لم ينجذب المصريون إلي خطب مبارك، كانت خطبا مترهلة، بلاغتها جوفاء. لم يكن يعنيهم كثيرا سوي "المنحة" التي يقررها في نهاية خطابه في عيد العمال. مبارك لم يكن يمتلك كاريزما عبد الناصر الذي اعتمد في خطبه علي إثارة حماس الجماهير عبر لغة شعاراتيه. ولم يمتلك أيضا قدرة السادات علي الارتجال، وإدهاش مستمعية، عبر لغة استخدمت ببراعة الخطاب الديني لا السياسي، واعتمدت الأداء الحركي التمثليي الذي أدي في النهاية إلي سيادة مفهوم "المصطبة" مقابل مفهوم "الدولة".. و"قعدة العرب" مقابل " القانون". خطب مبارك تشبهه وتشبه عصره إلي حد كبير لغته مراوغة، فاسدة، تحمل المعني ونقيضه، الاستقرار الذي يعنيه هو الجمود، والحرية مجرد إكلاشية يعني فتح مزيد من معتقلات الدولة. أيام الثورة لم تكن استثناء، لم يتوقع المصريون شيئا ذا بال من رجل قيل أن " لديه دكتوراه في العند"..لذا كان رد الشباب علي هذه الخطابات بليغا.. كانوا يستقبلونها بلغتهم الأخري التي لا تشبه لغة السلطة: يا عم لخص..! أو يخلعون أحذيتهم في صمت حتي تصل الرسالة. فالرجل لا يزال يتحدث عن ضغوط و مؤامرات وأجندات خارجية، يتحدث عن "شهداءكم" لا يعنيه أمر الثوار في شيء، بدأ الأمر كأن السلطة بلغتها، في مواجة مع الشباب آخر له لغته. حتي خطاب مبارك الثاني الذي استدعي فيه كاتبه (يقال أنه عمر سليمان بمشاركة السفير سليمان عواد) الأرشيف المصري الضخم لابتزاز مشاعر المصريين لم يؤثر في الوجدان سوي لحظات قليلة. ومع إصراره علي البقاء، رفع المتظاهرون لافتة: "خليك قاعد... إحنا حنجيلك". الخطاب الوحيد الذي أفرح المصريين طوال عهد مبارك هو خطاب التنحي.. كان مناسبا للغة الشباب من حيث الكثافة والإيجاز، والبعد عن الرطانة والبلاغة الجوفاء، لغته أشبه بلغة الشباب علي تويتر( أقل من 140 حرف).. ولكنها كانت كفيلة بتفجير فرحة مصر كلها! الثورة، في جانب منها، إذن، كانت ضد لغة السلطة، االقديمة المتكلسة، الفاسدة بمعني آخر. كانت لغة الشباب في الميدان لا تحتمل المعني ونقيضه، تتميز بالحسم :"ارحل يعني امشي"... وفي الوقت ذاته تسخر من السلطة من أجل كسر هيبتها المتوهمة. كتب الصديق أحمد اللباد علي صورة لمبارك:"انتهت صلاحيته في 25 يناير"، وكتب آخر مجهول:"اللهم أعنا علي الغلاء والبلاء والوباء وأبو علاء". الثورة في مكان آخر، ضد التهديد والتخوين والإقصاء، هي بهذه المعني ليست "مناسبة" إنها زمن آخر، ولغة أخري. ورغم أن النخبة القديمة التي أربكتها الثورة تحاول أن تخلع ملابسها القديمة بحثا عن دور يناسب المرحلة الجديدة إلا أن هذه النخبة تفضح نفسها باستخدام اللغة القديمة ذاتها، اللغة التي سربتها السلطة إلي وعيهم الزائف، قاموسهم واحد يسعي إلي تقسيم البشر إلي مواطنيين صالحين (مع السلطة) وآخرين ليسوا كذلك (ضدها في الأغلب)، من يفكر خارج "أرض الوصاية" في قضايا أخري تحتمل الخلاف هو خائن بالطبع، وكأنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة. الثورة عرت هذه اللغة الفاسدة التي لاتزال تتمسك بها النخبة التي نشأت في حضانات مبارك ونظام يوليو العسكري. (2) " النكتة ثورة صغيرة" يقول جورج أورويل. وقبل ثورة يناير كانت هناك محاولات عديدة لتفكيك سلطة الدكتاتور،عبر السخرية منه، لم يكن الأمر فقط محاولة للتنفيس كما يتصور البعض، بقدر ما كان "محاولة لقمع القمع" حسب تعبير فرويد. وساعد علي ذلك استخدام التقنيات الحديثة كالجرافيك وكاميرات الموبايل، وانتشار مواقع التواصل الإجتماعي (فيسبوك، تويتر، ويوتيوب...) أصبح بالإمكان أن نجد أغنيات خارج إطار وصاية الشركات الكبري، أو قصائد بعيدا عن نشر المؤسسات العامة والخاصة أيضا.. وأصبح بإمكان الفرد أن يتصدي بمفردة لجبروت السلطة. أصبحت شيئا أكبر منن فكرة " الأراجوز" القديمة بإسقاطاته التي تضحك الآخرين علي أنفسهم، ربما بعد الثورة يمكن إدراك أن لغة السخرية من مقدسات كانت موجودة بقوة، لم نكن نلتفت إليها..ربما ندرك الآن أن السينما الجديدة كانت تحاول تفكيك " إكلشيهات" الوطنية ببطء. يهتف علاء ولي الدين في "الناظر" عندما يواجهه الأمن في المظاهرة: " لف وارجع تاني" في إشارة إلي ما قاله مبارك أثناء محاولة اغتياله في أديس أبابا.. وعلي أنغام موسيقي "رأفت الهجان" يقول أحمد حلمي:"مصر عرفت مقاسي إزاي" عندما يعطيه رجل المخابرات ( المزيف) ملابس ليرتديها، أو الإيفية الشهير للأسطي برايز في " فيلم ثقافي": "المشكلة في السيستم".. وكان ظهور الثلاثي الشاب : احمد فهمي وشيكو وهشام ماجد حدثا أيضا، إذ استخدموا تقنيات الديجيتال، في محاولة لتأسيس مدرسة "الدوجما" المصرية، بلا اعتماد علي شركات انتاج..وكانت أفلاهم تحاكي بسخرية أفلاما سابقة، وكان اشهر أفلامهم "رجال لا تعرف المستحيل" الذي سخروا فيه من فيلم " الطريق إلي إيلات" وبطولات جهاز المخابرات وقد كلفهم ذلك استدعاء من أمن الدولة لأيام..ثم إختفاء قبل ان يعودوا مرة أخري في فيلم " ورقة شفرة" الذي كان استمرارا لمدرسة المحاكاة الساخرة. كانت لعبتهم بالصور، واللغة التي لا تمجد "آلهة" من العجوة بل تحطم هذه الرموز والآلهة. ربما كان هذا ما فعله محمد سعد في الشخصية الشهيرة " الليمبي"..في استخدامه لغة - تراها فيروز كراوية:" تحمل من التفكك والأصوات المبهمة ما يعينه علي التعاطي مع انفكاك وتشظي الواقع من حوله، وهي لا تعطي انطباعا بالسخرية فقط بل وبالمرارة التي غلبت علي كثير من المواقف الدرامية بالفيلم". في إطار تحليلها للفيلم تستشهد فيروز بدراسة عن "السخرية السياسية" للباحث C.Toulabor الذي ربط بين "سيطرة حزب واحد علي الحكم في البلاد وتطوير المواطنين القدرة علي انتزاع الكلمات والجمل من سياقها التقليدي لإعطاء مدلولات مختلفة، وبرر ذلك بالسعي نحو تطوير مفردات لغوية كاملة ملتبسة وعصية علي التحديد بصورة موازية للخطاب الرسمي لدولة الحزب الواحد". ولكن الحدث الرئيسي الذي سلط الضوء علي فكرة تفكيك سلطة الديكتاتور تبدي عندما نشرت الأهرام الصورة التعبيرية الشهيرة، مستخدمة تقنيات الفوتوشوب لتنقل مبارك الذي كان في مؤخرة الصورة إلي موقع متقدم علي الرئيس الأمريكي أوباما و رئيس الوزراء الإسرائيلي.. تفجرت بعدها ساحات المواقع الإلكترونية ساخرة بنفس السلاح أيضا من " التعبيرية"..سنجد مرة راقصة شرقية تتقدم المشهد، أو شاب يحمل فوطة وكأنه يتجه إلي الحمام..كانت الهجمة " التعبيرية" محاولة جريئة لمواجهة زيف السلطة وقدرتها المستمرة علي التزييف! (3) فتحت الثورة النوافذ لاحتمالات إبداعية وثقافية عديدة. ربما قبل هذا التاريخ لم يتوقع أحد أن تعزف فرقة موسيقية "كورال يوتوبيا" أغنياتها أمام قصر " عابدين".. قصر السلطان العالي الذي كان مجرد الاقتراب منه "مغامرة" محفوفة بالمخاطر. غنت الفرقة وغني معها المئات أمام القصر:"قولوا للحاكم جوا القصر.. انتو عصابة بتحكم مصر". في "الميدان" كانت ثمة روح جديدة، تترك مساحة من الارتجال قد يصيب أحيانا، وقد يخطئ احيانا أخري، فنون قديمة ورؤي جديدة حسب تعبير الباحث بالجامعة الأمريكية د. أشرف الشريف الذي يري صراعا بين نموذجي حياة: " الضبط الإجتماعي وسياسات الكآبة والتحكم وتطبيع البلادة في مقابل بهجة الإيقاع وتحرير المزاج من أغلال السائد الإجتماعي والمؤسسي في فوضوية محببة تكسر المألوف وتكفر بالشاهد و تخترق آفاق الغائب". ربما كان تحرير المزاج من أغلال السائد أبرز ما قامت به الثورة، المصريون حرروا الشوارع وكسروا حواجز الخوف، لتغادرالفنون قاعاتها الباردة إلي الشارع..تعلن أن "الشارع لنا" مقولة صلاح جاهين الخالدة.. الأدب والفن والموسيقي كانت إرهاصا بتغير ما فرضته الثورة، ليس فقط في العاصمة وحدها وإنما في الأقاليم. مع الجرافيتي أصبحت المدينة " جاليري" كبير، مفتوح لجمهور من العابرين، ربما لم يذهب مرة واحدة إلي جاليري فن. هل يتوقع أحد أن يرسم الفنانون صورة الضابط صائد العيون ويكتبون تحتها " ابحث مع الشعب". الثورة تقلب الحقائق القديمة، العبارة الشهيرة القديمة" أبحث مع الشرطة" صارت ابحث مع الشعب، وصار المطلوب للشعب "ضباط" قتله في الأغلب الأعم. اكتشف المصريون بعد الثورة أن السلطة التي كانوا يتوهمون "قوتها" وبطشها يمكن أن تتهاوي من نكتة.. لم يعد المصريون يتحدثون عن "جهة سيادة" كناية عن "جهاز المخابرات"..أمتدت السخرية لتشمل كل شيء، في لغة يراها البعض " صادمة" او "خارجة"، أو " منفلتة" ولكنها في الوقت ذاته ضرورية للتخلص من ثقافة الإكلشيهات والوطنيات الساذجة.عندما ظهر اللواء محسن الفنجري عضو المجلس العسكري مؤيدا التحية العسكرية للشهداء، أنشئت له عشرات الجروبات التي تمتدحه في الفيسبوك.. وعندما خرج مرة ثانية مهددا ومتوعدا مستخدما إصبعه..ألغيت هذا الجروبات وحل محلها جروبات أخري تسخر من إصبعه الذي استخدمه لتهديد الثوار، وفي لحظات قليلة كان هناك مئات من القصائد والاغنيات والنكات..باختصار تمت "مسخرة" الدكتاتور بالفن. كتب البعض : 'الرجل الذي ألقي تحية الشهداء.. يتعهد بأن سوف يُلقي التحية مرة آخري علي المزيد منهم'. أو "سقط القناع وظهر الصباع" ببنما حظي اعتراف اللواء حسن الرويني بأنه صاحب الإشاعات التي انطلقت في ميدان التحرير اثناء الثورة بقدر كبير أيضا من التعليقات حتي أن أحدهم أنشي جروبا بعنوان:" الرويني مش بتاع ساندوتشات..الرويني بتاع إشاعات". والغريب أن "حرق" أعضاء المجلس العسكري بمجرد ظهورهم علي الجماهير جعل الكثيرون منهم يرفضون الظهور الإعلامي مرة أخري، ما أدي إلي اختفاءهم من الإعلام. لم يدركوا بعد أن الثورة هنا هي جموح لانهائي وأعدائها ليس لهم شيء سوي فقر الخيال والروح. كتب صديق علي الفيسبوك: في فيلم "رد قلبي" عبارة يقولها صلاح ذو الفقار لشكري سرحان : "يا سلام يا علي ويكا لو أنت تقبل في الكلية الحربية و تبقي ظابط جيش و انا أقبل في كلية البوليس و أبقي ظابط شرطة و إحنا الاتنين نخربها و نقعد علي تلها".. ويعلق علي ذلك "وهذا ما حدث فعلاً..خربوها الاتنين.."، لم تعد هناك قداسة لجنرال أو " فقيه" لقد عرت الثورة الجميع..الذين يتاجرون بالوطنية أو بالدين... وكانت رسالة الثورة واضحة: لا قداسة للبشر في الدّيمقراطية، ومن حقّنا أن نبدع ما نريد، كما نريد. علي جدار في وسط البلد كتب شخص عابر:" التغيير علي وساخة بيجيب تسلخات".. هذه العبارة تلخص من وجهة نظر كاتبها، وكثيرين آخرين ما جري للثورة المصرية بدون تحليلات كبيرة..وبدون الحاجة إلي خبراء استراتيجين.وبعد فتح باب الترشح لانتخابات الرئاسة، كانت مناسبة لكي يسخر المصريون من الجميع، لم يكن لديهم سلاح يواجهون به هزلية الانتخابات بما تضمه من مفارقات وغرائب يصعب علي العاقل تحملها أو نقدها سوي بسلاح السخرية.ربما كانت رغبة ألا يصبح المنصب لفرعون جديد، إعلانا أننا نريد رئيسا منا، ساعد كثيرا علي ذلك، تاريخ المرشحين، وهيئتهم.. حظي حازم ابو إسماعيل باكبر قدر من النكات، ومعه عمر سليمان... ثم خيرت الشاطر، وجميعهم ممثلين لسلطات اصبحت عبئا علي المجتمع، يريد أن يتحرر منها.. حتي الرجل " إللي ورا عمر سليمان" اعتذر له الثوار عن كم الإيفهات والنكات التي قيلت عنه أثناء إلقاء بيان التنحي، ولكن مع ظهوره مرة أخري في الحملة الانتخابية لسليمان، وحديثه إلي الإعلاميين الذي حمل تهديدا مبطنا، خرجوا مرة أخري يعتذرون عن أعتذارهم الأول: " حصلنا الرعب..أخاف و اكش من ده الوش". الرئيس القادم إذن جرحه المصريون لا مجال أن يصبح فرعونا..بل موظفا ينفذ ما يأمر به الشعب. في سيارة كانت قادمة من شارع الهرم وتحمل بين ركابها بعض السلفيين، أدار السائق أغنية وطنية.. أحد السلفيين اعترض علي الأغنية وطلب غلق الكاسيت، السائق أوقف سيارته، وأمر الراكب السلفي بالنزول صائحا فيه:" قضينا 30 سنة في قمع مبارك..مش حتيجوا انتو كمان تقهرونا..". وهذه أيضا روح جديدة مختلفة، بل لعل أعظم إنجاز للثورة المصرية هو إلغاء فكرة الأب - البطريرك. لم يعد أحد فوق مستوي النقد: لا الجنرال المخيف ولا الشيخ الملتحي.... (4) عندما غني عبد الحكيم حافظ لصلاح جاهين أغنيات وطنية، كان حدثا كبيرا أن تتسل كلمات مثل " الاشتراكية"، " الميثاق"، " الاستعمار"... وغيرها من المصطلحات السياسية. كانت أغنيات جاهين هي الأغنيات الرسمية للثورة، مدعوة من السلطة، تغني في احتفالاتها الرسمية، وأغنيات معقدة بمعني عدد الآلات المستخدمة فيها وكأننا أمام "أوبرا"..وكانت الأغنيات صادقة أيضا لأنها تعبير عن اللحظة بتعقيداتها واشتباكاتها. بعد الثورة المصرية تحررت العديد من الفرق الموسيقية، كانت تريد أن تعلن رفضها بطريقتها الخاصة. كان هناك إدراك أن اللغة الحرة تخلق عالما حرا.. تفتح جدرانا تتوهم السلطة أنها تحميها. "السور" واحدة من أهم وأجمل الأغنيات التي يتم تداولها علي الإنترنت. كلمات وليد طاهر وغناء يسرا الهواري.. تغني: "قدّام السور قدّام اللي بانيه... قدّام السور قدّام اللي معلّيه... وكمان قدّام اللي واقف يحميه... وقف راجل غلبان وعمل بيبّبي..تصمت قليلا مع العزف قبل أن تواصل الغناء: " ع السور، واللي بانيه، واللي معلّيه". ..أداء يسرا في الكليب معبر أيضا سواء حركتها وقفزاتها علي السور، أو حركات جسدها وعينيها. البساطة لم تمتد فقط إلي كلمات الأغنية العارية تماما من أي محسنات بديعية أو مصطلحات سياسية، ولكن إلي الموسيقي العارية حيث لا تستخدم المطربة سوي الأوكورديون. كما أنها ليست فقط أغنية " تعبير موقف" يمكن أن تتجاوزها الأيام بعد ذلك فنيتها تجعلها تتجاوز الحدث، ليست أغنيات منفلتة ولكنها عارية من الفن مثل أغنيات رامي عصام مثلا. يسرا ليست هذه محاولتها الأولي في الجرأة المنفلتة، لها أغنية سابقة بعنوان " يا أوتوبيس"..تقول كلماتها: "يا اوتوبيس يا ماشي قدامي. وعمّال تطلع عليَ خرا. يا اوتوبيس يا ماشي قدامي... يا أتوبيس يا سادد السكة كفاية خرا". هذه البساطة تجعل كلمات مثل " خرا، وبي بي" تمران بسهولة لا يمكن أن تثير شيئا سوي السخرية المقصودة..الثورة هنا خيال جامح وجدران تهدمها الرسوم وأغاني تعبر كل الفضاءات المغلقة. (5) "الضحك يحتوي علي شيء ثوري" كما يقول ألكسندر هيرتزن: "في بيت العبادة، في قصر الحاكم، وفي قسم الشرطة، لا أحد يضحك. العبيد كانوا يحرمون من الابتسام في وجود الأسياد. الأنداد فقط يضحكون، أما إذا سمح لمن هم أدني بالضحك أمام رؤسائهم فقد ذهب الاحترام". ربما لهذا يكره الطغاه والفاشيين النكتة التي يعتبرها روبير اسكاربيت " فن الوجود". الإنسان حسب تعبيره يعيش بلا فكاهة حياة اليرقات تحت غشائها الحريري، واثق من مستقبل لن يدوم، شبه واع وغير قابل للتغيير، ولكن الفكاهة تؤدي إلي انفجار الشرنقة نحو الحياة والتقدم وخوض مغامرة الوجود..لتظهر فجأة الفراشة المتعددة الألوان ذات الضحكة التي تشبه ضحكة الآلهة ..تظهر علي نحو غامض" لم يقتل الثوار أعداء الثورة كما كان يحدث في الثورات القديمة، بل قتلوهم بالسخرية، والنكتة، لقد علقوا عبر اللوحة، والأغنية، والقصيدة، والشعار.. " ذيل حمار طويل في مؤخرة الدكتاتور" كما يقول ماركيز، تعليقا علي ما قام به المخرج الشهير ميجيل لتين الذي طرده الديكتاتور التشيلي بينوشيه، وقرر ليتن العودة بجواز مزور لكي يصور فيلما عن الديكتاتور، دخل بينوشيه القصر الجمهور، وتجول في كل تشيلي تحت حماية قوات الأمن الذي كانت تطلب رأسه. هذه الخيال الجديد لا يمكن محاصرته لا باسم الدين كما يريد مدعي امتلاك الحقيقة المطلقة. ولا باسم السياسة...