قالت له عمته يامنه «آباي.. ماكنت شقي وعفريت.. من دون كل الولدان.. كنت مخالف براوي.. وكنت مخي في عينيك السمراوي تمللي حاجات».. وآخر تلك الحاجات.. هو فوز الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودي بجائزة مبارك للآداب لعام 2010 وهي المرة الأولي التي يفوز فيها شاعر عامي بمثل تلك الجائزة الكبيرة.. تحدثنا معه بعد فوزه بالجائزة وسألناه عما إذا كان تمني أن تخصص جائزة للشعر العامي فرفض قائلا نحن أولاد العربية الفصحي، والعامية وسيلة لتوصيله للجمهور وأن شعره يعرفه الحفاة والعراة كما يعرفه المثقفون. تلك هي المرة الأولي التي يفوز فيها شاعر عامية بتلك الجائزة الكبيرة.. فهل هذا يعد إعادة اعتبار لشعر العامية واعتراف من الدولة به؟ - أنا حصلت من قبل علي جائزة الدولة التقديرية عام 2001، وكانت تلك سابقة أيضا في تاريخ جوائز الدولة ثم تأتي هذه الجائزة لتؤكد ذلك الاحتفاء ليس كشاعر فقط كما أظن ولكن كحالة اسمها «عبدالرحمن الأبنودي» الشاعر المؤثر في الجماهير ويعرفه قمم المثقفين ويعرفه الحفاة والعراة في بلاده وهذا السفير المتنقل بين العواصم العربية ملقيا ومقدما وجها خاصا لمصر قد لا يعرفه كثير في تلك البلاد وهو الوجه العربي والإنسان الأنوف ذو الكرامة الذي يحترمه الكبير والصغير، وربما لم تتح لهم فرصة التعرف علي شعري أكثر مما يحدث هنا، فهنا في مصر الناس تعرفني من خلال أغنياتي العامة أو لقاءاتي التليفزيونية والتي تحوي بعض القصائد الجماهيرية مثل «جوابات حراجي القط» و«يامنه» ولكن هناك في المحافل أقرأ أشعاري العميقة والمركبة حين أجد ذلك الجمهور الذي لا يتسع له مكان والذي يخرج من أجلي الشاشات والميكروفونات خارج المباني وأذكر الناس في السودان التي كانت تجلس علي الأرض ولا يحدها حد والذي ضل طريقه إلي القاهرة. أنت كرمت علي مجمل أعمالك فأين السيرة الهلالية من هذا التكريم؟ - السيرة الهلالية هي عنصر مهم من عناصر ترشيحي لتلك الجائزة فتلك السنوات الطوال التي قربت علي الثلاثين التي درت خلالها في البلاد العربية أجمع أشلاء العمل لأضعه أمام الجماهير في مصر والدول العربية وألقي عليه الضوء في الكتابة أو من خلال الراديو والتليفزيون مع الشرح وعقد مقارنات بين الوقائع التاريخية وصداها في الملحمة إلي جانب اهتماماتي بالأدب الشعبي، فطوال تلك الفترة لم أضيع يوما واحدا من عمري خارج الهدف وخارج موضوع حياتي وهو الشعر وكل ما يتعلق به من حالات إبداعية ونصوص تاريخية إلي جانب متابعاتي للأدب العالمي وحتي وأنا في هذا المنفي الاختياري بمدينة الإسماعيلية فإن لي العديد من الأصدقاء يمدونني بكل الإصدارات والكتب التي تصدر ومنهم الدكتور محمد صابر عرب والدكتور عماد أبوغازي وصديقي الأستاذ جابر عصفور. وهل تعد هذه الجائزة اعترافا من الدولة بشعر العامية؟ - قيمة تلك الجائزة التي تتجاوزني شخصيا في أنها رسخت لشعر العامية واعترفت به كما لم يحدث من قبل مع شاعر آخر علي رغم رحيل الأفذاذ أمثال فؤاد حداد وصلاح جاهين دون الحصول علي تلك الجوائز التي لاشك أنهم يستحقونها بصورة حقيقية ولكنها لم تكن خرجت للوجود قبل رحيلهم. ولكن أعتقد أن تلك الجائزة فتحت طريقا شاقاً لشعر العامية ليستقر أخيرا كفن شعري له اهتمامه وقيمته واعتراف بين الأدباء والمبدعين وله وجوده الرسمي وهذه هدية فخور بها للأجيال المقبلة من شعراء العامية. إذن فهل تقترح جائزة خاصة لشعر العامية؟ - لا أوافق نحن أبناء الفصحي ولا نقبل بذلك بديلا وعاميتنا ما هي إلا رافد متفرع من اللغة العربية ونحن أيضا أبناء الأدب العربي وإنما اخترت اللهجة لتحكم التواصل بيننا وبين هؤلاء الذين حرموا من نعمة التعليم والمعرفة التي تحويها الكتب والذين عاشوا علي الأدب الشفاهي ومن هنا فإن دراستي للأدب الشفاهي كانت لخدمة الأدباء ليعرفوا كيف تفكر شعوبهم وكيف تبدع فنونها والشعرية منها بالذات وهناك مقولة خاطئة اسمها النزول للجماهير وأنا دائما أقول إن الجماهير هي المعلم الأكبر وهي التي يجب أن نصعد لها والعامية التي أكتب بها هي التي حلت المعضلة بين اللغة العربية وبين الجماهير وقربت المسافات بينهما فأنا لم أكتب ألفاظا وحشية أو أعجمية وإنما في أشعاري ألتزم دائما بالألفاظ الفصحي وتركيب الجملة الفصيح وأحمد الله أن الصعيد هو إناء حافظ لتلك التقاليد اللغوية الشعرية القديمة وهو الذي وهبني هذه اللياقة في استعمال اللغة وأريد أن أؤكد علي أن شعر العامية شارك وساهم في التعبير والقتال من أجل القضايا العربية من منتصف القرن الماضي حتي الآن وربما أفضل كثيرا مما فعل كثيرون يكتبون بالفصحي لأن أهل الفصحي دخلوا في تلافيف ولوغاريتمات فيما يسمي بالحداثة، فضلوا طريقهم نحو القصيدة ونحو جمهورهم في الوقت نفسه. إذن لماذا ترفض تخصيص جائزة للعامية رغم هذا؟ - لأني لا أريد فصلها عن الشعر لأنها بذلك ستصبح كائناً غريباً عنه فأنا أفضل أن ينال شاعر عامية جائزة كبيرة مثل جائزة مبارك كل عشر سنوات أفضل من أن يقال باستهانة هذه الجائزة للشعر العامي وهم يقصدون أنها أقل درجة من شعر الفصحي، في حين أن كتابتنا بالعامية لم تكن علي حساب القيمة الفنية، كما أننا لم نتخل عن كل إنجازات الشعر العالمي ولا تقل قصائدنا شأنا وسموًا عن أشعار نيروده ولوركا وبريخت، وكل الشعراء الذين أثروا في مجتمعاتهم وبشروا بقضايا الحرية وضحوا من أجلها بالكثير. قلت إن شعرك يعرفه الحفاة والعراة كما يعرفه المثقفون ما السر في ذلك من وجهة نظرك؟ - الوعي بقضايا الأمة والوعي بمكونات الشخصية المصرية والوعي بالاحتياجات المادية والنفسية للإنسان المصري والعربي إلي جانب المهمة التنويرية التي تعني أن نقول للناس عصارة ما عرفنا ولا شك أن حياتي في الصعيد وطفولتي التي قضيتها بين غناء السواقي والشواديف ونوابع درس الغلال إلي جانب التتلمذ الطويل علي الملاحم العربية وأغنيات النساء الرائعة في البيوت ساعدني علي فهم الشخصية البسيطة لذلك تجد «جوابات حراجي القط» وهو العمل الوحيد الذي سجل للسد العالي و«يامنة» القصيدة الإنسانية البسيطة أكثر شهرة من أعمال كثيرة لأنها تمثل وعياً خاصاً جداً ومدروساً وتلقائياً. فلو سألت أي عامل أو فلاح عن اسم شاعر مصري فلن يعرف سوي عبدالرحمن الأبنودي علي الرغم من أن هناك شعراء أفضل. هل لديك أي إحساس بالمرارة تجاه المجتمع والناس؟ - لم يكن لدي أي إحساس بالمرارة في يوم من الأيام أو أي إحساس بالاضطهاد، فأنا فتي مدلل لشعبي ولم يكن يهمني يومًا أن ترضي عني الحكومة ولم أفقد ابتسامتي ورضائي وصبري مثلي مثل كل رجل في الصعيد ويكفيني أني لم أقصر في حق الأجيال القادمة مثلما فعل الراحلون عنا. من هم أحب شعراء العامية لقلبك؟ - لا شك أننا أتحفنا في حياتنا بقامتين كبيرتين من الصعب تكرارهما إلا في ظروف مماثلة لمصر، وهما الشاعران الكبيران فؤاد حداد وصلاح جاهين وعلي مصر أن تفتخر بالتراث الذي تركاه لنا وعلينا أن ندرسه للأجيال. وأين الأجيال الجديدة التي قدمتها للساحة؟ - قدمت مجموعة من الأجيال بعضهم كنت أسمعهم في معرض القاهرة الدولي للكتاب وبعضهم كنت علي اتصال دائم به حينما كنت قادراً - صحيًا- علي ذلك ومنهم الأساتذة حسام نصار الذي يحتل الآن منصب رئيس قطاع العلاقات الثقافية الخارجية بوزارة الثقافة، وعبدالناصر علام من نجع حمادي ومصباح المهدي من المنصورة وأطل الشاعر تميم البرغوتي للمرة الأولي علي الجمهور من خلال نفس المنبر، وهناك شعراء كثر علي ساحة الشعر العامي منهم أبناء الشاعرين الكبيرين وهما أمين حداد وبهاء جاهين. ولكن هناك ملحوظة عامة أنه ليس هناك الآن علي الساحة شعراء بقامة جاهين أو حداد.. فهل تلك مشكلة ثقافة؟ - في الواقع القضية ليست قضية ثقافة إذ أننا نملك شعراء مثقفين، ولكن المشكلة ظروف مصر الآن والتي لم تتح لهؤلاء الشباب تجربة عميقة ومركبة ومليئة بالتجارب الحية التي تتيح للشعراء أن يخرجوا من ذواتهم وأن يحولوا شعرهم إلي مجموعة قصائد ومعان شعرية يشقون بها ممرًا وعرًا خاصًا في طريق الشعر العامي في العصر الحديث ودائماً أقول إن الذنب ليس ذنب الشعراء، ولكن ذنب الزمن الذي نعيشه والذي من الصعب تجاهل مفرداته ولغاته وافتقاده أحداثاً وأشياء كثيرة مما أتيح لنا، فهل سيبني السد العالي مرة أخري ليخرج ديوان «جوابات حراجي القط» وهل سوف تتاح لنا أن نعايش تجربة ثرية مثل حرب الاستنزاف ليخرج ديوان مثل «وجوه علي الشط»، وهل مازلنا نحمل نفس طزاجة الإحساس بالقضية الفلسطينية والتعاطف معها مثلما كنا فخرج ديوان «الموت علي الأسفلت» فقد وهبتنا التجربة الناصرية وأتاحت لنا الكثير من التجارب الحية والمركبة والناضجة والمستمرة، أما الآن فالبحر قد هدأ والأمواج أصابها الموت فلابد أن يخرج الشعر معبرًا عن ذلك ولذلك فاللوم علي الحياة التي نعيشها، والتي من الصعب أن يخترقها شاعر غير مسلح بتجارب الماضي. وهل يوجد الآن شعراء نجوم؟ - أنا أرفض فكرة الشاعر النجم لأنه يصبح مثل الممثل النجم الذي تدخلت عشرات العناصر لكي تصنعه أي يصبح إنسانًا غير واقعي، ويصبح شعره في هذه الحالة عارًا ولكن الشاعر الجماهير تعشقه بسبب صدقه معهم ومشاركتهم مشاركة حقيقية وغير مبالغ فيها وغير دعائية وغير حكومية شاعر يعقد حفله الخاص مع جماهيره الخاصة ولكن في الحقيقة لم يحدث أن يعجب الشعب بشاعر بتلك الصورة مثلما حدث معي لأنني فتي مدلل لشعبي، فتي دللته الجماهير وأحبته كما أحبها. ولكن هل يحمل هذا النجاح بعض الحظ أم هو اجتهاد وموهبة فقط؟ - لننفي تمامًا مسألة الحظ هذه فهي قضية تافهة إذ ليس ثمة حظ يرفع قدر شاعر ويحط من قدر شاعر آخر، ولكن هناك شعراء بعضهم يعتمد علي الموهبة ثم يطورها ويثريها ويغذيها بكل عناصر تجربته الحياتية الخاصة والعامة وبأحوال العالم من حوله، وهناك شعراء يحاول بعضهم تركيب مواد ويصنع منها ألعاباً ملفتة تختفي باختفائه من أمام الجمهور ولكن لا أعتقد أن الحظ هو السبب في نجاح شاعر لديه القدرة علي التأثير في جيله والأجيال المقبلة.