لفترة وجيزة ارتدي عبدالناصر علام قناع جرونوي بطل »العطر»، ولكنه لم يُقنع كثيرين بموهبته في تركيب العطور، لم تقع مدينة نجع حمادي في غرامه، ولم يأكله سكانها في النهاية. سرت معه في ذلك اليوم الحار عبر الشوارع الخالية دون أن أعرف وجهتنا. كنا لا نتحدث كثيراً أثناء سيرنا، وتفهمتُ بمرور الوقت تلك الحالة التي تتلبَّسه أو التي يريد أن يضفيها علي نفسه، أن يكون غامضاً قليلاً، أن يكون لديه شيء ما يحتفظ به لنفسه، حتي ولو لخمس دقائق. حسنٌ، وصلنا وأشار إلي »بوتيك» صغير، قائلاً إن هذا حلم حياته، وقد حققه أخيراً. فتح الباب، ورأيت كمَّاً هائلاً من زجاجات العطور الملوَّنة علي الأرفف، كل واحدة مدوَّن عليها اسم بخطه الجميل. أوحي لي شكل الزجاجات بأنها معبأة في منزل وليست قادمة من مصنع. مد يده، والتقط زجاجة وسكب قليلاً في قنينة صغيرة، وسحب أخري وأضاف إليها، وهكذا مرة ثالثة ورابعة، ثم أغلق القنينة ورجَّها، وقرَّبها من أنفه. كان هناك تعبير واحد طوال الوقت علي وجهه، ومع ذلك بدا لي من ملامحه أنه غير راضٍ عن خلطته، إذ بانه فتح القنينة مرة أخري وأضاف إليها نقطة من هنا، وأخري من هناك، لم يكن سريعاً مثل جرونوي، لا يهم، المهم أنني انتظرت نتيجة أكثر إبهاراً. قال عبدالناصر إنه صنع هذا خصيصاً لي، وهذه أحب خلطة إلي قلبه. فكرت قليلاً: متي بدأ هذا الأمر ليقول إن هذه أحب خلطة إليه؟! كان شيئاً مدهشاً جداً، فلم يسبق لي أن عرفت شيئاً عن ولعه بالعطور. قرَّب القنينة الصغيرة المفتوحة من أنفي فصدمتني، كانت الرائحة ثقيلة جداً، ولكنني أثنيتُ عليها، كان لا بد أن أفعل بعد جهده الضخم وحفاوته البالغة معي، وبدا لي أن ثنائي أسعده، أغلق القنينة ووضعها في يدي، قائلاً إنها هدية. كان يفرض عليَّ هدية من هذا النوع في كل مرة نذهب سوياً إلي المكان، أرفض ولكنه يصر بشكل غير طبيعي، ثم لاحظت بمرور الوقت أن هداياه لا تخصني وحدي، وإنما تذهب إلي الجميع، لم أره مرة يأخذ جنيهاً واحداً من زبون ما، كان الزبائن معروفين بالاسم، وكان يُقسِم ألا يأخذ مليماً الآن، قائلاً: »الحساب يجمع». أغلق عبدالناصر المكان بالطبع في غضون شهور، معترفاً بخطأ إقدامه علي تلك التجربة. كان يتحدث عنها بفتور شديد كأن جراحاً استأصل حماسه القديم لها. كان عبدالناصر علام يكبرني بأعوام قليلة، لكنني لم أفطن إلي فارق السن الصغير بيننا إلا متأخراً جداً، إذ أنه كان مدرِّسي في الإعدادية. في الطابور اقترب مني، وسألني عما أحمله في يدي. كانت رواية من تلك التي أؤلفها علي طريقة روايات الجيب. لا أؤلفها بشكل كامل، فحينما أتعب من الكتابة أقوم بإكمال بقيتها من رواية لأحد الكتَّاب الذين أحبهم. نبيل فاروق، أو محمود سالم، تحديداً. تطلَّع إلي الغلاف وسألني إن كان هذا رسمي؟! فأومأت برأسي. كنت أشعر بالخجل لسبب لا أعرفه، وكنت قلقاً كذلك، خاصة حينما بدأ يُقلِّبها من الداخل، كأنه سيكتشف سرقتي الصغيرة، ولكنه عوضاً عن هذا سألني عن اسمي، وردده مرتين أو ثلاثاً كأنه يدرب نفسه علي حفظه، وقال لي إنه سيراني في الفصل. لم تكن مصادفة، إذ عرفت أن زميلاً لي هو الذي أخبره بأنني أكتب، وسألت نفسي: إن كان يعرفني فلماذا ردد اسمي أكثر من مرة؟! في الفصل بدا كأنه لا يعرفني، تجاهلني فترة طويلة. لم تكن حصتُه مفضلةً عندي، مثل كثيرين غيري. كان يدرك ذلك، ولم يُضيِّق علينا مرة، لكنه لطالما عمل باجتهاد شديد. كان بارعاً في رسم ما يحاول شرحه لنا، مصابيح، ومحوِّلات، وكثير من الأجهزة الكهربية. كان ينقل من كشكول التحضير، ويبدأ في الشرح، أتذكر أنني فشلت تماماً في فهم معظم دروسه، وعلي سبيل المثال الطريقة التي تتحول بها الطاقة الكهربية إلي طاقة حركية. لم تكن المشكلة فيه، بل في المادة التي يدرِّسُها والتي كنا نعلم جيداً أننا لن نرسب فيها مهما جري، كان حينما يسأل طالباً عن شيء ما ولا يعرف الإجابة يُجلِسه بإشارة من يده، ويطلب من آخر الإجابة، ومن ثالث، لم يُحرج أحداً أبداً أمامي، وحينما يفشل الجميع يبدأ الشرح مجدداً، كان ينزعج من أحاديثنا الجانبية، ويخبط بيده علي باب الفصل طالباً الصمت. مرت شهور قبل أن يطلب مني أن أقابله في »الفُسحة». لم تكن مدرستنا »أبوبكر الصديق» شاسعة، وجدته بسهولة يقف مع مُدرِّسة سافرة. كنت أراها يومياً، وسمعتها مرة تتحدث باللهجة القاهرية فأعجبتني. كانت جميلة، ولا تبدو مثل كثير من المدرسات اللواتي يشبهن أمهاتنا. كانت مثل طيف لأنها كما ظهرت سريعاً اختفت سريعاً. قال إن اسمها الأستاذة إيمان، هذا ما أذكره الآن، وإنها مسؤولة عن جماعة الصحافة. سألتني منذ متي أكتب؟! كان سؤالاً غريباً يُوجَّه إلي صبي في الثالثة عشرة من عمره، ولكنني أجبت -مع هذا- إنني أكتب منذ زمن طويل. لم يتدخل في الحوار، تركها حتي أنهت حوارها القصير جداً معي، ووضعت يدها بحنو علي شعري، وقالت إنها تنتظر مني قصة لنشرها في مجلة ستصدرها المدرسة قريباً. ذهبتُ إلي المنزل، وبدأت التأليف فوراً. كتبت قصة عن عصابة ما، وبطل يُجهِزُ عليها اسمه »ماريو» علي اسم بطل لعبتنا الشهيرة في ذلك التوقيت، وفي اليوم التالي بحثت عن عبدالناصر، ووضعتها في يده. قرأها بينما أقف أمامه، وقال بصوت عالٍ »برافو عليك». كتب عبدالناصر مقدمة للقصة »إن الأدباء العظام كانوا في يوم ما...إلخ»، وحين صدرت المجلة البدائية حرص علي أن يُحضر لي النسخة بنفسه. كان قادماً بصحبة إيمان التي اكتفتْ بابتسامتها الجميلة الحانية، وفتح المجلة علي قصتي وبالقلب منها صورة لي، لم أصدق، ودق قلبي بعنف بالغ، كان علي وشك مغادرة صدري إلي الأبد.. لم أشكرهما، وإنما بدأت في الجري عبر الفناء، مجتازاً باب المدرسة، ومنها إلي شارع »الشعينية»، ثم قطعت شارع »رعاية الطفل» وصعدت سلالم عمارتنا قفزاً، ووضعت القصة أمام أمي وأنا أراقب تعبيراتها السعيدة. ليست قصة عادية تلك علي ما يبدو، لأنها تدور عن السعادة التي نفتقدها كلما كبرنا يوماً، ولأن بطلها ذلك الشخص الذي أدخل إلي قلبي تلك السعادة التي لن تتكرر مرة أخري. صار عبدالناصر علام نجمي المفضل في المدرسة. أنتظر بفارغ الصبر المباريات التي يقيمها المدرسون، وأقف علي الخط، أو في الطابق العلوي لأحظي بمشاهدة أفضل، وأشجع فريقه، لا.. ليس فريقه، وإنما أشجعه هو بمفرده -علي وجه التحديد- كما أفعل حالياً مع محمد صلاح. أصيح علي المدرسين ليسلموه الكرة، وأرفع صوتي عالياً حينما يحرز هدفاً. كان ذلك عادياً، إذ أنني لم أكن قد غادرت مرحلة الطفولة بعد. لمدة ثلاث سنوات قضيتها في المدرسة الإعدادية كان يقرأ ما أكتبه، أو ما أسرقه، وينصحني بأن أذهب إلي مكتبة المدرسة لأقرأ، ذهب معي مرة، وأشار إلي رف يمتلئ بكتب كامل كيلاني، طالباً أن أبدأ به، وقد فعلت، وأجهزت عليها بالكامل، سواء ما ألَّفه أو ما ترجمه، وقد كنت سعيداً للغاية، فقد صار هناك مؤلف جديد يمكنني السرقة منه. لا أذكر تحديداً كيف سار الأمر بعد أن ذهبت إلي الثانوية. لم تبتعد المسافات، فالمدرستان يجمعهما سور. قابلته مرة في الشارع، وقال لي إنه يجلس علي مقهي »عبداللاه». كنت أذهب إليه لنشاهد سوياً مباراة للأهلي، كانت صداقتنا تكبر وتتحول إلي أسطورة علي وقع العظمة التي يصنعها حسام حسن وأحمد فيلكس، ثم حدث فجأة وأن قرر أن يقرأ لي قصيدة. أخرج أوراقاً مطوية من جيبه، وقال لي بسخرية إنني لست وحدي الأديب في هذه المدينة. كان هناك شيء جميل فيما يقرؤه، السجع ربما، تلك الموسيقي الهادرة التي تنساب من الجمل الشعرية، ربما طريقته في الإلقاء، غير أنني لم أفهم حرفاً واحداً مما يقرؤه، ومع هذا أثنيت بشكل بالغ عليه، وربما عقَّبت، قائلاً بدوري كلاماً قد يبدو غير مفهوم له. شعرت أنني يجب أن أُعقِّب، أن أقول شيئاً ما، ويبدو أنني هرطقت، ومع هذا استقبل كلامي كأنه صادر من ناقد كبير، كان طيباً إلي أقصي درجة، وحتي هذه اللحظة لم أكن أدرك فارق السن الصغير بيننا. كان قد أنهي دبلومة المعلمين، وعمل فوراً في التدريس. كان يُحضرُ لي مجلات »ماستر» يصدرونها من قصر ثقافة نجع حمادي، وكنت أطالع أشعاره، وأقرؤها بصوت عال، وفهمتها، كانت بسيطة، تركيزي في الموسيقي حينما قرأ قصيدته أمامي ربما هو ما شتت انتباهي عن المعني. كان ما يكتبه جميلاً للغاية، وفهمت بمرور الوقت أنه نجم في نجع حمادي. رأيت مئات الأشخاص يصفقون له بحفاوة في الأمسيات، ويطالبونه بالتكرار، وهو نفس المشهد الذي رأيته أيضاً في القاهرة حينما قدمه عبدالرحمن الأبنودي في معرض الكتاب. كان محبوباً بشكل يفوق الوصف، كنا في عشرات المرات التي نتحرك فيها ابتداء من منزله يقف ليسلِّم علي كثيرين، وفي أسوأ الأحوال يرفع يده ليرد علي تحية بعض المتعجلين، كنا نذهب إلي المقهي، وكان يدخن الشيشة بلا توقف، كان يتعامل مع الأمر كما لو أنه ينجز فرضاً، ولحظة الحساب كان ينادي النادل مشيراً إلي كثير من الأشخاص قائلاً إنه سيدفع حسابهم، كان كريماً بشكل غريب، وحينما يشكره أحد يردد »لازمته» الشهيرة »الناس قِريِّبة» كانت سمعتُه تسبقه في أي مكان نذهب إليه، والمدهش أنه كان يقدمني باعتباري كاتباً مهماً، أنا الذي أبدأ حياتي بالكاد. كان كل شيء يمضي عادياً للغاية. صداقتنا تتطور، لم أسمح لنفسي أبداً بأن أتجاوز معه، فلم أنس حتي هذه اللحظة أنه كان مُدرِّسي، لكن الأمور تغيرت فجأة، فبسبب صراعات في قصر الثقافة انشقَّ مجموعة أدباء وأسسوا جماعة اسمها »آمون»، وقررت الانضمام إليها. كان أعضاء تلك الجماعة يتعاملون مع قصر الثقافة كأنه قصر الجحيم، والأدباء الذين استمروا فيه كأنهم الشياطين، وبالطبع نصحني بعض زملائي في الجماعة بقطع علاقتي بعبدالناصر علام إذ لن يكون مفهوماً كيف أتعامل مع عدو. لا أعرف إن كنت أحكي هذه التفاصيل التافهة حقاً الآن ولكن هذا ما جري. لم تنقطع علاقتنا، ولكن بسبب تركيزي في ندوة الأربعاء الخاصة بالجماعة وبسبب التحاقي بالجامعة لم أعد أقابل عبدالناصر كثيراً، وقد شك هو في أنني أبتعد عنه بإيعاز من الآخرين ففضَّل أن يترك لي المجال، ثم قررت فجأة أن أذهب إليه في المنزل وأن أعتذر له عن تقصيري معه. لم نتحدث أكثر من دقيقة في الأمر وانتهي الموضوع، ولم يجرؤ أحد علي فتح قصة علاقتي معه مرة أخري، غير أنني أصدقكم القول: كنت أشعر بأن البعض ينظر إليَّ كجاسوس، وقد كان هذا كئيباً إلي أقصي درجة، ولم تكن تلك العداوة بين أشخاص تجمعهم الكتابة مفهومة بالنسبة لي، في مرحلة تالية انضممت إلي قصر الثقافة، صار لقائي بعبدالناصر علام يومياً. كنا نذهب لنجلس في مقهي عبداللاه أو في مقهي أمام نقطة الشرطة القديمة، أو في مقهي المحطة، وجمعتنا شلة مع مجموعة أخري لا علاقة لها بالكتابة في نادي الزراعيين باستثناء حامد عرابي الذي كان يكتب الشعر، وقد ألَّف عبدالناصر قصيدة جاء علي ذكري فيها »الأصغر في الشلة عبدالموجود». كان المقطع الذي يخصني ساخراً، عن وساوسي المرضية وذهابي للأطباء بسبب وبدون سبب، كان أول من اكتشف ذلك الأمر عني. كان عبدالناصر عليماً بالمدينة. لفت نظري إلي قصر الأمير يوسف كمال. كنا نذهب إلي هناك، حتي قبل أن ينضم إلي الآثار، لنشاهد زجاجه الملون، وزخارفه. كان المكان للأسف في ذلك التوقيت تابعاً لمصلحة حكومية وكان الموظفون يضعون سخاناتهم في تجاويف بحوائطه ويركنون دراجاتهم علي أخشابه وزجاجه، واحتد عليهم عبدالناصر ذات مرة. كان كذلك يقول لي إن معظم النباتات في نادي الزراعيين نادرة وقد كانت جزءاً من حديقة قصر الأمير يوسف كمال غير أن الزراعيين حصلوا علي أجزاء من القصر ومعه جزء من الحديقة، وكذلك نادي المعلمين. لم يكف عبدالناصر علام عن السخرية أبداً، كان يسخر من نفسه ومن أصدقائه، وبالتالي لم يتضايق أبداً بسبب سخريتنا منه، خاصة في جلسة نادي الزراعيين الأسبوعية. كان لدينا صديق أصلع، وكان يحلم بعملية زراعة الشعر في توقيت كانت مثل تلك العملية مشكوكاً فيها، وباهظة الثمن، وأخبره عبدالناصر أنه وجده الحل الذي سيجعل شعره ينبتُ من جديد، بل وسيصبح مسترسلاً وناعماً كشعر الأجانب. كان قادماً لتوه من القاهرة، ويتحدث بجدية شديدة، وجديته أوحت لنا بأنه اطلع علي سر ما في العاصمة، أو ربما قابل خبيراً. قال عبدالناصر: »هنحط علي دماغك هُرار طفل»، ومد يده ماسحاً بها صلعة صديقنا، فانفجرنا في الضحك، وختم قائلاً: »اسمع مني، ده ممكن يطلع اصفر مش اسود كمان». في تلك الفترة، التسعينيات، كان الإرهاب يضرب الصعيد. كان الإرهابيون في كل مكان، وكانوا يستهدفون القطارات الفاخرة، ولذلك كان الأمن متأهباً ومشدوداً للغاية. كنا نجلس في مقهي المحطة مرة نلعب الطاولة، وفجأة وجدنا ضابطاً فوق رؤوسنا، فأغلق عبدالناصر الطاولة ونهضنا، وكان عبدالناصر علي وشك إخراج البطاقة أو الكارنيه من جيبه إلا أن الضابط قال لنا إن الجميع سيذهب إلي المركز. لم يكن المركز بعيداً، المسافة بينه وبين المقهي نصف كيلو، وكان عددنا ضخماً فاستعانوا بسيارات مكشوفة لاستيعابنا، وكان حظي أنا وعبدالناصر الركوب في سيارة مكشوفة لا في البوكس، والمدهش أن الضابط ركب معنا. كنا نقف جميعاً، وفجأة لمحنا صديقاً لنا يسير في الشارع، كان علي وشك التخرج في كلية الطب، وأحني عبدالناصر علام رأسه طالباً مني أن أخفض رأسي قائلاً: »العملية مش ناقصة فضايح، مش عايزينه يشوفنا واحنا بالمنظر ده»، ويبدو أن الضابط سمعه فقال له: »مكسوف من إيه؟! ثواني اجيبهولك!»، وخبط علي صاج السيارة وطلب من السائق التوقف، لنجد صديقنا في لحظة بجوارنا. لم نمكث أكثر من ربع ساعة هناك، ومع هذا كان الخبر قد وصل إلي كل أصدقائنا الذين ذهبوا إلي المقهي بعدنا فجاؤوا سريعاً جداً، كنا نجتاز باب قسم الشرطة ورأينا صديقاً لنا يجري علي طريقة أفلام الأبيض والأسود مجتازاً الشارع، فاتحاً ذراعيه وهاتفاً: »ناصر»، وسايره عبدالناصر جارياً نحوه، فاتحاً ذراعيه بدوره وهاتفاً: مُني»، وانفجرنا جميعاً في الضحك. لا أنسي أبداً أيضاً تلك الحكاية التي جمعتني به حينما بعثنا رسالة إلي صحيفة نتهم فيها رئيس قصر ثقافة قنا بمجاملة شاعرة رديئة علي حساب أدباء جيدين، ومنحها تذكرة السفر إلي مؤتمر أدباء الأقاليم »كان هذا مسماه وقتها». بعد نشر الرسالة رفعت الشاعرة قضية علينا، ووصلتنا عريضة الدعوي وفوجئنا بكلام خطير في تلك العريضة التي صاغها محاميها، باختصار اجتزأ جملاً من كلامنا ليدلل بها علي أننا نطعنها في شرفها. فوجئت بعبدالناصر يحضر بائع ليمون يجيد الكتابة، ويطلب منه أن يكتب رسالة كأن من يكتبها هي الشاعرة نفسها، وجعلناها تشتمنا في تلك الرسالة وتسيئ إلينا بكل الطرق، وأرسلناها إلي نفس الجريدة فنشرتها عملاً بحق الرد، وفي هذا التوقيت جرت محاولة للصلح، اجتمع كبار الأدباء من أسوان وحتي أسيوط، وحددوا موعداً للذهاب إلي الشاعرة في مدينة قنا لإتمام الصلح، وعبدالناصر لم يسكت، وسألها: »انتي رفعتي علينا قضية ليه؟! ما انتي شتمتينا في الجورنال!»، وجاءنا ردها الصاعق: »أومال عايزين تشتموني وماردش عليكم؟!». كان موقفاً عبثياً بالكامل. رفضت الشاعرة الصلح بعد كل ما جري، وصدر الحكم ببراءتنا في النهاية. في منزله رأيت كثيراً من شهادات التقدير التي حصل عليها من هيئة قصور الثقافة بعد فوزه بجائزتها ربما خمس أو ست مرات. كانت أمه تفتح لي الباب، ترحب بي وتغيب، ثم يحضر هو، ويبدأ في كيِّ ملابسه أمامي، كان ذلك أسوأ ما في الأمر، إذ أنه كان حريصاً علي أن يكون لبنطلونه حد السيف، وكان يقضي نصف الساعة لينجز الأمر قبل أن نبدأ رحلتنا اليومية. لم يكن يمر يوم إلا ويكتب عبدالناصر قصيدة جديدة، قرأ لي عشرات القصائد، ربما مئات، كان طاقة شعر غير طبيعية، كان يتفجر به مثلما تتفجر الأرض بالمياه لحظة اكتشاف بئر جديدة، ولم أفهم أبداً كيف كان عليماً بالأوزان، فلم يحدثني مرة عن الأمر، أظن أن موهبته كانت فطرية تماماً، كان صادقاً إلي أقصي درجة فيما يكتبه، وعبَّر عن نفسه دائماً، وعن هزائمه التي يشعر بها، وعن أحزانه التي لم يكن آخرها وفاة شقيقه الأكبر »عبدالوهاب» غرقاً، إذ اكتشف أن المرض الخبيث استوطن جسده دون أن يدري. حكي لي أنه كان يلعب الكرة مع أصدقائه، ثم سقط سقطة خفيفة علي الأرض، وكان يتوقع أن ينهض سريعاً كما اعتاد، لكنه لم ينهض، إذ أن المرض الخبيث كان قد نهش عظام ظهره وأحالها إلي ذرات، وهكذا انهار عموده الفقري كما ينهار بيت رملي علي شاطئ بخبطة واحدة. قال لي صديقنا محمد شمروخ إنه كان يريد في محنته الأخيرة ألا يكرر مأساة أخيه »عبدالوهاب» فقد أدخلوه البيت علي أمه ميتاً، قال لهم إنه يريد أن يقضي معها ولو مجرد يوم واحد قبل أن يموت، لكن مع الأسف الشديد لم تتحقق أمنيته. كنا نقف أمام باب البيت لساعة أو أكثر في انتظار وصول جثمانه من سوهاج. تجمَّع الأهالي من كل مكان، وصل الخبر إلي القاصي والداني، وصل إلي البلدات القريبة والبعيدة، جاء العشرات وصاروا مئات، جاؤوا ليودعوا عبدالناصر، الشاعر الذي أحبوه، والإنسان الذي ارتبطوا به، ولم يروا منه خطيئة صغيرة أو كبيرة، جاؤوا ليودعوه وليقولوا له: »لا تخف، انت ابننا، لا تخف فلست وحدك أبداً». فيلكس، ثم حدث فجأة و قرر أن يقرأ لي قصيدة. أخرج أوراقاً مطوية من جيبه، وقال لي بسخرية إنني لست وحدي الأديب في هذه المدينة. كان هناك شيء جميل فيما يقرؤه، السجع ربما، تلك الموسيقي الهادرة التي تنساب من الجمل الشعرية، ربما طريقته في الإلقاء، غير أنني لم أفهم حرفاً واحداً مما يقرؤه، ومع هذا أثنيت بشكل بالغ عليه، وربما عقَّبت، قائلاً بدوري كلاماً قد يبدو غير مفهوم له. شعرت أنني يجب أن أُعقِّب، أن أقول شيئاً ما، ويبدو أنني هرطقت، ومع هذا استقبل كلامي كأنه صادر من ناقد كبير، كان طيباً إلي أقصي درجة، وحتي هذه اللحظة لم أكن أدرك فارق السن الصغير بيننا. كان قد أنهي دبلومة المعلمين، وعمل فوراً في التدريس. كان يُحضرُ لي مجلات »ماستر» يصدرونها من قصر ثقافة نجع حمادي، وكنت أطالع أشعاره، وأقرؤها بصوت عال، وفهمتها، كانت بسيطة، تركيزي في الموسيقي حينما قرأ قصيدته أمامي ربما هو ما شتت انتباهي عن المعني. كان ما يكتبه جميلاً للغاية، وفهمت بمرور الوقت أنه نجم في نجع حمادي. رأيت مئات الأشخاص يصفقون له بحفاوة في الأمسيات، ويطالبونه بالتكرار، وهو نفس المشهد الذي رأيته أيضاً في القاهرة حينما قدمه عبدالرحمن الأبنودي في معرض الكتاب. كان محبوباً بشكل يفوق الوصف، كنا في عشرات المرات التي نتحرك فيها ابتداء من منزله يقف ليسلِّم علي كثيرين، وفي أسوأ الأحوال يرفع يده ليرد علي تحية بعض المتعجلين، كنا نذهب إلي المقهي، وكان يدخن الشيشة بلا توقف، كان يتعامل مع الأمر كما لو أنه ينجز فرضاً، ولحظة الحساب كان ينادي النادل مشيراً إلي كثير من الأشخاص قائلاً إنه سيدفع حسابهم، كان كريماً بشكل غريب، وحينما يشكره أحد يردد »لازمته» الشهيرة »الناس قِريِّبة» كانت سمعتُه تسبقه في أي مكان نذهب إليه، والمدهش أنه كان يقدمني باعتباري كاتباً مهماً، أنا الذي أبدأ حياتي بالكاد. كان كل شيء يمضي عادياً للغاية. صداقتنا تتطور، لم أسمح لنفسي أبداً بأن أتجاوز معه، فلم أنس حتي هذه اللحظة أنه كان مُدرِّسي، لكن الأمور تغيرت فجأة، فبسبب صراعات في قصر الثقافة انشقَّ مجموعة أدباء وأسسوا جماعة اسمها »آمون»، وقررت الانضمام إليها. كان أعضاء تلك الجماعة يتعاملون مع قصر الثقافة كأنه قصر الجحيم، والأدباء الذين استمروا فيه كأنهم الشياطين، وبالطبع نصحني بعض زملائي في الجماعة بقطع علاقتي بعبدالناصر علام إذ لن يكون مفهوماً كيف أتعامل مع عدو. لا أعرف إن كنت أحكي هذه التفاصيل التافهة حقاً الآن ولكن هذا ما جري. لم تنقطع علاقتنا، ولكن بسبب تركيزي في ندوة الأربعاء الخاصة بالجماعة وبسبب التحاقي بالجامعة لم أعد أقابل عبدالناصر كثيراً، وقد شك هو في أنني أبتعد عنه بإيعاز من الآخرين ففضَّل أن يترك لي المجال، ثم قررت فجأة أن أذهب إليه في المنزل وأن أعتذر له عن تقصيري معه. لم نتحدث أكثر من دقيقة في الأمر وانتهي الموضوع، ولم يجرؤ أحد علي فتح قصة علاقتي معه مرة أخري، غير أنني أصدقكم القول: كنت أشعر بأن البعض ينظر إليَّ كجاسوس، وقد كان هذا كئيباً إلي أقصي درجة، ولم تكن تلك العداوة بين أشخاص تجمعهم الكتابة مفهومة بالنسبة لي، في مرحلة تالية انضممت إلي قصر الثقافة، صار لقائي بعبدالناصر علام يومياً. كنا نذهب لنجلس في مقهي عبداللاه أو في مقهي أمام نقطة الشرطة القديمة، أو في مقهي المحطة، وجمعتنا شلة مع مجموعة أخري لا علاقة لها بالكتابة في نادي الزراعيين باستثناء حامد عرابي الذي كان يكتب الشعر، وقد ألَّف عبدالناصر قصيدة جاء علي ذكري فيها »الأصغر في الشلة عبدالموجود». كان المقطع الذي يخصني ساخراً، عن وساوسي المرضية وذهابي للأطباء بسبب وبدون سبب، كان أول من اكتشف ذلك الأمر عني. كان عبدالناصر عليماً بالمدينة. لفت نظري إلي قصر الأمير يوسف كمال. كنا نذهب إلي هناك، حتي قبل أن ينضم إلي الآثار، لنشاهد زجاجه الملون، وزخارفه. كان المكان للأسف في ذلك التوقيت تابعاً لمصلحة حكومية وكان الموظفون يضعون سخاناتهم في تجاويف بحوائطه ويركنون دراجاتهم علي أخشابه وزجاجه، واحتد عليهم عبدالناصر ذات مرة. كان كذلك يقول لي إن معظم النباتات في نادي الزراعيين نادرة وقد كانت جزءاً من حديقة قصر الأمير يوسف كمال غير أن الزراعيين حصلوا علي أجزاء من القصر ومعه جزء من الحديقة، وكذلك نادي المعلمين. لم يكف عبدالناصر علام عن السخرية أبداً، كان يسخر من نفسه ومن أصدقائه، وبالتالي لم يتضايق أبداً بسبب سخريتنا منه، خاصة في جلسة نادي الزراعيين الأسبوعية. كان لدينا صديق أصلع، وكان يحلم بعملية زراعة الشعر في توقيت كانت مثل تلك العملية مشكوكاً فيها، وباهظة الثمن، وأخبره عبدالناصر أنه وجده الحل الذي سيجعل شعره ينبتُ من جديد، بل وسيصبح مسترسلاً وناعماً كشعر الأجانب. كان قادماً لتوه من القاهرة، ويتحدث بجدية شديدة، وجديته أوحت لنا بأنه اطلع علي سر ما في العاصمة، أو ربما قابل خبيراً. قال عبدالناصر: »هنحط علي دماغك هُرار طفل»، ومد يده ماسحاً بها صلعة صديقنا، فانفجرنا في الضحك، وختم قائلاً: »اسمع مني، ده ممكن يطلع أصفر مش أسود كمان». في تلك الفترة، التسعينيات، كان الإرهاب يضرب الصعيد. كان الإرهابيون في كل مكان، وكانوا يستهدفون القطارات الفاخرة، ولذلك كان الأمن متأهباً ومشدوداً للغاية. كنا نجلس في مقهي المحطة مرة نلعب الطاولة، وفجأة وجدنا ضابطاً فوق رؤوسنا، فأغلق عبدالناصر الطاولة ونهضنا، وكان عبدالناصر علي وشك إخراج البطاقة أو الكارنيه من جيبه إلا أن الضابط قال لنا إن الجميع سيذهب إلي المركز. لم يكن المركز بعيداً، المسافة بينه وبين المقهي نصف كيلو، وكان عددنا ضخماً فاستعانوا بسيارات مكشوفة لاستيعابنا، وكان حظي أنا وعبدالناصر الركوب في سيارة مكشوفة لا في البوكس، والمدهش أن الضابط ركب معنا. كنا نقف جميعاً، وفجأة لمحنا صديقاً لنا يسير في الشارع، كان علي وشك التخرج في كلية الطب، وأحني عبدالناصر علام رأسه طالباً مني أن أخفض رأسي قائلاً: »العملية مش ناقصة فضايح، مش عايزينه يشوفنا واحنا بالمنظر ده»، ويبدو أن الضابط سمعه فقال له: »مكسوف من إيه؟! ثواني اجيبهولك!»، وخبط علي صاج السيارة وطلب من السائق التوقف، لنجد صديقنا في لحظة بجوارنا. لم نمكث أكثر من ربع ساعة هناك، ومع هذا كان الخبر قد وصل إلي كل أصدقائنا الذين ذهبوا إلي المقهي بعدنا فجاؤوا سريعاً جداً، كنا نجتاز باب قسم الشرطة ورأينا صديقاً لنا يجري علي طريقة أفلام الأبيض والأسود مجتازاً الشارع، فاتحاً ذراعيه وهاتفاً: »ناصر»، وسايره عبدالناصر جارياً نحوه، فاتحاً ذراعيه بدوره وهاتفاً: مُني»، وانفجرنا جميعاً في الضحك. لا أنسي أبداً أيضاً تلك الحكاية التي جمعتني به حينما بعثنا رسالة إلي صحيفة نتهم فيها رئيس قصر ثقافة قنا بمجاملة شاعرة رديئة علي حساب أدباء جيدين، ومنحها تذكرة السفر إلي مؤتمر أدباء الأقاليم »كان هذا مسماه وقتها». بعد نشر الرسالة رفعت الشاعرة قضية علينا، ووصلتنا عريضة الدعوي وفوجئنا بكلام خطير في تلك العريضة التي صاغها محاميها، باختصار اجتزأ جملاً من كلامنا ليدلل بها علي أننا نطعنها في شرفها. فوجئت بعبدالناصر يحضر بائع ليمون يجيد الكتابة، ويطلب منه أن يكتب رسالة كأن من يكتبها هي الشاعرة نفسها، وجعلناها تشتمنا في تلك الرسالة وتسيئ إلينا بكل الطرق، وأرسلناها إلي نفس الجريدة فنشرتها عملاً بحق الرد، وفي هذا التوقيت جرت محاولة للصلح، اجتمع كبار الأدباء من أسوان وحتي أسيوط، وحددوا موعداً للذهاب إلي الشاعرة في مدينة قنا لإتمام الصلح، وعبدالناصر لم يسكت، وسألها: »انتي رفعتي علينا قضية ليه؟! ما انتي شتمتينا في الجورنال!»، وجاءنا ردها الصاعق: »أومال عايزين تشتموني وماردش عليكم؟!». كان موقفاً عبثياً بالكامل. رفضت الشاعرة الصلح بعد كل ما جري، وصدر الحكم ببراءتنا في النهاية. في منزله رأيت كثيراً من شهادات التقدير التي حصل عليها من هيئة قصور الثقافة بعد فوزه بجائزتها ربما خمس أو ست مرات. كانت أمه تفتح لي الباب، ترحب بي وتغيب، ثم يحضر هو، ويبدأ في كيِّ ملابسه أمامي، كان ذلك أسوأ ما في الأمر، إذ أنه كان حريصاً علي أن يكون لبنطلونه حد السيف، وكان يقضي نصف الساعة لينجز الأمر قبل أن نبدأ رحلتنا اليومية. لم يكن يمر يوم إلا ويكتب عبدالناصر قصيدة جديدة، قرأ لي عشرات القصائد، ربما مئات، كان طاقة شعر غير طبيعية، كان يتفجر به مثلما تتفجر الأرض بالمياه لحظة اكتشاف بئر جديدة، ولم أفهم أبداً كيف كان عليماً بالأوزان، فلم يحدثني مرة عن الأمر، أظن أن موهبته كانت فطرية تماماً، كان صادقاً إلي أقصي درجة فيما يكتبه، وعبَّر عن نفسه دائماً، وعن هزائمه التي يشعر بها، وعن أحزانه التي لم يكن آخرها وفاة شقيقه الأكبر »عبدالوهاب» غرقاً، إذ اكتشف أن المرض الخبيث استوطن جسده دون أن يدري. حكي لي أنه كان يلعب الكرة مع أصدقائه، ثم سقط سقطة خفيفة علي الأرض، وكان يتوقع أن ينهض سريعاً كما اعتاد، لكنه لم ينهض، إذ أن المرض الخبيث كان قد نهش عظام ظهره وأحالها إلي ذرات، وهكذا انهار عموده الفقري كما ينهار بيت رملي علي شاطئ بخبطة واحدة. قال لي صديقنا محمد شمروخ إنه كان يريد في محنته الأخيرة ألا يكرر مأساة أخيه »عبدالوهاب» فقد أدخلوه البيت علي أمه ميتاً، قال لهم إنه يريد أن يقضي معها ولو مجرد يوم واحد قبل أن يموت، لكن مع الأسف الشديد لم تتحقق أمنيته. كنا نقف أمام باب البيت لساعة أو أكثر في انتظار وصول جثمانه من سوهاج. تجمَّع الأهالي من كل مكان، وصل الخبر إلي القاصي والداني، وصل إلي البلدات القريبة والبعيدة، جاء العشرات وصاروا مئات، جاؤوا ليودعوا عبدالناصر، الشاعر الذي أحبوه، والإنسان الذي ارتبطوا به، ولم يروا منه خطيئة صغيرة أو كبيرة، جاؤوا ليودعوه وليقولوا له: »لا تخف، انت ابننا، لا تخف فلست وحدك أبداً».