الضحك ثورة والثورة المضادة اكتئاب وتجهم. ومن يتتبع فترات مد وجزر النكتة السياسية خلال العامين الأخيرين يمكن أن يلاحظ العلاقة الطردية بين صعود الثورة والنكتة معا وبين انكماشهما معا. وكما يلاحظ عادل حمودة فى كتابه الرائد «النكتة السياسية: كيف يسخر المصريون من حكامهم» فإن النكتة «تلعلع» دائما بعد الثورات، وقد رأينا كيف ازدهرت النكتة أيام الثورة بعد شهور وربما سنوات من الاكتئاب العام، ثم كيف تراجعت مع حالة الإحباط العام التى نجح أعداء الثورة فى بثها.. وكيف عادت بقوة فى الأسابيع الأخيرة مع صعود المد الثورى مجددا. «الضحك يحتوى على شىء ثورى» كما يقول ألكسندر هيرتزن: « فى بيت العبادة، فى قصر الحاكم، وفى قسم الشرطة، لا أحد يضحك. العبيد كانوا يحرمون من الابتسام فى وجود الأسياد. الأنداد فقط يضحكون، أما إذا سمح لمن هم أدنى بالضحك أمام رؤسائهم فقد ذهب الاحترام». لذلك يكره الديكتاتور والرجعى النكتة، ولذلك أصدر نابليون أمرا باعتقال من يطلقون النكات على الجيش الفرنسى، وحذر عبد الناصر المصريين من إطلاق نكاتهم حتى لا يستغلها الأعداء.. ولكن النكتة ظلت دائما هى السلاح الأمضى – والوحيد أحيانا – الذى يملكه المصريون فى مواجهة السلطات التى تريد قهرهم. النكتة هى العمل التخريبى الأكثر تأثيرا لعنف وتصلب وتخشب أقنعة الدين والوطنية التى يرتديها الفاشيون، وقد رأينا كيف أزاح المصريون مبارك بالنكات والأغانى والشعارات الساخرة، وكيف أذابوا مصفحات المجلس العسكرى وغازات وخراطيش الداخلية القاتلة بنكاتهم اللاذعة والموجعة أحيانا. يرى الفيلسوف هنرى بيرجسون فى كتابه الشهير عن الضحك أن هدف النكتة الرئيسى هو السخرية من التصلب والآلية والادعاء، ولا برهان على ذلك أفضل من رد شباب الفيس بوك على مهزلة الانتخابات البرلمانية «النزيهة» بما تستحقه من أكبر حملة سخرية فى تاريخ البرلمان المصرى، ومن فضحهم لادعاءات الإخوان و«غشومية» السلفيين بسلاح النكتة وحده، وأخيرا هذه الحملة الهازئة المضادة التى يواجهون بها هزلية انتخابات الرئاسة المقبلة بما تضمه من مفارقات وغرائب يصعب على العاقل تحملها أو نقدها سوى بسلاح السخرية. السخرية لم تترك مرشحا محتملا للرئاسة من البرادعى وقبلته لأنجلينا جولى وتفضيله لل«تويتر» على النزول للشارع، إلى توفيق عكاشة وعمرو موسى، وحتى حمدين صباحى الأكثر تعقلا وحذرا فى أحاديثه وجد الساخرون مادة للضحك من ابتسامته العريضة وشعره الأبيض الغزير – الذى يشبه شعر وائل الإبراشى، وحتى اسمه خرج بوستر ساخر منه يقول: «حمدين صباحى اتنين مننا. ليه حمدين؟ علشان لو عطل حمدى التانى يشتغل». وقد قدم باسم يوسف فى برنامجه «البرنامج» أكثر من حلقة خصصها لمرشحى الرئاسة حاول فيها أن يوازن بين سخرية الفيس بوك المنفلتة وبين قواعد الاحترام «التليفزيونية»، ولكنه استطاع بشكل عام أن ينفذ إلى جوهر الانتقادات التى توجه إلى كل مرشح. وبجانب التعليقات والصور ومقاطع الفيديو تم استخدام بعض مقاطع الأغانى والمسرحيات والأفلام ومنها أغانى «يابرادعى» لأحمد آدم و«عواااا» لصفاء أبو السعود وحتى «يافرحة أم إسماعيل فى وسط عيالها». ولعل الوجه الأكثر «غرابة» فى هذه الانتخابات – بالنسبة لشباب الثورة - هو حازم أبوإسماعيل بالطبع، ويليه أحمد شفيق، فكلاهما، الشيخ والفريق، يمثلان الفاشية الدينية والعسكرية فى أكثر صورها كاريكاتيرية. وحتى وقت قريب كان شفيق يحظى بنصيب الأسد على صفحات الفيس بوك فى عدد التعليقات والفيديوهات والصور المركبة التى تحول كل نشاط أو حوار يجريه إلى مادة للتهكم، وأكبر «افتكاسة» قام بها فى حملته كانت دخوله إلى خيمة مؤتمر دعائى على ظهر حصان وسط موسيقى فرقة حسب الله، وأكثر التصريحات التى أدلى بها إثارة للنكت كانت المتعلقة بعلاقته بالمشير طنطاوى، سواء المرة التى أجاب فيها عن سؤال حسين عبد الغنى عما إذا كان مبارك قد أمره بالاحتفاظ بالمشير كوزير للدفاع فى وزارته وإجابته الشهيرة «إييه؟» التى استغرقت دقائق، أو إجابته عن سؤال لميس الحديدى عما إذا كان قد استأذن المشير فى أمر ترشيحه للرئاسة، والذى قارن فيه علاقته بالمشير بعلاقة لميس مع زوجها عمر أديب! ومع الهجوم الضارى الذى تعرضت له شوارع وحوائط وسيارات مصر من «بوسترات» المرشح حازم أبو إسماعيل، والتى تكشف عن حجم تمويل مخيف ومريب لحملته الدعائية، بدا وكأن شباب الفيس بوك تركوا كل المرشحين الآخرين وتفرغوا لأبى إسماعيل وانهالت عشرات التعليقات والصور المركبة والكاريكاتيرات التى تسخر من هذا الاستخدام الغريب والمبالغ فيه للبوسترات حتى على أكياس الخبز، وحتى استخدام مسيرات بشرية تحمل البوسترات تجوب الشوارع.. وقد بالغ مستخدمو الفيس بوك فى تخيل انتشار هذه الملصقات حتى وضعوها على ظهر القمر، وفى البيت الأبيض بجوار مكتب أوباما، وفى يد «الراجل اللى واقف ورا عمر سليمان»، وعلى وجه لوحة الموناليزا التى أطلقوا عليها «حازوليزا»، وعلى جدران المعابد الفرعونية، حيث «يحتفل كهنة آمون بتعامد الشمس على بوستر أبو سماعين»، بما أن «جذوره تمتد للفراعنة وجده الأكبر – سماعين رع- هو إله البوسترات عند قدماء المصريين». ولكن الحق يقال إن أبا إسماعيل وأنصاره ساهموا بنصيب كبير فى هذه الحملة عن طريق تصريحاته الغريبة مثل أن نجاح أوباما فى الانتخابات المقبلة مرتبط بنجاحه فى انتخابات مصر، وأن «بيبسى» تعنى «تبرع ولو بسنت من أجل إسرائيل» أو بعض تصريحات الشيوخ من مؤيديه بأن «من ينصرف عن ترشيحه انما ينصرف عن الشريعة وعن الدين»، والأعجب من هذا وذاك هو القصص التى يروجها أنصاره على الفيس بوك مثل قيامه بشفاء امرأة مشلولة بلمسة من يده لأذنيها، وشفائه لرجل عاجز جنسيا بلمسة من يده لموطن الداء.. ولكن أكثر ما أضحكنى شخصيا هو الحكاية التالية: واحد من مستخدمى الفيس بوك كتب محاكاة ساخرة ل«معجزات» أبى إسماعيل ملخصها أن أحد الأطفال كادت أن تصدمه سيارة ميكروباص فى الشارع لولا أن الشيخ أبو إسماعيل خرج من البوستر وسحب الولد بسرعة من أمام السيارة.. فما كان من أحد أنصار الشيخ إلا أن رد على الشاب الساخر قائلا: «هذا كذب وافتراء وقد نفاه الشيخ بالأمس»!!