ثمة من يطمئن، في الشِّعر، للمُكْتَسَبِ، ويحرص علي الكتابة وفق نفس النمط؛ نفس الشكل، نفس الأفكار، ونفس اللغة والصور. كل نص، هو استعادة لسابقه، رغم ما قد يبدو من تفاوُتٍ في العبارات، وفي بعض التعديلات الطفيفة في الأسلوب، التي لا يمكن للقارئ المتأمِّل والمواكب لتجربة هذا الشاعر، أو ذاك، أن يُخْطِئَها. في هذا النوع من الكتابة، يكون " الانقطاع "، أهم ما يحكم بنيتها الشِّعرية، ما يفضح، بالتالي نَفَسَها السلفي الاستّعادي، الذي يَفْتَقِدُ للصيرورة، والجُرْأة في التجديد والإضافة. كنتُ كُلَّما قرأتُ عملاً للصديق الشاعر حلمي سالم، أدْرَكْتُ، أن هذا الشاعر، هو واحد من الشُّعراء الذين لا يستقر النص في يَدِهِم. أعني أنَّ كل عمل من أعماله التي قرأتُها، هو انتقالٌ، أو خطوة أخري في تجربته. فحلمي سالم، يكتب خارج الشكل والمعني الثَّابِتَيْن. لا يعني هذا أن حلمي يكتب عن غير وعي بما يفعله، فهو بين الشُّعراء الذين زاوجُوا بين الممارسة والنظر، فالشِّعر عنده لا يأتي هكذا، بمحض إشارة غامضة، تتحكم في مسار النص، وفي انكتابه. هذه الإشارة، أو هذا النداء، في ما يكتبه حلمي، هو إشارة انطلاق، فقط، وما تبقَّي يُنْجِزُه الشاعر. لم يعد الشِّعر اليوم، استلهاماً، أو كتابةً غيبيةً، مجهولة المصادر، فأغلب شُعَراء الحداثة، يعملون وفق رؤية سابقة لِما يكتبونه، ووفق تفكير ونظر، وفي هذا بالذات تبدو كتاباتهم إشكاليةً، أو تعمل، باستمرار، علي تَجْسِير الهُوَّة بينها وبين القارئ الذي لم يتخلص، بعدُ، من المُكْتَسَبِ، أو من الثقافة الشِّعرية السلفية، التي ما تزال المدرسة، تحرص علي ترسيخها في نفوس التلاميذ والطلبة. حلمي سالم يكتبُ خارج المُكْتَسبات، أو هو، بالأحري، يرفض، عن وعي، وسبق إصرار، أن يبقي أسير " الذوق العام "، أو يستجيب، لرأيٍ شِعريٍّ، ما يزال يَعْتَبِر الكتابةَ بنفس النَّفَس القديم، هي إحدي اختيارات " الرأي الثقافي العام ". ما يُثير، في ما تجربة حلمي سالم، هو اللغة التي يكتب بها، فهي لغة تمتح من فائض اللغة، بما يعنيه من كلام عام سائد ومعروف، أي باستعمال الكلام الدَّارِج، لكن ليس بمعني ما هو مُبْتذَل، أو " مطروح في الطريق " بتعبير الجاحظ. فحلمي يعرف، بخبرته الشِّعرية والنظرية، كيف يراوغ المُشْتَرَك والعام، ويعطيه صفة الخاص، الذي لا يمكنه أن يخرج عن سياق النص، وعن بنية الصورة التي يعمل الشاعر من خلالها علي توليف العام، وتكييفه، بنوع من التعبير الشِّعريّ الخاص. ولعله في ديوانه " الشاعر والشيخ "، كان أكثر ذهاباً إلي هذا المنحي، وأكثر تعبيراً عنه. ليس الشعر هو ما نتفق عليه، وفق معيار ما، إنَّ الشِّعر، كان، قبل أن تصبح " القصيدة " هي النمط المعياري السائد، أو هي ما نختزل فيه مفهومنا للشِّعر، كما كَرَّسَتْه لحظة التدوين، التي حَجَبَت الاستثناء، في مقابل القاعدة، هو ما يقترحه الشاعر علي القارئ من اختيارات، وما يؤسِّس له من آفاق كِتابِيَة جديدة ومغايرة. فحين خرج الشِّعر العربي، بدءاً من " ثورة " الرومانسيين العرب، في المشرق كما في المهجر، عن القاعدة، أو عن بعض " قواعد الشِّعر "، لم يقبل الذوق العام، هذا الخروج واعتبر هذا الشِّعر الجديد، أو هذه الأشكال الجديدة، واللغة التي جاءت بها، هي من قبيل ما كان قيل في شعر عبيد بن الأبرص، الذي لم يستقم وزن قصيدته المعروفة، في يد العروضيين، فأخرجوها من الشِّعر، ليبحثوا لها عن مكان آخر خارج الشِّعر. ومن قبيل ما قيل عن شعر أبي تمام، الذي أصبح " ضرباً من المُحال " الذي لا علاقة له بالعربية. الشِّعر المعاصر، بكل أشكاله، وتنوُّعاته، كان في صميم هذا " الذوق "، الذي لم يكن يقبل تغييرَ نفسِه، وكان يري أنَّه معيار الحُكم الوحيد، الذي لا يمكن التشكيك في شعريته وتاريخيته. ما يكتبه حلمي سالم، وغيره من شُعراء الحداثة الشِّعرية، ممن أُسَمِّيهم بشعراء " حداثة الكتابة "، هو تجربة شعرية تفضح السَّائد، وتُجافيه، أي أنَّها، ترفض تكريس كتابة تستعيد ماضيها، أو بعض تخييلاته، في الشكل كما في المضمون، أو المعني. فصور حلمي سالم الشِّعرية، وتعبيراتُه، والطريقة التي يُعيد بها بناء الجملة، أو تركيبها، بقدر ما تَشُدُّ القارئ إليها، وتخدعه بعموميتها وبساطتها، بقدر ما تُبْعِدُه عنها، من خلال سياقاتها التي هي غير ما يتوقَّعُه القارئ، أو ما كان ينتظره، مثلما يحدث في الشِّعر التقليدي. هذا ما حدث لمن حاكموا حلمي سالم عن " شرفة ليلي مراد "، وهم لم ينتبهوا لما في ديوان " الشاعر والشيخ "، من " بلاوي متلتلة " ! بالتعبير المصري. فهؤلاء انجرفوا نحو السطح، ونحو معاني الجاحظ، بما هي عامة، يعرفها الجميع، ولم يستطيعوا اسْتِكْناه العُمق، أو المدي الذي تُتِيحُه هذه " الشُّرفة "، في رؤية الأشياء البعيدة، وذلك، ببساطة، لأن بَصَرَهُم ليس حَديداً، وفق العبارة القرآنية. ثمة، دائماً، في النص الشِّعري، ما لا نستطيع الوصول إليه، إذا نحن اسْتَهَنَّا بالنص، واكتفينا، في قراءته، بالظاهر، أو بما يكون فيه سطحا ًو قِشْرَةً. فالشِّعر، حين يستثمر اللغة العامة، وحين يأخذ الحَدَث اليوميّ، ويرويه، فهو لا يرويه كما يحدث في اللسان العام، فرواية الشاعر، تكون روايةً من نوع خاص، لأنها رواية تعيد تأليف ما جري، وتَزْوَرُّ به عن المُشْتَركَات، وعما قد يبدو بهذا المعني. كتابات حلمي، هي انتقال دائم من سياق إلي آخر، تشويش علي تجربته ذاتها. فهو يميل إلي المحو، وإلي طمس السابق، أو إخفائه، لأنّ اللاحق، في ما يكتبه، يبقي هو الأهم، أو بعبارة هولدرلين المعروفة؛ ما تبَقَّي يُؤَسِّسُه الشُّعراء. إذا لم نقرأ تجربة حلمي خارج المُكْتَسَبات، وخارج النموذج، أو المثال، فهذا سيُفْضِي بنا إلي الحكم علي تجربته، بالفشل، وبالسطحية والابتذال. في تجربة حلمي، يبدو النمط لاغياً، كما يبدو الاستقرار، والبناء، بمعني الثبات، غير ذي جدوي. فهو يكتب علي أرض متحركة، لأنه في نفس الوقت، يعرف كيف يسير فيها، وكيف يُراوِدُ انحرافاتها، التي هي بين أهم ما يُتيح للشاعر أن يكتب بشعريةٍ، هي إضافة لتجربة الحداثة في الشعر العربي المعاصر.