حملة لتوفير أجهزة كمبيوتر.. دعوات لتأهيل المدارس لتعليم التكنولوجيا | تفاصيل    تراجعت على العربات وبالمحال الصغيرة.. مساعٍ حكومية لخفض أسعار سندوتشات الفول والطعمية    وفقا لوزارة التخطيط.. «صيدلة كفر الشيخ» تحصد المركز الأول في التميز الإداري    الجيش الأوكراني: 96 اشتباكا قتاليا ضد القوات الروسية في يوم واحد    طائرات جيش الاحتلال تشن غارات جوية على بلدة الخيام في لبنان    3 ملايين دولار سددها الزمالك غرامات بقضايا.. عضو مجلس الإدارة يوضح|فيديو    كرة سلة - ال11 على التوالي.. الجندي يخطف ل الأهلي التأهل لنهائي الكأس أمام الجزيرة    المقاولون العرب يضمن بقاءه في الدوري الممتاز لكرة القدم النسائية بعد فوزه على سموحة بثلاثية    تصريح مثير للجدل من نجم آرسنال عن ليفربول    السجن 15 سنة لسائق ضبط بحوزته 120 طربة حشيش في الإسكندرية    إصابة أب ونجله سقطا داخل بالوعة صرف صحي بالعياط    خناقة شوارع بين طلاب وبلطجية داخل مدرسة بالهرم في الجيزة |شاهد    برومو حلقة ياسمين عبدالعزيز مع "صاحبة السعادة" تريند رقم واحد على يوتيوب    رئيس وزراء بيلاروسيا يزور متحف الحضارة وأهرامات الجيزة    بفستان سواريه.. زوجة ماجد المصري تستعرض جمالها بإطلالة أنيقة عبر إنستجرام|شاهد    ما حكم الكسب من بيع التدخين؟.. أزهري يجيب    الصحة: فائدة اللقاح ضد كورونا أعلى بكثير من مخاطره |فيديو    نصائح للاستمتاع بتناول الفسيخ والملوحة في شم النسيم    بديل اليمون في الصيف.. طريقة عمل عصير برتقال بالنعناع    سبب غياب طارق مصطفى عن مران البنك الأهلي قبل مواجهة الزمالك    شيحة: مصر قادرة على دفع الأطراف في غزة واسرائيل للوصول إلى هدنة    صحة الشيوخ توصي بتلبية احتياجات المستشفيات الجامعية من المستهلكات والمستلزمات الطبية    رئيس جهاز الشروق يقود حملة مكبرة ويحرر 12 محضر إشغالات    أمين عام الجامعة العربية ينوه بالتكامل الاقتصادي والتاريخي بين المنطقة العربية ودول آسيا الوسطى وأذربيجان    سفيرة مصر بكمبوديا تقدم أوراق اعتمادها للملك نوردوم سيهانوم    مسقط تستضيف الدورة 15 من مهرجان المسرح العربي    فيلم المتنافسون يزيح حرب أهلية من صدارة إيرادات السينما العالمية    إسرائيل تهدد ب«احتلال مناطق واسعة» في جنوب لبنان    «تحيا مصر» يوضح تفاصيل إطلاق القافلة الخامسة لدعم الأشقاء الفلسطينيين في غزة    وزير الرياضة يتابع مستجدات سير الأعمال الجارية لإنشاء استاد بورسعيد الجديد    الاتحاد الأوروبي يحيي الذكرى ال20 للتوسع شرقا مع استمرار حرب أوكرانيا    مقتل 6 أشخاص في هجوم على مسجد غربي أفغانستان    بالفيديو.. خالد الجندي: القرآن الكريم لا تنتهي عجائبه ولا أنواره الساطعات على القلب    دعاء ياسين: أحمد السقا ممثل محترف وطموحاتي في التمثيل لا حدود لها    "بتكلفة بسيطة".. أماكن رائعة للاحتفال بشم النسيم 2024 مع العائلة    القوات المسلحة تحتفل بتخريج الدفعة 165 من كلية الضباط الاحتياط    جامعة طنطا تُناقش أعداد الطلاب المقبولين بالكليات النظرية    الآن داخل المملكة العربية السعودية.. سيارة شانجان (الأسعار والأنواع والمميزات)    وفد سياحي ألماني يزور منطقة آثار بني حسن بالمنيا    هيئة الرقابة النووية والإشعاعية تجتاز المراجعة السنوية الخارجية لشهادة الايزو 9001    مصرع طفل وإصابة آخر سقطا من أعلى شجرة التوت بالسنطة    رئيس غرفة مقدمي الرعاية الصحية: القطاع الخاص لعب دورا فعالا في أزمة كورونا    وزير الأوقاف : 17 سيدة على رأس العمل ما بين وكيل وزارة ومدير عام بالوزارة منهن 4 حاصلات على الدكتوراة    «التنمية المحلية»: فتح باب التصالح في مخالفات البناء الثلاثاء المقبل    19 منظمة حقوقية تطالب بالإفراج عن الحقوقية هدى عبد المنعم    رموه من سطح بناية..الجيش الإسرائيلي يقتل شابا فلسطينيا في الخليل    تقرير حقوقي يرصد الانتهاكات بحق العمال منذ بداية 2023 وحتى فبراير 2024    مجهولون يلقون حقيبة فئران داخل اعتصام دعم غزة بجامعة كاليفورنيا (فيديو)    حملات مكثفة بأحياء الإسكندرية لضبط السلع الفاسدة وإزالة الإشغالات    «الداخلية»: تحرير 495 مخالفة لعدم ارتداء الخوذة وسحب 1433 رخصة خلال 24 ساعة    "بحبها مش عايزة ترجعلي".. رجل يطعن زوجته أمام طفلتهما    استشاري طب وقائي: الصحة العالمية تشيد بإنجازات مصر في اللقاحات    إلغاء رحلات البالون الطائر بالأقصر لسوء الأحوال الجوية    عبدالجليل: سامسون لا يصلح للزمالك.. ووسام أبوعلي أثبت جدارته مع الأهلي    دعاء آخر أسبوع من شوال.. 9 أدعية تجعل لك من كل هم فرجا    مفتي الجمهورية مُهنِّئًا العمال بعيدهم: بجهودكم وسواعدكم نَبنِي بلادنا ونحقق التنمية والتقدم    نجم الزمالك السابق: جوميز مدرب سيء.. وتبديلاته خاطئة    برج القوس.. حظك اليوم الثلاثاء 30 أبريل: يوم رائع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المفكرون الأساسيون من النظرية النقدية إلي ما بعد الماركسية:
معاول علي جدار الماركسية!

احتلت النظرية النقدية مكانة كبيرة، كما تقاسمت أطروحاتها النظرية علوم كثيرة، فلم تقتصر علي النقد وفقط، بل اشتملت العلوم الاجتماعية والفلسفية والسياسية أيضًا. وعلي الجانب الآخر شغلت الأطروحات الماركسية اهتمامات أجيال كثيرة من الأدباء والنقاد والمفكرين الذين تبنوا وروّجوا للأفكار الاشتراكية إبّان حركات التحرّر والمدّ الاشتراكي. ومع أهمية هذه الأفكار إلّا أن أحداث مايو 1968 كانت بمثابة مراجعة وإعادة تقييم والتفكير من جديد في الماركسية في ظلّ المعطيات الجديدة. فنشأ جيل جديد من المفكّرين وقفوا ضدّ هذه الأفكار، بل قاموا بمقاطعة هذه الأفكار وروّجوا لما يمكن أنْ يُطلق عليه ما بعد الماركسية، وهناك مَن سَعي لتبديل وتعديل الماركسيّة من الداخل كما أراد جيل ديلوز وجواتاري.
ما بعد الماركسية
ومن هنا تأتي أهمية هذا الكتاب الجديد »‬المفكّرون الأساسيون: من النظرية النقدية إلي بعد الماركسية» تأليف سايمون تورمي وجولز تاونزند، والصّادر حديثا بترجمة عربيّة تصدّي لها الدكتور محمد عناني، عن المركز القومي للترجمة في مصر بالاشتراك مع مركز المحروسة 2017، والكتاب في أصله معني بتقديم وتقييم لعدد من الشخصيات التي كان لها أكبر تأثير في إطار النظرية النقدية المعاصرة. ويرجع تميُّز الكتاب ومفارقته لبعض الكتب الأخري كما ذكر المؤلفان لأن اختيار هذه الشخصيات تمّ وفق مرجعية مصطلح أساسيّ في المناظرات الدائرة حول تراث الفكر النقدي، وهو يقصد مصطلح "ما بعد الماركسية" الذي يمثّل صعوبة من نوع ما. يتوقف المترجم في تصدير يشغل حيزًا كبيرًا من الكِتاب، عند أهمية الكتاب الذي يحوي أفكارًا عميقةً تتجه إلي أهل الاختصاص من الأكاديميين، فالكتاب كما يراه من أغزر الكتب الفكرية مادة وأعمقها بحثًا وتحليلاً، وإن كانت هذه الصفة يراها ميزة وعيبًا في ذات الوقت، فالميزة كما يقول: "حيث أنه يتيح للدارسين أن يستزيدوا من بعض مادته بالرجوع إلي المصادر، أي الكتب الأصليّة التي وضعها الأعلام الذي يعرض الكتاب أفكارهم. وأما العيب فإنه يفترض عند قارئه إلمامًا ولو عامًا أو مبدئيًا بإطار المادة المذكورة أو مصطلحاتها الشائعة. ويري من الصعوبة فَهم ما تضمّنه الكتاب إلا بوضع معجم للمصطلحات الواردة في الكتاب وهو الجهد الذي اضطلع به المترجم، حيث قدَّم تعريفات موجزة لكافة المصطلحات التي ترددت داخل فصول الكتاب المختلفة. ويعتمد في شروحاته علي التبسيط، وهي أقرب إلي التعريفات المدرسية.
جاء الكتاب في تسعة فصول، في كلّ فصل من هذه الفصول يحوي مُقدِّمة وتقييمًا للمفكرين الذين ارتبطوا بأحداث 1968، وبانتفاضة باريس مثل: كاستورياديس وجان فرانسوا ليوتار، والشريكين في الكتابة ديلوز وجواتاري. وأيضًا ليوتار وولاكلاو وموف، وميشيل باريت ودونا هاراواي وغيرهم. ويناقش الكتاب نظريات هؤلاء فيما يتعلق بمسائل عدة، منها نظرية التاريخ عند ماركس، ووصفه للعامل الثوري، وللأخلاق، والماركسية والوضعية، والطليعية والمثقفين، ومشكلة الديموقراطية، وعلاقة المذهب النسوي بالماركسية، والتوفيق بين الحداثة والاستقلال والتضامن، وكذلك تفكيك الماركسية وأنواعها، وصولاً إلي التساؤل الحيوي عن: ما بعد الماركسية إلي أين؟!
الكتاب ينشغل بهؤلاء الكتّاب الذين أكَّدوا يومًا ما علي وجود أزمة في الماركسية، وأن الماركسية المعهودة قد انهارت، وهو ما أدي بدوره إلي إعادة التفكير في عمل ماركس وتركته من أجل تشكيل البحث النقدي، وباعتبار ذلك ردّا سياسيًا علي الرأسمالية المتقدمة. ومن هنا فما بعد الماركسية تتضمن عنصرًا أساسيًا ألا وهو فكرة البقاء في فلك الإشكالية الماركسية، حتي في إطار التنصل من الماركسية، باعتبارها أساسًا لتجديد البحث النقدي. كما يهتم الكتاب بأولئك الذين حافظوا علي اقترابهم من فكر ماركس أثناء دورانهم في أفلاكه. وأهم رابط بين هؤلاء الكتاب مع تنوِّعهم هو إيمانهم باستحالة العودة ببساطة إلي ماركس، كما أن ثمة فرضية حاضرة في أطروحاتهم تتمثل في وجود إشكالية في فكر ماركس وأيضًا في مزاعم الماركسية بأنها النظرية المثلي للتحرّر البشري. كما أن هؤلاء غير معنيين بالبحث عن ردود ماركسية، بل كان تركيزهم علي قضايا المعني والذاتية والعالم الرمزي والعلاقة الإشكالية بين اللغة وتمثيل الذاتية.
ضدّ ماركس
لا تعني ما بعد الماركسية التخلِّي الكلي عن تراث ماركس، فهي ترتبط أولاً بعمل إرنستو لاكلاو وشانتال موف "الهيمنة والاستراتيجية الاشتراكية" المنشور عام 1985، فيقرّ الكثير من العاملين في مجال النظرية السياسية والنقدية، أنه النص الأساسي لما بعد الماركسية. ومع أن العنوان طموح يشير إلي التخلِّي عن ماركس إلا أنّه في الوقت ذاته يعترف بأهمية ماركس للعمل علي تشكيل خطاب يساري راديكالي بعد اختفائه من المسرح. وهناك مَن يعتبر "ما بعد" حركة فكرية مكتملة النمو، ولها جذورها التي ترجع إلي ظهور الماركسية الغربية بعد تشعُّب الماركسية إلي شعبتيْن في فترة الثورة الروسية وانهيار الدولة الثانية. وهناك من يزعم بأن ما بعد الماركسية ضمّت عددًا كبيرًا وربما غالبية الذين كانوا يوصفون بأنهم ماركسيون، وإنْ كانوا من النوع المارق أو الغربي أمثال جورج لوكاتش وأنطونيو جرامشي. فلوكاتش ذاته لم يكن يذهب إلي إحلال مذهب فكري بديلاً عنها، بقدر ما كان يَسعي إلي نهضتها وتطويرها.
والحقيقة أن ما بعد الماركسية كانت استجابة للأزمات التي وقعت بعد عام 1968، والتي كانت جميعًا تشاركُ في تجاوز الماركسية والشيوعية السوفيتية. حيث شهد هذا العام "ربيع براغ" الذي كان بداية النهاية للماركسية الشرقية والغربية، كما شهد أيضًا "أحداث باريس" التي وقعت رغم أنف الحزب الشيوعي الفرنسي، علاوة علي ما تعرضت له الماركسية المنظمة من ضربات لم يكتب لها أن تشفي من أهوالها في أوروبا؛ إذ تفتتت إلي شتي فصائل الشيوعية الأوروبية والماوية والتروستكية والستالينية، والأخيرة كانت تتوقع إعادة تأسيسها. وقد أظهر عام 1968 أن السياسة التقدمية كانت في مكانٍ آخر يختلف عن الأحزاب الماركسية أو تحت القيادة الماركسية. فقد كانت في الشوارع وتحت أحجار الطريق المُعَبد، وفي الحركات الاجتماعية الجديدة للمذهب النسوي ومذهب الحفاظ علي البيئة. أي أنّها بدت في كلّ مكان باستثناء جدران الحزب ومن هنا كانت هذه الأحداث بوضوح وجلاء خلفية لمشروع "لاكلاو وموف"، وأيضًا مهادًا لمداخل منوَّعة، وشتي التجديدات النظرية والاستراتيجيات، والغريب أن جميعها كانت تشارك الرغبة في الرغبة المشتركة لتجاوز الماركسية والشيوعية السوفيتية. ومن الإشكاليات التي واجهت المؤلفين ما هو خاص بالعنوان "ما بعد الماركسية" ويتخذ مِن موقف الذين عارضوا الماركسية وأكدوا علي وجود أزمة في الماركسية وأن الماركسية المعهودة قد انهارت، ذريعة لتجاوزها، وهو ما أدي بالضرورة إلي إعادة التفكير في عمل ماركس وتركته من أجل إعادة تشكيل البحث النقدي، ومن هنا اعتبر أن ما بعد الماركسية مهما يكن التعريف النهائي لها، إلا أنها تتضمن عنصرًا أساسيًّا ألا وهو فكرة البقاء في فلك الإشكالية الماركسية، حتي في إطار التنصل من الماركسية، باعتبارها أساسًا لتجديد البحث النقدي.
وأهم ما يُميِّز فكر ما بعد الماركسية هو ابتعادها عرضًا أو عمدًا عن فكرة النضال الفعلي للأحزاب والحركات والمجموعات الاجتماعيّة، ومن ثمّ يرفض المؤلف وصفها بأنها حركة سواء كانت فكرية أو ثورية. وبالمثل يرفض وصفها بأنها مذهب إيديولوجي، حيث الروابط القائمة بين الأعلام المدروسين هنا أبعد أن تكون ملموسة علي النحو المذكور.
في الفصل الأول يقف عند كاستورياديس ويقول عنه إنه ارتبط بجماعة الاشتراكية أو الهمجية التي وضعت تحليلاً جديدًا للرأسمالية والشيوعية السوفيتية وفق منهج ما بعد تروتسكي. وقد وضع دراسة انتقد فيها الماركسية نقدًا ضاريًا من كل أبعادها، لكنه ظل يتشبث بموقفه السياسي الراديكالي المتشدّد. وفي نفس الوقت كان لا يري أن الماركسية راديكالية إلي الحدّ الكافي، ما دامت مرتبطة بالصّورة السلطوية التي تجاوزها الزمن. فالماركسية عنده مازالت أبوية وبيروقراطية في استجابتها للعمل الثوري العضوي، ومن ثمّ فلا بدّ من محاربتها للحفاظ علي حياة الآمال والطاقات الراديكالية. كما تُمثل ما بعد الماركسية لديه تحديًا متينًا للماركسية ذاتها. وكان يهدف من وراء هذا إلي وضع نظرية راديكالية لاستكمال الفكر السياسي والمجتمعي ودحر البيروقراطية والمركزية. وإن كان ثمة صعوبة كامنة في التوفيق بين الإدارة الذاتية ومجالس العمال كما يقول محررا الكتاب في تقييمهما لأفكاره. أما جيل ديلوز وفليكيس جواتاري فقد وضعا كتاب "الرأسمالية والشيزوفرينيا" في مجلدين وهو أهم مداخلة نظرية خرجت من 1968. كان غرضهما الحقيقي هو التحقق في أحداث مايو 1968، وهو ما أدّي إلي دحض مزاعم الماركسية التقليدية والبنيوية بشأن العمل الاجتماعي، وهو ما يشي بوضع مذهب مادي جديد يستند إلي تحليل الرغبة كما في كتاب "ضد أوديب" وإعادة تركيب الجماعي كما في كتاب" ألف هضبة" وبصفة عامة كانا يهدفان إلي وضع تعليل فائق (أي أصح) للواقع الاجتماعي والتطور التاريخي، وبالتالي مذهب سياسي جديد يقوم علي الصورة المجازية للثوّري الشيزوفريني والرّحالة. الغريب أنهما كانا يُصران علي امتداد حياتهما أنهما ماركسيان، بغض النظر علي أنها ليست الماركسية التي يعترف الكثيرون بها أو حتي يتعاطفوا معها. وإلي جانب دعوتهما إلي إعادة التفكير في المادية، فإنهما في ذات الوقت يقدمان معارضة صريحة للاكان وفرويد كما جاء في كتابهما ضدّ أوديب بما يحمل عنوانه من معارضة للأفكار التي تبناها لاكان وفرويد في التحليل النفسي، ففرويد حلّ مشكلة البحث عن معني الحياة الإنسانية، بأن قصرها علي ذلك الصراع الأزلي مع الأب للظفر بقلب الأم. كما نبذا النظرية الماركسية للإيديولوجيا باعتبارها "وعيًا زائفًا"، ومن ثم القمع باعتباره من صنع المصالح الطبقية التي تخْفي بشكل ما عن العين. فتصبح مسألة "الوعي الطبقي" غير ذات موضوع في تعريفهما للرأسمالية، فمن وجهة نظر القيمة لا توجد إلا طبقة واحدة هي البرجوازية، وهذا المعني ترديد لأصداء ماركوزي في كتابه "الإنسان ذو البعد الواحد". فالوعي الطبقي بمثابة ستارً يحجب وضع استراتيجية يتمكّن بفضلها ممثلو المقهورين من إحلال أنفسهم ومصالحهم محل المقهورين الذين يقال إنهم لا يستطيعون اكتساب أي شيء سوي الوعي النقابي.
سعي ليوتار المولود في فرنسا عام 1924، الذي انحاز لحركة 22 مارس بعد أن انفصل عن جماعة الاشتراكية أو الهمجية بعد خلافات خطيرة، في البحث في الطاقة الكامنة "المسكوت عنه" أو الذي لا يمكن تمثيله باعتبارها أساسًا لمذهب سياسي راديكالي. كما كان يهتم اهتمامًا دائمًا بالطاقة الراديكالية الكامنة في الحركة الفنية الطليعية بصفتها الشرارة اللازمة لمقاومة إملاءات الرأسمالية. وبعد فشل انتفاضة مايو اتجه إلي انتقاد الماركسية، باعتبارها "ميتاقصة" شمولية، بمعني رسم صورة ما بعد حداثية للمعرفة تؤكّد أن جميع مزاعم الحقيقة تنتمي إلي مواقف معينة، ومن ثمّ فهي قصص. ثمّ بعد ذلك طوّر بحثه وجعله تحليلاً لاستنزاف الحداثة بصفة عامة والعلم بصفة خاصة، ثمّ تحول إلي البرجماتية. ظلّ محتفظًا بانتقاده للرأسمالية وميولها السالبة لإنسانية الإنسانية حيث تحويل الفكر الخلّاق والممارسة الخلّاقة إلي أدوات تستعين بها باسم "كسب الوقت". الشيء المدهش في مسيرة ليوتار أن كتاباته الأولي باستثناء كتاباته الصحفية التي جمعت بعنوان "الكتابات السياسية" لا تكاد تكون سياسية، وهذا إذا طبقنا وفقًا للمؤلفين مفهوم السياسة الضيّق الذي تبناه فالتر بنيامين، وجورج لوكاتش، وثيودور أدورنو" لكن مع توسيع مفهوم السياسة حيث يتضمن احتمال استعمال العناصر الجمالية أو المجازية كشكل من أشكال المقاومة، فسوف يتضح لنا أن جماع عمله ذو طابع سياسي.
نحو ديموقراطية راديكالية خيالية
في الفصل الخاص بلاكلاو وموف وهما من وجهة نظر مؤلفي الكتاب، رائدًا ما بعد الماركسية، يتوقف عند الكتاب المؤسِّس "الهيمنة والاستراتيجية الاشتراكية". ويري أنه في هذا الكتاب كانت تدفعهما رغبة حقيقية لتطهير الماركسية من جميع آثار المنطق الستاليني، ففي قلب النظرية الماركسية شيء يقاوم الانفتاح والتسامح اللذين لابد منهما لنجاح الديموقراطية، ولا بد أيضًا من نبذ المعتقدات الجوهرية للمادية التاريخية، وإحلال نظرية ما بعد البنيوية محلها، وهو ما كان مثار خلاف كبير. الهدف الأسمي لهما هو تحقيق مشروع اشتراكي من خلال الإطاحة ب "رأسمالية الاحتكار" بحيث تؤدِّي الطبقة العاملة فيها دورًا حاسمًا، وإن يكن بالتحالف مع قوي اجتماعية غير بروليتارية. وهما يؤكدان أن الماركسية ليست مذهبًا كاملاً.
بداية الصدام بين الماركسية والحركة النسوية قد تجلي في الموجة الثانية من الحركة النسوية التي طعنت في فهم الماركسية التقليدية لذاتها. وفي المقابل رأي بعض الماركسيين أن المذهب النسوي كان ظاهرة من ظواهر الطبقة الوسطي، وأن مسألة المرأة سوف تحسم بعد الثورة الشيوعية، وهو ما لم يكن بالتنبؤ الصحيح، لأنه سرعان ما اتضح أنها ثورة اجتماعية من نوع ما، من دون كسر للنظام الرأسمالي، وأن جبهة نسوية جديدة تتشكّل حتي في داخل الطبقة العاملة. وإن كان في الحقيقة تأثير الماركسية بدأ مع الثمانينيات ينخفض علي الفكر النسوي، نتيجة لقصورها في فهم القهر الذي تتعرض له المرأة. كما كان لقصور استجابة الماركسية التقليدية لنشأة المذهب النسوي لظهور ما بعد الماركسية بصورتها القوية والضعيفة. الغريب أن "ميشيل باربت" كانت تري الرأسمالية عقبة كؤودا تعوق تحرير المرأة، في حين رأت "دونا هاراواي" ضرورة الاهتمام بتأثير التكنولوجيا الحيوية وتكنولوجيا المعلومات في وعي المرأة وما يترتب علي هذا من شيوع روايات الخيال العلمي. ويري المؤلفان أن العلاقة بين الماركسية والنسوية تتسم أحيانًا بأنها مثل الزواج ولو لم يكن من (النوع السعيد) علي حد وصفه، والسبب لأن كلا منهما يمثل بحوثًا نقدية راديكالية للرأسمالية الليبرالية، كما استطاع كل منهما حشد حركات اجتماعية تؤيد رؤي مختلفة لإعادة خلق العالم باسم التحرر الإنساني. أما تقويض مزاعم الماركسية بالتفوق النظري فقد جاء علي يد البنيويين الفرنسيين، وخصوصًا فوكو ودريدا وليوتار ولاكان، وأتباعهم من دعاة المذهب النسوي الفرنسي الذين ابتدعوا ما يسمي بالتوجه اللغوي أو الثقافي في مباحث العلوم الإنسانية الغربية. لكن في الأخير يبقي أن المذهب النسوي المتسم بما بعد ماركسية ضعيفة. وهناك من المفكرين من دعوا إلي التوفيق بين الحداثة والاستقلال والتضامن من خلال الديموقراطية كما فعل يورجين هابرماس الذي كانت علاقته بماركس تشبه علاقة التلميذ الصبور الذي يُخْرِجُ المفاهيم والمواقف من أطرها فيعيد تشكيلها بالأساليب التي كان يطمح إلي تحسينها للأصل، وقد كان يرمي كما يطلق علي نفسه آخر الماركسيين إلي معالجة شتي نقائص الماركسية، إلا أنه انتهي في آخر أعماله وقد تخلي عن ماركس، واتخذ موقفًا "بعد ماركسي" وقد تجلّي هذا في دفاعه عن الاتجاه التأسيسي أي وضع شكل سياسي يحترم إنشاء مجال عام، وهو الأمر الذي كان لا يوليه ماركس اهتمامًا، فلم يول طبيعة المجال العام ما يحتاجه من الفكر، بل جعل له مرتبة أدني حين خصّ المجتمع المدني به.
من الشخصيات التي يضيفها المؤلفان لهؤلاء المفكّرين شخصية جاك دريدا، مع اعترافهما أنه غير ماركسي، لكن سبب إدراجه يعود إلي تأثيره المهول علي ما بعد الماركسية، خصوصًا في لاكلاو والفكر النسوي ما بعد الماركسي. وإن كان السبب الأهم هو قيام دريدا بتصفية حسابه مع ماركس والماركسيين. حيث يضع دريدا تفكيكه لماركس والماركسية في إطار أوسع، وهو إطار معني أن "يتعلم المرء أن يعيش آخر الأمر". كما يثبت دريدا في عدد من نصوص ماركس مدي انشغاله بطرد الأشباح، بدءًا بالرسالة التي قدمها للحصول علي الدكتوراه. ومناقشته للمال أو للإيديولوجيا. ومع أن إيجلتون ذكر أن دريدا كان علي استعداد لاستخدام الماركسية بحثًا نقديًّا، فلم يكن يرغب في اعتناق اتجاهها الوضعي ومطالبتها باشتراكية فعالة استنادًا إلي تحليله المادي.
في خاتمة الكتاب يضع المؤلف تقييمًا لما بعد الماركسية، ويشير إلي موقفهم من الديموقراطية واستهانتهم بمدي ما تخضع له الإجراءات والنتائج الديموقراطية من عوامل تتحكم في تشكيلها، ومدي التلاعب والتشويه الذي تحدثه أفعال مَن يستطيعون استغلال أجهزة الإعلام الجماهيرية والانتفاع بآليات التمثيل النيابي والأحزاب السياسية. وفي ظل الأحلام التي لم تتحقق وحالة التفاوت الطبقي والعجز والقهر، فيدعو المؤلفان إلي ضرورة أن نشغل أذهاننا بما يتجاوز هذا العالم أو ما يوجد خارجه - علي الرغم من دعوات المبشرين بنهاية التاريخ ولسوف نحتاج إلي نظرية أو ممارسة للتفكير النقدي الذي يقدم بدائل ورؤي واقتراحات لتحسين الأحوال. ولسوف نحتاج علي الأرجح إلي كل من الماركسية ومذهب الشك الذي يقف خارجها، أي ما بعد الماركسية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.