كتبت - نهلة النمر: على خلاف أغلب من يمتهنون الثقافة، لم أعشق وسط البلد يوماً، ولم أقع فى هواها وحبائلها، لم أسكن مقاهيها ولم تكن من غواياتى، ربما لأننى لا أميل فى الأساس إلى الزحام، وأميل إلى الأماكن البعيدة والهادئة؛ ولذلك لم ألتقِه كثيراً، فلم أعرفه إلا من خلال بجعته وتغريدتها الأخيرة، حتى «أن تحبك جيهان» كان مشروع قراءة ضمن مشاريع قراءة كثيرة لم تكتمل، وظلت مجرد مشاريع. لذلك لم يجمعنى به سوى بضعة لقاءات عابرة فى ندوات ومؤتمرات أو توقيعات كتب. لكن اللقاء الحقيقى بيننا تم بعدما كلفنى المثقف الكبير عماد الغزالى بإجراء حوار معه للجريدة، وقتما كان مديراً للتحرير، وبالفعل اتصلت به وأبديت رغبتى فى إجراء الحوار، فأبلغنى وقتها معتذراً أن المحاور المتميز والنشط خيرى حسن، قد سبقنى إليه منذ عدة أسابيع، وأنه على وعد له بإجراء حوار، وأنهما فقط فى انتظار تحديد موعد. فبدأت بعدها أتابعه من خلال كل ما يكتب، على أمل أن تتجدد الفرصة فى أى تاريخ لاحق، وأجرى معه حواراً؛ لأكتشف أننى أمام كاتب يعمل إنساناً. وقعت فى حرج كبير قبل أن أتصل بأصدقاء الكاتب الكبير مكاوى سعيد، والذى غادرنا منذ أيام، لأسألهم شهادتهم فيه، وحين استجمعت شجاعتى كى أحدث بعضهم، زادتنى ردودهم حرجاً. هذه المرة الأمر مختلف، حزنهم جميعاً مختلف؛ ربما لأنه كان ما زال يملأ مكانه قبل رحيله بلحظات، فلم يبتعد مثل غيره، بسبب المرض أو السن، أو حتى الحزن واليأس، أو ربما لأنه لم يكن يملك من أمرهم شيئاً سوى روحه، تلك الروح التى فرقها بين أحبائه بالتساوى، فإذ به فجأة يستردها مكوناً منها واحداً صحيحاً؛ ليأخذها مع بعض من أرواحهم، ويصعد بها جميعاً. لذلك كنت أعى تماماً أن الأمر أبداً لن يكون سهلاً عليهم، فكيف لهم أن يرثوا هذا المنقوش على جبين المقاهى والطرقات !! لكن رسائلهم التى بعثوا بها إليه فور الرحيل كانت كافية؛ لتكشف لنا كل ما كنا نود أن نعرفه. هل فعل مكاوى سعيد مثل بجعته التى أخبرنا فى روايته، أنها عندما شعرت بقرب نهايتها ذهبت إلى الشاطئ؛ لتطلق تغريدتها الأخيرة وتموت وحيدة فى صمت. الكاتب والمترجم أحمد صلاح الدين كتب على صفحته الشخصية فور إعلان خبر وفاة الكاتب الكبير مكاوى سعيد ما يشير لذلك فها هو يقول: «لحد دلوقتى مش مصدق ان مكاوى سعيد مشى، كنا مع بعض امبارح، عرفنا أنه تعبان فى الأتيليه، روحت له أنا ووائل وسلوى علشان نطمن عليه، لاقيناه فعلا تعبان. قعدنا معاه شوية، كان رافض يروح للدكتور، قولنا له لازم تروح البيت، روحت جبت تاكسى علشان نوصله، وصلناه بس رفض أن التاكسى يدخل الشارع وينزله قدام البيت، ورفض إن حد يروح معاه، مشى شوية وبعدين لف وشاورلينا بإيديه كأنه بيودعنا، ابتسم وكمل طريقه، واحنا مشينا، ومحدش فينا كان يتصور إن ده الوداع الأخير». منْ هنا يؤمن بالإشارات أو يتقن تفسيرها؟ إذا كان أحدكم منهم، سوف يدرك ما أرادت الروائية عزة سلطان قوله حين كتبت على صفحتها، بعد العودة من تشييع جثمان المبدع مكاوى سعيد من مسجد السيدة نفيسة والصلاة على روحه هناك: «قد تبدو العلامات مزعجة أحيانًا لكنها هاهنا تبزغ لتترك تساؤلات موحشة، حين خرج جثمانك يا مكاوى سعيد ووجد العربة مغلقة، أكثر من خمس عشرة دقيقة نقف حولك، تسمع بكاءنا، ولا ترد علينا؟ هل كنت تتحدث ونحن وسط البكاء لا نسمعك؟ هل كنت تؤكد على أنك لا تريد الرحيل وتود البقاء وسطنا، نحن الذين ربطتنا بك مساحات مختلفة». الشاعرة فاطمة قنديل، من القليلات اللاتى آمنَّ بأنه ليس هناك ما يجبرهن على قول ما لا يشعرن به، حاولت أن تخرج من كل هذا الألم ببهجة وتخرجنا معها، وقررت أن تلوح له وتدعوه للابتسام، ربما لأن حجم الألم الذى يخرج من الابتسام يكون أكبر من الذى ينسكب من الدموع فكتبت لمكاوى سعيد، بعد انتهاء مراسم عزائه التى أقيمت فى مسجد عمر مكرم، تقول: «ماكنش عندك غير قلمك وروحك، عشان كده كان العزا لحد الشارع، بكينا فى حضن بعض، وقعدنا على الرصيف علشان الجامع ماسعناش، قابلنا ناس فرقنا بيهم الأسى والأيام اللى شبه بعضها، وسألنا بعض إحنا بعدنا ليه كده! اتفقنا على مواعيد جديدة، واتعلمنا درس المحبة، وسهرنا بعدها، وضحكنا، كنا بنقول لبعض لو دخل من الباب دلوقت زى العادة لازم يشوفنا بنضحك، وقلنا: ده عامل فينا مقلب، عادى، هو ده ميكى، وأنا قلت لأصحابى وحبايبى هو يعنى إيه يقولوا مات وجنازته بعد شويه وبكرة العزا؟! يعنى مش راضى يغير عوايده حتى بعد الموت! القيلولة المقدسة وفجأة فى السهرة يقول: أنا همشى دلوقت، ومهما اتحايلنا عليه هيمشى يعنى هيمشى، أدينا سبناك تمشى يا ميكى، بس أنا حاستناك زى كل سنة، فى راس السنة، وهاخطف منك البرنيطة اللى أنت لابسها، زى العادة، وأنت هتسيبهالى، وأنت بتبتسم، زى ما كنت دايماً، وأنا المرة دى اللى هاقول لك: بلاش غلاسة يا ميكى أرقص معايا.. ارقص معايا رقصة واحدة بس يا ميكى». أما وحيد الطويلة، الكاتب الرائع ورفيق «قعدة الجمعة» لمكاوى سعيد لمدة عٌمر، فقد أبلغنا خبراً وحزناً وقلقاً، وأهدى صديقة ورداً، إذ قال فى مرثيته له: «حين كتب تغريدة البجعة كان يستحثنى لأكلمه بعد كل فصل أحياناً.. كنت خارج مصر وسعادته البالغة تصلنى كأنه فى حضنى، ليس كاتباً كبيراً فقط.. غاندى المبدع يمشى على قدمين.. يظلل وسط البلد بابتسامة حانية ولسان فكه.. كنت أمازحه فى لحظات متنوعة بأنهم يجب أن يضعوا تمثالاً له فى زهرة البستان.. منه تتفرع الجهات.. كتب بقلب.. كتب وسط البلد بشجاعة.. فى عنوان لافت.. مقتنيات وسط البلد.. كنت كبيراً يا مكاوى.. بعدك ستخرج فئران صغيرة لا تليق بالكتابة ولا بالمكان، فى لحظة عتاب قلت لى: الورد بدون اسم كنت من أرسله خفية ومحبة.. المحبة التى تعشش فى القلب رغم كل شىء. تليق بالودعاء والكبار، الآن.. الآن يا مكاوى.. كل الألم والدموع والصدمة لنا ورائحة الغياب المقيتة ..وكل الورد.. كل الورد لك». تلك هى الرقيقة التى أشفقت عليها أول ما أشفقت، عند سماعى خبر رحيل مكاوى سعيد، الروائية الشابة نهلة كرم والتى كان يعدها ابنة من رحم الكلمة، وكانت تعده أباً، كتبتْ له:«حبيبى يا مكاوى مش مصدقة ولا هصدق أنك سبتنى، كل مرة كان بيحصلى فيها حاجة وحشة كنت بجرى عليك عشان أعيطلك وأنت تطبطب عليا، مش مصدقة أنك مش هطبطب عليا تانى، ولا مصدقة أنهم بيقولوا عليك «الله يرحمه»، حبيبى يا مكاوى هتفضل عايش جوايا بحق كل حاجة حلوة عملتهالى وعلمتهالى، والله ما فى حد ينفع يملى مكانك أبدًا، أنا مش عارفة أكون كويسة زى ما بتطلب منى دايمًا، بس والله هحاول، الحاجة الوحيدة اللى مخليانى واقفة على رجلى وممكن أكمل بعدك وأنت مش فى الدنيا دى جملتك اللى كنت بتقولهالى دايما كل لما أضعف «أنا معنديش ولاد، بس ربنا بعتك ليا عشان يعوضنى عن دا، أنتى امتداد ليا فمتوجعيش قلبى عليكى ولا تخذلينى أبدًا» والله العظيم هفضل فاكرة الجملة دى دايمًا، والله العظيم هبقى قوية عشان خاطرك، والله اسمك عمره ما هيتقطع أبدًا، يا حبيبى يا مكاوى هتوحشنى اووووى، ربنا يصبرنى ويقوينى، ويدينى إشارات أكمل بها الطريق من غير مساعدتك، مع السلامة يا حبيبى». «الأمير الذى كف عن التجوال»، هكذا عنون الكاتب الدكتور أحمد الخميسى كلمة رثائه فى المبدع مكاوى سعيد، والتى اختص بها «الوفد» حيث قال:«هناك أشخاص نعتاد على وجودهم بيننا حتى نظن أن وجودهم أبدى وأن الحياة ينبغى أن تظل بهم ثم نفقدهم فجأة فنشعر بالذهول وندرك أهمية وجودهم فى حياتنا. اعتاد الجميع على أن مكاوى سعيد معنا دائما، هنا أوهناك، جزء من قلب القاهرة، تراه فى وسط البلد على أى مقهى وفى كل المقاهى، تراه فى لقاءات الأدباء والندوات، وفى مصافحات الأصدقاء السريعة وحيثما ينشب نقاش وحيثما تجرى المودة. كان أمير الشوارع بلا منازع. وفى حضرة ذلك الأمير الطواف كنت تشعر بأن ثمة معنى جميلاً هادئاً يغمغم فى قلبه. فقدنا كاتباً وروائياً قديراً، وإنساناً طيباً، ويا له من تعبير لم يعد يظهر إلا نادرا «إنسان طيب». لكن تبقى أصداء خطوات مكاوى سعيد، فى إبداعه، فى مجموعته القصصية «الركض وراء الضوء» وروايته « فئران السفينة» ومن بعدها رواية «تغريدة البجعة» التى لفتت الأنظار إليه وكانت مرشحة للبوكر العربية فى 2008، وفيها تناول مكاوى سعيد التحولات التى شملت جيلاً بأكمله هو جيل السبعينات، وسقوطه من سماوات الأحلام إلى أرض الواقع المشبعة بالهزيمة. وأظن أن النقد سوف يتوقف طويلاً عند «تغريدة البجعة»، وقد نشر مكاوى سعيد بعد ذلك رواية أخرى هى «أن تحبك جيهان». لقد فقدنا كاتباً وروائياً قديراً، هكذا كان مكاوى سعيد، وهكذا أحبه الجميع. أول تكريم يحصل عليه الكاتب الكبير مكاوى سعيد بعد رحيله، كان بعد الوفاة بدقائق، حيث أهدى النادى الريفى بمدينة «كوم إمبو» فعاليات مؤتمرهم الأدبى، الذى كان محدداً لإقامته نفس اليوم لروحه، فأعلن الشاعر الكبير أشرف البولاقى وآخرون: فى اليوم نفسه، وربما فى الساعة نفسها التى اجتمع فيها أدباء أسوان ومثقفوها للاحتفال بالسرد والتجريب، ضمن فعاليات مؤتمر ورشة المصطبة، بالنادى الريفى بمدينة كوم إمبو، رحل الأسوانى الجميل والسارد الكبير، مكاوى سعيد . يموت ساردٌ جميل، ليولد ساردون صغار قرأوه وذكروه، أحبوا سرده، وفُتِنوا به. أرادت ورشة «المصطبة» التى يديرها ويشرف عليها القاص ياسر سليمان، أن تنظر فى التجريب وكسر الإطار، فأقامت على نفقتها الخاصة وبدعمها وتمويلها الذاتى مؤتمرًا ثقافيَا ليوم واحد، السبت 2 ديسمبر، دعت إليه عددًا من الأدباء والنقاد والمثقفين، لتكسر إطار الثبات والمؤسسة، ولتجرّب قدرتها على وضع برنامجها الخاص؛ احتفاء بمبدعيها الساردين الجدد، والذين تم تدريبهم وصقل مواهبهم خلال عام كامل، لتصدر إبداعاتهم ونصوصهم فى كتاب إبداعى تم توزيعه داخل المؤتمر. جهد كبير، وإخلاص حقيقى، ومحبة كبيرة للكتابة يصدّرها الأسوانيون النبلاء المخلصون، ويهدون فعاليات مؤتمرهم، لروح الراحل الجميل مكاوى سعيد.