إطار النظرية النقدية المعاصرة. ويرجع تميُّز الكتاب ومفارقته لبعض الكتب الأخري كما ذكر المؤلفان لأن اختيار هذه الشخصيات تمّ وفق مرجعية مصطلح أساسيّ في المناظرات الدائرة حول تراث الفكر النقدي، وهو يقصد مصطلح "ما بعد الماركسية" الذي يمثّل صعوبة من نوع ما. يتوقف المترجم في تصدير يشغل حيزًا كبيرًا من الكِتاب، عند أهمية الكتاب الذي يحوي أفكارًا عميقةً تتجه إلي أهل الاختصاص من الأكاديميين، فالكتاب كما يراه من أغزر الكتب الفكرية مادة وأعمقها بحثًا وتحليلاً، وإن كانت هذه الصفة يراها ميزة وعيبًا في ذات الوقت، فالميزة كما يقول: "حيث أنه يتيح للدارسين أن يستزيدوا من بعض مادته بالرجوع إلي المصادر، أي الكتب الأصليّة التي وضعها الأعلام الذي يعرض الكتاب أفكارهم. وأما العيب فإنه يفترض عند قارئه إلمامًا ولو عامًا أو مبدئيًا بإطار المادة المذكورة أو مصطلحاتها الشائعة. ويري من الصعوبة فَهم ما تضمّنه الكتاب إلا بوضع معجم للمصطلحات الواردة في الكتاب وهو الجهد الذي اضطلع به المترجم، حيث قدَّم تعريفات موجزة لكافة المصطلحات التي ترددت داخل فصول الكتاب المختلفة. ويعتمد في شروحاته علي التبسيط، وهي أقرب إلي التعريفات المدرسية.
جاء الكتاب في تسعة فصول، في كلّ فصل من هذه الفصول يحوي مُقدِّمة وتقييمًا للمفكرين الذين ارتبطوا بأحداث 1968، وبانتفاضة باريس مثل: كاستورياديس وجان فرانسوا ليوتار، والشريكين في الكتابة ديلوز وجواتاري. وأيضًا ليوتار وولاكلاو وموف، وميشيل باريت ودونا هاراواي وغيرهم. ويناقش الكتاب نظريات هؤلاء فيما يتعلق بمسائل عدة، منها نظرية التاريخ عند ماركس، ووصفه للعامل الثوري، وللأخلاق، والماركسية والوضعية، والطليعية والمثقفين، ومشكلة الديموقراطية، وعلاقة المذهب النسوي بالماركسية، والتوفيق بين الحداثة والاستقلال والتضامن، وكذلك تفكيك الماركسية وأنواعها، وصولاً إلي التساؤل الحيوي عن: ما بعد الماركسية إلي أين؟!
الكتاب ينشغل بهؤلاء الكتّاب الذين أكَّدوا يومًا ما علي وجود أزمة في الماركسية، وأن الماركسية المعهودة قد انهارت، وهو ما أدي بدوره إلي إعادة التفكير في عمل ماركس وتركته من أجل تشكيل البحث النقدي، وباعتبار ذلك ردّا سياسيًا علي الرأسمالية المتقدمة. ومن هنا فما بعد الماركسية تتضمن عنصرًا أساسيًا ألا وهو فكرة البقاء في فلك الإشكالية الماركسية، حتي في إطار التنصل من الماركسية، باعتبارها أساسًا لتجديد البحث النقدي. كما يهتم الكتاب بأولئك الذين حافظوا علي اقترابهم من فكر ماركس أثناء دورانهم في أفلاكه. وأهم رابط بين هؤلاء الكتاب مع تنوِّعهم هو إيمانهم باستحالة العودة ببساطة إلي ماركس، كما أن ثمة فرضية حاضرة في أطروحاتهم تتمثل في وجود إشكالية في فكر ماركس وأيضًا في مزاعم الماركسية بأنها النظرية المثلي للتحرّر البشري. كما أن هؤلاء غير معنيين بالبحث عن ردود ماركسية، بل كان تركيزهم علي قضايا المعني والذاتية والعالم الرمزي والعلاقة الإشكالية بين اللغة وتمثيل الذاتية.
ضدّ ماركس
لا تعني ما بعد الماركسية التخلِّي الكلي عن تراث ماركس، فهي ترتبط أولاً بعمل إرنستو لاكلاو وشانتال موف "الهيمنة والاستراتيجية الاشتراكية" المنشور عام 1985، فيقرّ الكثير من العاملين في مجال النظرية السياسية والنقدية، أنه النص الأساسي لما بعد الماركسية. ومع أن العنوان طموح يشير إلي التخلِّي عن ماركس إلا أنّه في الوقت ذاته يعترف بأهمية ماركس للعمل علي تشكيل خطاب يساري راديكالي بعد اختفائه من المسرح. وهناك مَن يعتبر "ما بعد" حركة فكرية مكتملة النمو، ولها جذورها التي ترجع إلي ظهور الماركسية الغربية بعد تشعُّب الماركسية إلي شعبتيْن في فترة الثورة الروسية وانهيار الدولة الثانية. وهناك من يزعم بأن ما بعد الماركسية ضمّت عددًا كبيرًا وربما غالبية الذين كانوا يوصفون بأنهم ماركسيون، وإنْ كانوا من النوع المارق أو الغربي أمثال جورج لوكاتش وأنطونيو جرامشي. فلوكاتش ذاته لم يكن يذهب إلي إحلال مذهب فكري بديلاً عنها، بقدر ما كان يَسعي إلي نهضتها وتطويرها.
والحقيقة أن ما بعد الماركسية كانت استجابة للأزمات التي وقعت بعد عام 1968، والتي كانت جميعًا تشاركُ في تجاوز الماركسية والشيوعية السوفيتية. حيث شهد هذا العام "ربيع براغ" الذي كان بداية النهاية للماركسية الشرقية والغربية، كما شهد أيضًا "أحداث باريس" التي وقعت رغم أنف الحزب الشيوعي الفرنسي، علاوة علي ما تعرضت له الماركسية المنظمة من ضربات لم يكتب لها أن تشفي من أهوالها في أوروبا؛ إذ تفتتت إلي شتي فصائل الشيوعية الأوروبية والماوية والتروستكية والستالينية، والأخيرة كانت تتوقع إعادة تأسيسها. وقد أظهر عام 1968 أن السياسة التقدمية كانت في مكانٍ آخر يختلف عن الأحزاب الماركسية أو تحت القيادة الماركسية. فقد كانت في الشوارع وتحت أحجار الطريق المُعَبد، وفي الحركات الاجتماعية الجديدة للمذهب النسوي ومذهب الحفاظ علي البيئة. أي أنّها بدت في كلّ مكان باستثناء جدران الحزب ومن هنا كانت هذه الأحداث بوضوح وجلاء خلفية لمشروع "لاكلاو وموف"، وأيضًا مهادًا لمداخل منوَّعة، وشتي التجديدات النظرية والاستراتيجيات، والغريب أن جميعها كانت تشارك الرغبة في الرغبة المشتركة لتجاوز الماركسية والشيوعية السوفيتية. ومن الإشكاليات التي واجهت المؤلفين ما هو خاص بالعنوان "ما بعد الماركسية" ويتخذ مِن موقف الذين عارضوا الماركسية وأكدوا علي وجود أزمة في الماركسية وأن الماركسية المعهودة قد انهارت، ذريعة لتجاوزها، وهو ما أدي بالضرورة إلي إعادة التفكير في عمل ماركس وتركته من أجل إعادة تشكيل البحث النقدي، ومن هنا اعتبر أن ما بعد الماركسية مهما يكن التعريف النهائي لها، إلا أنها تتضمن عنصرًا أساسيًّا ألا وهو فكرة البقاء في فلك الإشكالية الماركسية، حتي في إطار التنصل من الماركسية، باعتبارها أساسًا لتجديد البحث النقدي.
وأهم ما يُميِّز فكر ما بعد الماركسية هو ابتعادها عرضًا أو عمدًا عن فكرة النضال الفعلي للأحزاب والحركات والمجموعات الاجتماعيّة، ومن ثمّ يرفض المؤلف وصفها بأنها حركة سواء كانت فكرية أو ثورية. وبالمثل يرفض وصفها بأنها مذهب إيديولوجي، حيث الروابط القائمة بين الأعلام المدروسين هنا أبعد أن تكون ملموسة علي النحو المذكور.
في الفصل الأول يقف عند كاستورياديس ويقول عنه إنه ارتبط بجماعة الاشتراكية أو الهمجية التي وضعت تحليلاً جديدًا للرأسمالية والشيوعية السوفيتية وفق منهج ما بعد تروتسكي. وقد وضع دراسة انتقد فيها الماركسية نقدًا ضاريًا من كل أبعادها، لكنه ظل يتشبث بموقفه السياسي الراديكالي المتشدّد. وفي نفس الوقت كان لا يري أن الماركسية راديكالية إلي الحدّ الكافي، ما دامت مرتبطة بالصّورة السلطوية التي تجاوزها الزمن. فالماركسية عنده مازالت أبوية وبيروقراطية في استجابتها للعمل الثوري العضوي، ومن ثمّ فلا بدّ من محاربتها للحفاظ علي حياة الآمال والطاقات الراديكالية. كما تُمثل ما بعد الماركسية لديه تحديًا متينًا للماركسية ذاتها. وكان يهدف من وراء هذا إلي وضع نظرية راديكالية لاستكمال الفكر السياسي والمجتمعي ودحر البيروقراطية والمركزية. وإن كان ثمة صعوبة كامنة في التوفيق بين الإدارة الذاتية ومجالس العمال كما يقول محررا الكتاب في تقييمهما لأفكاره. أما جيل ديلوز وفليكيس جواتاري فقد وضعا كتاب "الرأسمالية والشيزوفرينيا" في مجلدين وهو أهم مداخلة نظرية خرجت من 1968. كان غرضهما الحقيقي هو التحقق في أحداث مايو 1968، وهو ما أدّي إلي دحض مزاعم الماركسية التقليدية والبنيوية بشأن العمل الاجتماعي، وهو ما يشي بوضع مذهب مادي جديد يستند إلي تحليل الرغبة كما في كتاب "ضد أوديب" وإعادة تركيب الجماعي كما في كتاب" ألف هضبة" وبصفة عامة كانا يهدفان إلي وضع تعليل فائق (أي أصح) للواقع الاجتماعي والتطور التاريخي، وبالتالي مذهب سياسي جديد يقوم علي الصورة المجازية للثوّري الشيزوفريني والرّحالة. الغريب أنهما كانا يُصران علي امتداد حياتهما أنهما ماركسيان، بغض النظر علي أنها ليست الماركسية التي يعترف الكثيرون بها أو حتي يتعاطفوا معها. وإلي جانب دعوتهما إلي إعادة التفكير في المادية، فإنهما في ذات الوقت يقدمان معارضة صريحة للاكان وفرويد كما جاء في كتابهما ضدّ أوديب بما يحمل عنوانه من معارضة للأفكار التي تبناها لاكان وفرويد في التحليل النفسي، ففرويد حلّ مشكلة البحث عن معني الحياة الإنسانية، بأن قصرها علي ذلك الصراع الأزلي مع الأب للظفر بقلب الأم. كما نبذا النظرية الماركسية للإيديولوجيا باعتبارها "وعيًا زائفًا"، ومن ثم القمع باعتباره من صنع المصالح الطبقية التي تخْفي بشكل ما عن العين. فتصبح مسألة "الوعي الطبقي" غير ذات موضوع في تعريفهما للرأسمالية، فمن وجهة نظر القيمة لا توجد إلا طبقة واحدة هي البرجوازية، وهذا المعني ترديد لأصداء ماركوزي في كتابه "الإنسان ذو البعد الواحد". فالوعي الطبقي بمثابة ستارً يحجب وضع استراتيجية يتمكّن بفضلها ممثلو المقهورين من إحلال أنفسهم ومصالحهم محل المقهورين الذين يقال إنهم لا يستطيعون اكتساب أي شيء سوي الوعي النقابي.
سعي ليوتار المولود في فرنسا عام 1924، الذي انحاز لحركة 22 مارس بعد أن انفصل عن جماعة الاشتراكية أو الهمجية بعد خلافات خطيرة، في البحث في الطاقة الكامنة "المسكوت عنه" أو الذي لا يمكن تمثيله باعتبارها أساسًا لمذهب سياسي راديكالي. كما كان يهتم اهتمامًا دائمًا بالطاقة الراديكالية الكامنة في الحركة الفنية الطليعية بصفتها الشرارة اللازمة لمقاومة إملاءات الرأسمالية. وبعد فشل انتفاضة مايو اتجه إلي انتقاد الماركسية، باعتبارها "ميتاقصة" شمولية، بمعني رسم صورة ما بعد حداثية للمعرفة تؤكّد أن جميع مزاعم الحقيقة تنتمي إلي مواقف معينة، ومن ثمّ فهي قصص. ثمّ بعد ذلك طوّر بحثه وجعله تحليلاً لاستنزاف الحداثة بصفة عامة والعلم بصفة خاصة، ثمّ تحول إلي البرجماتية. ظلّ محتفظًا بانتقاده للرأسمالية وميولها السالبة لإنسانية الإنسانية حيث تحويل الفكر الخلّاق والممارسة الخلّاقة إلي أدوات تستعين بها باسم "كسب الوقت". الشيء المدهش في مسيرة ليوتار أن كتاباته الأولي باستثناء كتاباته الصحفية التي جمعت بعنوان "الكتابات السياسية" لا تكاد تكون سياسية، وهذا إذا طبقنا وفقًا للمؤلفين مفهوم السياسة الضيّق الذي تبناه فالتر بنيامين، وجورج لوكاتش، وثيودور أدورنو" لكن مع توسيع مفهوم السياسة حيث يتضمن احتمال استعمال العناصر الجمالية أو المجازية كشكل من أشكال المقاومة، فسوف يتضح لنا أن جماع عمله ذو طابع سياسي.
نحو ديموقراطية راديكالية خيالية
في الفصل الخاص بلاكلاو وموف وهما من وجهة نظر مؤلفي الكتاب، رائدًا ما بعد الماركسية، يتوقف عند الكتاب المؤسِّس "الهيمنة والاستراتيجية الاشتراكية". ويري أنه في هذا الكتاب كانت تدفعهما رغبة حقيقية لتطهير الماركسية من جميع آثار المنطق الستاليني، ففي قلب النظرية الماركسية شيء يقاوم الانفتاح والتسامح اللذين لابد منهما لنجاح الديموقراطية، ولا بد أيضًا من نبذ المعتقدات الجوهرية للمادية التاريخية، وإحلال نظرية ما بعد البنيوية محلها، وهو ما كان مثار خلاف كبير. الهدف الأسمي لهما هو تحقيق مشروع اشتراكي من خلال الإطاحة ب "رأسمالية الاحتكار" بحيث تؤدِّي الطبقة العاملة فيها دورًا حاسمًا، وإن يكن بالتحالف مع قوي اجتماعية غير بروليتارية. وهما يؤكدان أن الماركسية ليست مذهبًا كاملاً.
بداية الصدام بين الماركسية والحركة النسوية قد تجلي في الموجة الثانية من الحركة النسوية التي طعنت في فهم الماركسية التقليدية لذاتها. وفي المقابل رأي بعض الماركسيين أن المذهب النسوي كان ظاهرة من ظواهر الطبقة الوسطي، وأن مسألة المرأة سوف تحسم بعد الثورة الشيوعية، وهو ما لم يكن بالتنبؤ الصحيح، لأنه سرعان ما اتضح أنها ثورة اجتماعية من نوع ما، من دون كسر للنظام الرأسمالي، وأن جبهة نسوية جديدة تتشكّل حتي في داخل الطبقة العاملة. وإن كان في الحقيقة تأثير الماركسية بدأ مع الثمانينيات ينخفض علي الفكر النسوي، نتيجة لقصورها في فهم القهر الذي تتعرض له المرأة. كما كان لقصور استجابة الماركسية التقليدية لنشأة المذهب النسوي لظهور ما بعد الماركسية بصورتها القوية والضعيفة. الغريب أن "ميشيل باربت" كانت تري الرأسمالية عقبة كؤودا تعوق تحرير المرأة، في حين رأت "دونا هاراواي" ضرورة الاهتمام بتأثير التكنولوجيا الحيوية وتكنولوجيا المعلومات في وعي المرأة وما يترتب علي هذا من شيوع روايات الخيال العلمي. ويري المؤلفان أن العلاقة بين الماركسية والنسوية تتسم أحيانًا بأنها مثل الزواج ولو لم يكن من (النوع السعيد) علي حد وصفه، والسبب لأن كلا منهما يمثل بحوثًا نقدية راديكالية للرأسمالية الليبرالية، كما استطاع كل منهما حشد حركات اجتماعية تؤيد رؤي مختلفة لإعادة خلق العالم باسم التحرر الإنساني. أما تقويض مزاعم الماركسية بالتفوق النظري فقد جاء علي يد البنيويين الفرنسيين، وخصوصًا فوكو ودريدا وليوتار ولاكان، وأتباعهم من دعاة المذهب النسوي الفرنسي الذين ابتدعوا ما يسمي بالتوجه اللغوي أو الثقافي في مباحث العلوم الإنسانية الغربية. لكن في الأخير يبقي أن المذهب النسوي المتسم بما بعد ماركسية ضعيفة. وهناك من المفكرين من دعوا إلي التوفيق بين الحداثة والاستقلال والتضامن من خلال الديموقراطية كما فعل يورجين هابرماس الذي كانت علاقته بماركس تشبه علاقة التلميذ الصبور الذي يُخْرِجُ المفاهيم والمواقف من أطرها فيعيد تشكيلها بالأساليب التي كان يطمح إلي تحسينها للأصل، وقد كان يرمي كما يطلق علي نفسه آخر الماركسيين إلي معالجة شتي نقائص الماركسية، إلا أنه انتهي في آخر أعماله وقد تخلي عن ماركس، واتخذ موقفًا "بعد ماركسي" وقد تجلّي هذا في دفاعه عن الاتجاه التأسيسي أي وضع شكل سياسي يحترم إنشاء مجال عام، وهو الأمر الذي كان لا يوليه ماركس اهتمامًا، فلم يول طبيعة المجال العام ما يحتاجه من الفكر، بل جعل له مرتبة أدني حين خصّ المجتمع المدني به.
من الشخصيات التي يضيفها المؤلفان لهؤلاء المفكّرين شخصية جاك دريدا، مع اعترافهما أنه غير ماركسي، لكن سبب إدراجه يعود إلي تأثيره المهول علي ما بعد الماركسية، خصوصًا في لاكلاو والفكر النسوي ما بعد الماركسي. وإن كان السبب الأهم هو قيام دريدا بتصفية حسابه مع ماركس والماركسيين. حيث يضع دريدا تفكيكه لماركس والماركسية في إطار أوسع، وهو إطار معني أن "يتعلم المرء أن يعيش آخر الأمر". كما يثبت دريدا في عدد من نصوص ماركس مدي انشغاله بطرد الأشباح، بدءًا بالرسالة التي قدمها للحصول علي الدكتوراه. ومناقشته للمال أو للإيديولوجيا. ومع أن إيجلتون ذكر أن دريدا كان علي استعداد لاستخدام الماركسية بحثًا نقديًّا، فلم يكن يرغب في اعتناق اتجاهها الوضعي ومطالبتها باشتراكية فعالة استنادًا إلي تحليله المادي.
في خاتمة الكتاب يضع المؤلف تقييمًا لما بعد الماركسية، ويشير إلي موقفهم من الديموقراطية واستهانتهم بمدي ما تخضع له الإجراءات والنتائج الديموقراطية من عوامل تتحكم في تشكيلها، ومدي التلاعب والتشويه الذي تحدثه أفعال مَن يستطيعون استغلال أجهزة الإعلام الجماهيرية والانتفاع بآليات التمثيل النيابي والأحزاب السياسية. وفي ظل الأحلام التي لم تتحقق وحالة التفاوت الطبقي والعجز والقهر، فيدعو المؤلفان إلي ضرورة أن نشغل أذهاننا بما يتجاوز هذا العالم أو ما يوجد خارجه - علي الرغم من دعوات المبشرين بنهاية التاريخ ولسوف نحتاج إلي نظرية أو ممارسة للتفكير النقدي الذي يقدم بدائل ورؤي واقتراحات لتحسين الأحوال. ولسوف نحتاج علي الأرجح إلي كل من الماركسية ومذهب الشك الذي يقف خارجها، أي ما بعد الماركسية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.