العدد الجديد من مجلة "فكر وفن"، الصادر عن معهد جوتة، يحتفي بقضايا الجندر، أو ما يسمي بالعربية "النوع الاجتماعي". عنوان العدد "قضايا الجندر: تحولات في أدوار المرأة والرجل". ولكن هذا الموضوع بالتحديد، بسبب كونه موضوعاً ساخناً من الناحية الإعلامية، ولكونه يخضع في الغالب لاستقطابين، أحدهما هو استقطاب "رجل/ امرأة"، والثاني هو استقطاب "علماني/ إسلامي"، فكثيراً ما تكتنف الموضوع عدد من الإشكاليات التحليلية. افتتاحية العدد تبدأ بالقول إن الصراع علي دور الجنس ليس بالضرورة صراعا بين الجنسين "الرجل والمرأة" "لكن ما نستطيع قوله أكثر هو أن هذا الصراع يكثّف أكثر حول المرأة، دورها، أكثر من تركيزه حول الرجل، أي أنه صراع علي الرموز، ولعل أقوي رمز يعبر عن الصراع حالياً يتجلي في ثياب المرأة: وتحديداً غطاء الرأس أو الحجاب". من هذا المنطلق، يتبني العدد الجدل حول الجندر، ولكنه يركزه في المرأة، وليس في الرجل. تفتتح العدد الشاعرة جمانة حداد في مقال تحت عنوان "هكذا قتلت شهرزاد.. اعترافات امرأة عربية غاضبة"، ثم مقال لميا قدور "الجنس أم الدين؟ لماذا لا أرتدي الحجاب رغم أني مسلمة؟"، ثم مقال الروائية سحر خليفة "من منا يحجبه البرقع؟ أوروبا مشغولة بالنقاب"، ويليه "أزياء حديثة لكن إسلامية.. حضور جديد لعالم الموضة في أوروبا" لأنيليز مورس. الخطر الشديد في الكتابة الصحفية حول الجندر هي أنها في الغالب تُختزل في المرأة، ومن ثم في الحجاب، لأن موضوع الحجاب، وملابس النساء عموما، هو الموضوع الأسخن من الناحية الإعلامية. هذا الاختزال قام بطرحه الخطاب الذكوري المحافظ، وتبناه علي الناحية الأخري التجديديون. هذه هي المشكلة بالتحديد، فالخطابان المتناقضان يتبنيان نفس المنطق، إدانة الحجاب بوصفه دليلاً علي القمع والتخلف، أو دعم الحجاب بوصفه دليلاً علي العفة والاحتشام. المنطقان يتبنيان نفس الخطاب الثقافي ومعكوسه، والذي مفاده أن الحجاب يمثل رمزاً لشيء ما يتجاوزه، ونادراً ما يفكر أحد في الحجاب بوصفه نتيجة اجتماعية لعوامل اقتصادية مثلا. اقتصار الكلام عن الحجاب بوصفه "رمز ثقافي" أدي لكل المشاكل التحليلية في موضوع الجندر. تبدأ جمانة حداد مقالها بالقول: "دعوني من البداية مباشرة أمسك بالثور من قرنيه، وأقول لكمن إنني امرأة بألف رجل، لكنني لا أعاني من أي حسد قضيبي. أنا امرأة ناجحة في عملي وأتقاضي أجراً عالياً، لكنني أكره أن أدفع فاتورة المطعم عندما أكون علي موعد غرامي مع رجل. انا امرأة مستقلة تدمن عملها، لكن تدليكا للجسم أو للوجه يكسبني القدر نفسه من السرور والرضا الذي أشعر به عند نجاح مشروع ذي صلة بالعمل. انا امرأة مثقفة، لكن التجاعيد والوزن يثيران قلقي بقدر ما يساورني القلق لعدم قراءتي آخر رواية لكونديرا". تطرح حداد نفسها بوصفها امرأة متعصبة للأنوثة، وتقدس الأنوثة في مقابل الذكورة، ولكن ما هي الأنوثة؟ تعي بأن السؤال معقد وتجيب عليه: "إنه المتجر الواقع أمام بوتيك سونيا ريكيل في حي سان جيرمان بباريس، في هذا المحل يمكننا رؤية فساتين غاية في الجمال والأناقة والإغراء إلي جانب مختارات من الكتب والإصدارات الجديدة لروائيين ومفكرين وشعراء وفلاسفة". هكذا تعرف جمانة الأنوثة بأنها هي "غذاء الجسد وغذاء العقل". ناهيك عن إكليشيهية الإجابة، فلا يوجد معيار يمكننا من ربط هاتين الصفتين بالأنوثة دونا عن الذكورة مثلا، نساء كثيرات غير ذكيات ولا جميلات، ورجال كثيرون أذكياء وجميلون. كيف يمكننا أن نثق بالتعريف إذن؟ تمضي جمانة في المقال لتدلل علي أن الجمال والذكاء ليسا بالضرورة متعارضين، وهو أمر بديهي، ولكن ما علاقة هذا بالأنوثة؟ المقال التالي للميا قدور بعنوان "لماذا لا أرتدي الحجاب رغم أني مسلمة"، تراجع فيه الكاتبة مفهوم الحجاب، استنادا للدين، ولكنها، كالعادة، لا تفكر في أي سياق، غير النصوص الدينية، يمكن أن يفهم منه انتشار الحجاب. مثلا، حاجة الجماعات الإسلامية لأن تفرض وجودها، بشكل سياسي، علي الساحة الاجتماعية العربية، ومن ثم تسليط الضوء علي قضية غطاء الرأس دون أي شيء آخر، ومثلا، تحول الحجاب مع الوقت إلي عادة اجتماعية، مثلها مثل لبس الجلباب في مناطق ولبس القميص والبنطلون في مناطق أخري. كلها أسباب لا تتعلق بالنصوص الدينية بشكل أساسي، والمحاججة باستخدام النصوص الدينية لم تكن مجدية من قبل، سواء لفهم الظاهرة أو لمواجهتها. ولكن في الحقيقة، فالعدد يحتوي أيضاً علي مواضيع خارج الرؤية النصية للجندر، فتربط الروائية سحر خليفة بين صعود الإسلام السياسي وتهميش المرأة وقضايا الاستعمار. لا يعود الصراع حول الجندر هو مجرد رؤية ثقافية متخلفة تحارب رؤية ثقافية مستنيرة، وإنما يتدخل الاقتصاد والمصالح في عالم الواقع. تصف خليفة الوضع المعقد الآن: "بعد كل تلك العقود من عدائنا المستفحل للغرب ونفوذه، وجدنا أنفسنا، نحن الاشتراكيين والليبراليين والنسويات والنسويين، أقرب من حيث الفكر والتوجه العلمي والديمقراطي إلي الغرب المتمرس في التآمر علي شعوب العالم الثالث ومصالحها." وتضيف: "نحن الآن في فوضي سياسية اجتماعية فكرية مخيفة. اختلطت الأوراق وبتنا مهددين من طرفين متناقضين لا نعرف بالضبط من منهما أقسي وأظلم. الغرب وقد عودنا علي مؤامراته واستغلاله واستعماره من ناحية، ومن ناحية أخري الحركة الإسلامية السلفية وقد جاءتنا ببدع تعيدنا إلي عصر الظلمات وعصر الحريم". واحدة من التجارب التي تتحدث عن الجندر بدون التورط في خطاب ثقافي بحت أو خطاب يستند للنصوص الدينية لكي يفهم الظاهرة، هي تجربة "نساء في ظل قوانين المسلمين"، وهي منظمة تدافع عن حقوق المرأة في لندن، وكتبت عنها نورية علي تاني. "وهكذا نلاحظ أن شبكة "نساء في ظل قوانين المسلمين" تتنوع فيها المواقف والاتجاهات وأنها تهتدي بأفكار متباينة مستقاة بدءا من الماركسية وانتهاء بعلم اللاهوت المهتم بتحرير المرأة". انطلاقا من منظور مفاده إن الدين شأن خاص بالإنسان تري شبكة "نساء في ظل قوانين المسلمين"، في نفسها، أنها منظمة لا تتدخل بالمسائل العقائدية. بيد أن علي النساء أن يتسمن بالشجاعة، وأن يطالبن بأن تتاح لهن فرصة المشاركة بتفسير النصوص الدينية، والمساهمة في النقاشات التي تدور حول هذه المسألة. وبهذا المعني، فإن الأمر يدور هنا حول حقائق من صنع الإنسان، وبالتالي فإنها من المسائل الخلافية في العلوم الاجتماعية، وليس في العلوم الدينية". هذا هو المثال الأبرز في المطبوعة لكيفية تناول قضايا الجندر بعد تحييد النصوص المؤسسة، والتعامل مع الواقع نفسه من أجل تفسير القضايا المثارة في الواقع. كما يشير العدد لقضايا المتحولين جنسياً في إطار تحقيق شيق كتبه يورغن وسيم فريمبغين بعنوان "طائفة الخصري: الجنس الثالث في باكستان.. تجاوز لحدود الهوية الجنسية كبلته الحداثة". يرجع الكاتب ظهور الجنس الثالث في باكستان إلي القرن السادس قبل الميلاد، وصولا إلي جماعتي الخصري والهجري المعاصرتين "اللذين يخرقان علي نحو مشابه الحدود الجنسية الموضوعة من قبل المجمع. كلتا الجماعتين وصفت بأنها "ذكور عابرون للجنس"، أو "ذكور مؤنثون" بسبب طريقتهم في اللبس العابرة للجنس".