البابا تواضروس: مؤتمر مجلس الكنائس العالمي لا يستهدف وحدة الكنائس بل تعزيز المحبة بينها    ختام فعاليات الدورة التثقيفية للدراسات الاستراتيجية والأمن القومي بمكتبة مصر العامة بالمنصورة.. صور    رسميًا إعارات المعلمين 2025.. خطوات التقديم والمستندات المطلوبة من وزارة التعليم    مفوضة الاتحاد الأوروبي: القمة الأوروبية المصرية الأولى تُعزز مسار التعاون الاستراتيجي    انخفاض كبير في عيار 21 الآن بالمصنعية.. أسعار الذهب والسبائك اليوم الخميس بالصاغة    "مياه الفيوم" زيارات ميدانية لطلاب المدارس لمحطات تنقية مياه الشرب.. صور    رئيس الوزراء: رفع أسعار البنزين لا يبرر زيادة أسعار السلع    بوتين يشرف على مناورات نووية ويوجه رسالة للغرب    ترامب: محادثاتي مع بوتين جيدة لكنها بلا نتائج.. وحان وقت فرض العقوبات على روسيا    ترامب يدعو مربي الماشية إلى خفض الأسعار ويؤكد استفادتهم من الرسوم الجمركية    سبورتنج لشبونة يحرج مارسيليا بدوري أبطال أوروبا    بعد غضبه من جلوسه بديلاً.. رسالة جديدة من سلوت بشأن محمد صلاح    على أبو جريشة: إدارات الإسماعيلى تعمل لمصالحها.. والنادى يدفع الثمن    6 مباريات متكافئة فى افتتاحية الجولة ال10 من دورى المحترفين    إصابة شاب في انهيار شرفتين بعقار سكني بمدينة فاقوس بالشرقية    شبورة كثيفة وتحذير شديد من الأرصاد بشأن حالة الطقس اليوم.. وحقيقة تعرض مصر ل شتاء «قارس» 2025-2026    «التعليم» تكشف مواصفات امتحان اللغة العربية الشهري للمرحلة الابتدائية.. نظام تقييم متكامل    نفذها لوحده.. كاميرات المراقبة تكشف تفاصيل جديدة في "جريمة المنشار" بالإسماعيلية    زوج رانيا يوسف: بناتها صحابي.. وكل حاجة فيها حلوة    ليلة طربية خالدة على مسرح النافورة.. علي الحجار يُبدع في مهرجان الموسيقى العربية    الفلسطيني كامل الباشا ل"البوابة نيوز": كلمة حب واحدة قادرة على إنهاء صراع الأجيال.. لو قلت كلمة ثانية بعد "فلسطين".. ستكون "مصر".. أستعد لتصوير فيلم فلسطيني جديد عن القدس وأهلها ومعاناتهم    حنان مطاوع ل معكم: تكريمي في المغرب لحظة مميزة وشعرت فيها بأني أرى مشواري الفني في مرآة    الصحف المصرية.. حراك دولى لإلزام إسرائيل باتفاق وقف إطلاق النار فى غزة    علي الحجار يطرب جمهور الموسيقى العربية بأجمل أغانيه ويغني لأم كلثوم.. صور    حياة كريمة.. الكشف على 1088 مواطنا خلال قافلة طبية بقرية البعالوة فى الإسماعيلية    هيلث إنسايتس تساهم في تنفيذ مشروع ڤودافون بيزنس ومصر للطيران عبر حلول رقمية متكاملة للرعاية الصحية    رياضة ½ الليل| خلل في الأهلي.. الزمالك يشكو الجماهير.. عودة ليفربول.. والملكي يهزم السيدة    أسعار التفاح والموز والفاكهة بالأسواق اليوم الخميس 23 أكتوبر 2025    بعد ارتفاع الأخضر بالبنوك.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الخميس 23-10-2025    اليوم، الهيئة الوطنية للانتخابات تعلن القائمة النهائية لمرشحي مجلس النواب    رفض الطعن المقدم ضد حامد الصويني المرشح لانتخابات مجلس النواب بالشرقية    رئيس هيئة النيابة الإدارية في زيارة لمحافظ الإسكندرية    بدء غلق كوبري الأزهر السفلي أحمد ماهر 3 أيام لاستكمال تغيير الأرضية    طفل دمنهور يلحق بشقيقه.. مصرع طفلين سقطا من الطابق التاسع في البحيرة    10 رحلات عمرة مجانية لمعلمي الإسماعيلية    القوات الروسية تنجح بإنزال على جزيرة كارنتين في خيرسون    مسئول كبير بالأمم المتحدة: سوء التغذية في غزة ستمتد آثاره لأجيال قادمة    سرير ومرحاض مجانًا والثلاجة ب7 يورو شهريًا.. تفاصيل زنزانة ساركوزي في سجن «لا سانتيه»    رئيس محكمة النقض يستقبل الرئيس التنفيذي لصندوق الإسكان الاجتماعي    4474 وظيفة بالأزهر.. موعد امتحانات معلمي مساعد رياض الأطفال 2025 (رابط التقديم)    سيصلك مال لم تكن تتوقعه.. برج الدلو اليوم 23 أكتوبر    خالد النجار يكتب: توطين صناعة السيارات حوافز وفوائد    قرمشة من برة وطراوة من جوة.. طريقة تحضير الفراخ الأوكراني المحشية زبدة    هترم عضمك.. وصفة شوربة الدجاج المشوي التي تقاوم نزلات البرد    مش هتنشف منك تاني.. أفضل طريقة لعمل كفتة الحاتي (چوسي ولونها جميل)    ضياء رشوان: الاتحاد الأوروبي يدرك دور مصر المهم في حفظ السلام بمنطقة القرن الإفريقي    دوللي شاهين تحقق أول مليون مشاهدة على «يوتيوب» بكليب «ترند»    د.حماد عبدالله يكتب: " للخصام " فوائد !!    جامعة فرجينيا تتوصل إلى اتفاق لوقف التحقيقات التي تجريها إدارة ترامب    أحمد ساري: الاتحاد يستحق الفوز على الأهلي.. و«جنش» تعرض لظلم كبير    عضو الإسماعيلي السابق: نصر أبو الحسن أدخل أموال لحساب النادي دون قرار إداري    ميدو يطالب بعودة أحمد الشناوي لمنتخب مصر    مواقيت الصلاة في أسيوط غدا الخميس 23102025    داعية إسلامي: زيارة مقامات آل البيت عبادة تذكّر بالآخرة وتحتاج إلى أدب ووقار    بمشاركة 158 استشاريا.. بورسعيد تحتضن أكبر تجمع علمي لخبراء طب الأطفال وحديثي الولادة    هل يجوز احتساب جزء من الإيجار من زكاة المال؟.. أمين الفتوى يجيب    هل القرآن الكريم شرع ضرب الزوجة؟.. خالد الجندي يجيب    ميلاد هلال شهر رجب 2025.. موعد غرة الشهر الكريم وأحكام الرؤية الشرعية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قسطنطين كفافيس

خرج من مدخل البناية الفخمة ذات الطراز الإيطالي، حيث توجد العيادة الفخمة أيضاً للطبيب باباستيفانو، مع عيادتين أخريين شهيرتين في المنطقة، في شارع فؤاد الأرستقراطي، المزدحم بفيلاته الأنيقة ومحلات الأنتيكة الشهيرة. تنهد قسطنطينوس بعمق كما لو أراد أن يُخرج من صدره ثقل كبير. لكي يتفادي فضول بعض المعارف في الطريق كانوا علي الجانب المقابل من الشارع. ألقي عيناه علي رصيف الطريق الذي ظل ساخناً بالرغم من نسمات الربيع التي تداعبه في الظهيرة فقد كانت الشمس ساطعة فشعر قسطنطينوس بحرارتها تنعكس علي وجهه.
أجراس بعض الكنائس كانت تصدح من بعيد معلنة بإيقاعها الحزين بدء أسبوع الآلام، وحزنه. صدي كلمات الطبيب لا يزال يطن في أذنيه كالنحل، لكن لا يجب أن ييأس، راح يفكر. لم يتحدد شيء بعد. ربما، لو ذهب إلي أثينا من أجل تشخيص جديد؛ ربما يجب أن يخضع إلي اختبارات أخري. نعم، لن يستسلم بسهولة أبداً. لابد أن يقاوم.
لكن ماذا لو لم يستطع؟ ماذا لو أن حالته ستجبره أن يظل هناك؟ هل سيستطيع، ربما يحتاج الأمر أن يترك الإسكندرية للأبد. الفكرة وحدها أربكت كيانه.
لا، لم يستطع أبداً أن يتخيل حياته بعيداً عن هذه المدينة، ولا أن هذه المدينة التي أثرت فيه وشكلت وجدانه أكثر من أي مكان آخر. التفكير في المدينة اجتاحه كفيضان، بينما الأفكار السلبية عن مرضه، اللعنة التي حلت عليه فجأة، أثقلت خطواته أكثر فأكثر، كان من بعيد يبدو وكأنه رجل يحمل علي كتفيه ما يفوق قواه.
كان واثقاً من أمر واحد، وهو أنه لو رحل عن هنا، عن هذه المدينة، حتي وإن لم يرها مرة أخري أبدًا، ستستمر الحياة في مسيرتها بالمدينة بقصصها الصغيرة والكبيرة لأهلها الذين شكلوا بالنسبة له طاقة إلهام ربانية، مثل ربانية مدينته التي يعشقها والتي كانت تتبعه في كل مكان أينما ذهب، بالرغم من أنها لم تشبع أبداً من وضعه في تجارب قاسية وغيرها ساحرة، كان يقول قسطنطينوس، لكنه كان يكتب أكثر.
في أحيان كثيرة كانت تطارده بإلحاح فكرة غريبة وهي أن هذه المدينة تؤول له. هو وحده يجب أن يعشقها، يتغني بها، يُخَلّدُها وفي نفس الوقت يلومها، يوبخها وينتقدها ويلعنها. أن يناجيها ويمجدها أيضًا، أن يطلق عليها سهام غضبه وفي نفس الوقت أن يكن لها حبا جما غير مشروط بلا حدود.
الإسكندرية!
تأمله العميق عاد به إلي ذكري قديمة، حادثة ما -قبل بضعة سنوات تقارب العشر سنوات أو أكثر، عندما كانت الحياة تجري في مياه نشواها المألوفة- حوار مع ذلك الصديق. حديث عابر بسيط لكنه منذ تلك اللحظة ستتغير تماماً طاقة العلاقة بينهما وليس فقط، بل علاقته هو نفسه بالمدينة.
كان قسطنطينوس يجلس في البلكونة الصغيرة التي تطل علي الجانب الخلفي للشارع ويشرب قهوته عندما وصل الآخر في هدوء وصمت ودون أن ينطق بكلمة، وضع علي ركبتيه ذلك المخطوط الضخم الذي كان بيديه بورع شديد. وضعه بحرص شديد كما لو كان يضع طفلاً لقيطا أمام والديه بالتبني وينتظر بلهفة لحظة التجاوب والقبول.
بعد لحظاتٍ عندما لم يتلق أي رد فعل من جانبه، علي الرغم من نظرة تساؤل عابرة، شرح له صديقه بينما غطت وجهه ابتسامة عريضة متفاخرة.. ابتسامة كان يعاني من ترويضها وإخفائها منذ أن دخل الحجرة اقتحم عزلته وهدوء الآخر. »الإسكندرية، يا قسطنطين!»‬ قالها صائحًا، تقريبًا.. لفظ اسم المدينة ضايقه آنذاك. كما كان يضايقه يقين وحماس صديقه، لكن أكثر ما ضايقه هو تعبير النصر لدي الرجل:
»‬الإسكندرية! أخيرًا انتهي الكتاب».
رفع عينيه وراقبه بحرص، دون أن ينطق بكلمة. راح يتفحص وجهه كأنما أراد أن يقرأ أكثر مما نطقت به الابتسامة المنفرة والعينين الزرقاوين للبريطاني البارد.
وضع جسده وتعبيره كانوا يذكرانه بطفل صغير يستعرض أمام صديقه شيء جديد لامع اقتناه لتوه بشيء من الخجل وامتنان صامت يلمس حدود الانتصار.
عندما عبر أخيرًا قسطنطينوس بإيماءة باهتة عن تساؤله بلا مبالاة، استمر الآخر بنفس روح الانتصار ممزوجة بحيوية غريبة بالنسبة لعمره: »‬حتي الآن لا أستطيع أن أصدق أنني نجحت بالفعل في أن أكمله».
لم يتكلم قسطنطينوس فاستمر الآخر: »‬سأود أن تلقي عليه نظرة يا قسطنطينوس، فكما تعلم، رأيك هام جدًا بالنسبة لي».
لم يجب مباشرة. ترك بضعة لحظات تمر وهو يراقب نفاذ صبر الآخر أمامه ثم نطق أخيرًا، قال له بنبرة محايدة: »‬سألقي عليه نظرة بهدوء. عندما تسنح لي فرصة».
مازال يتذكر مفاجأة الآخر كما لو كانت بالأمس. حتي أنه لا يزال يتذكر ما الذي أراد أن يقوله حقًا، والآن أخرج من هنا حتي أشرب قهوتي في هدوء، أو إذا لم يشأ، لم يستطع أن يراه يقف هناك بهذا التعبير الذي يعبر عن مفاجأة وإحباط صريحين، وعندما نفذ صبره تمامًا، ترك الرجل المخطوط علي الطاولة بينما استمر الآخر في شرب فنجان قهوته بهدوء معذب.
غياب الحماس الواضح من جانب صديقه سبب له اضطرابا واضحا. بدا وكأن مجيئه لم يحدث، ولم يره يقف أمامه بقلق ولهفة كالمسكين لمجرد كلمة مشجعة. شعر قسطنطينوس بشيء من الرضا مدركاً تضايقه، بالرغم من أنه نجح في ترويض الفضول المفاجئ الموجز الذي اكتنفه للحظات. في واقع الأمر فعل كل ما في وسعه محاولاً ألاَّ يظهر أي شعور علي الإطلاق، حتي شعر الإنجليزي بالضجر من صمته، وغادر بيته، ملقيًا ناحيته إيماءة سريعة وباردة نوعاً.
حينها استطاع قسطنطينوس أن يتصفح المخطوط بأيادٍ مرتعشة بالفعل.
الكتاب، وإن كان يتقرب من النصوص التاريخية وكتابات السفر، إلا أنه لم يترك لدي قسطنينوس أي شك أنه كان كتابًا رائعاً. فلم يترك أي ناحية تاريخية تخص الإسكندرية بلا بحث وتحقيق. فتطرق الرجل إلي كل مراحل الإسكندرية التاريخية خلال الثلاثة ألاف سنة منذ تأسيسها. خلدها كما لم يفعل أي كاتب آخر حتي الآن. كل عصر، كل العصور، لكنه ركز بشكل رئيسي علي سلالات البطالمة وعلاقة الملكة كليوباترا بأنطونيو!
ما هذه الوقاحة! تمتم قائلًا ثم ندم علي ما قاله، وكأن ذلك العصر يؤول إليه وحده.
شعر بالغيرة تنمو بداخله عندما وصل إلي مشهد دخول الإسكندر الأكبر إلي المدينة. حينها القبضة التي شعر بها في صدره باتت واضحة. لم يكن الكتاب فقط رائعًا، بل كان الإنجليزي فريدًا، إلا فيما يخص سعيه وراء الخلود بإيماءة ماكرة، فاسمه سيظل مرتبطًا بهذه المدينة للأبد!
لم يعر الفصل الذي يشير إليه أي انتباه. في واقع الأمر، تجاوزه دون قراءة، دون أن يلقي نظرة وحيدة. ماذا يريد الراجل بزج اسمي في كتاب كهذا. لا. لم يهتم بهذا الشيء علي الإطلاق.
إشاراته إلي الآثار التاريخية للإسكندرية لم تكن فقط مكتوبة بروعة، لكنها كانت مرتبطة بتاريخ المدينة بشكل كبير، بنواتها، بماضيها وحاضرها، بتفصيل ملحمي بديع!
انبهر قسطنطينوس. الرحلة التي يقدمها الرجل للمتلقي كانت رائعة وفريدة، كانت رحلة تبدأ من المركز من ميدان القناصل وتمثال محمد علي، حيث حوله صديقه إلي نقطه انطلاق وإشارة لتاريخه، بينما وصف الشوارع يا لها من مراوغة ماهرة كل منها مرتبط بفرع جديد للجغرافيا البشرية وتاريخها. وكانت هناك خرائط ورسومات وصور وتعليقات لا تحصي. الإنجليزي الملعون نجح في المستحيل وفي وقت قياسي.
منذ تلك اللحظة، اهتزت صداقتهما وتزعزعت عن مكانتها وحلت محلها الغيرة والتنافسية. التفكير في هذا الكتاب كان يعذبه. عشر سنوات يتعذب، كما كان يعذبه منظر الرجل وتعبير وجهه آنذاك، كما لو كان ينظر إليه من مكان عالٍ ويضع انتصاره عليه بين يديه.
لم يستطع أبدًا أن يمحو تلك الصورة عن ذاكرته، ذلك التعبير المفعم بالتباهي والانتصار، هي نفس الصورة والحالة عندما كشف له عن علاقته بذلك الشاب الجميل، الذي كان يعمل في شركة الترام. حينها أيضًا أخذت الغيرة تزحف بداخله كالدودة وتنخر أحشاءه، كانت تأكله ببطء وتعذبه والأسوأ هو أنه لم ينتبه أبداً إلي سببها الحقيقي.
فكر مرات عديدة في البداية علي الأقل أن يحبط نجاح الرجل. لو أقنعه بأنه لن يستطيع أن ينشره؟ لو استطاع أن يخبئ المخطوط أو يخفيه وكأنه لم يكن؟
لكن تلك الحزمة من المهارات والألاعيب لم تكن من هباته.
في أحيان كثيرة، كان يفكر في كل تلك النظريات عن انتقال المعني في لعبة العلاقات الإنسانية والنظرية الأخري للسيد الأكبر، وبخفة ومهارة لاعب الأوراق يحرك بقية اللاعبين حتي أنه يوجه اختياراتهم. كرب متحكم! لكن عبقريته في هذا النوع من الألعاب كانت تخونه دومًا. وهكذا ظل شغفه الخامل الباهت الانهزامي بلا شبع للأبد. نعم، كانت هي الحقيقة. فلم يستطع أبداً أن يتخلص من مشاعر الإعجاب والانبهار والغيرة في نفس الوقت التي كانت تعذبه آنذاك وربما لسنوات كثيرة فيما بعد.
كان يشعر بالعار تجاه هذا الشعور المتدني المذموم نحو صديقه، لكنه لم يستطع أبدًا أن يسيطر عليه. حتي اليوم، حتي تلك اللحظة التي خبره فيه الطبيب المنفر خريستوفورس باباستيفانوس بالخطر الذي يهدد حياته، وأنه لو صدقت شكوكه فآجلًا أو عاجلًا سيكون صريع الضعف والعجز.
ابتسم قسطنطيوس بتهكم ومرارة لهذه الذكري التي بدت له بعيدة جدًا والأبرز أنها بدت تافهة. في واقع الأمر كل ما كان يعذبه في الماضي من أشخاص وأشياء باتت فجأة صغيرة وضيعة وتافهة، الآن بعدما انقلب كل شيء في حياته رأسًا علي عقب وصارت حياته معلقة بخيط هش رفيع علي وشك الانقطاع في أي لحظة.
لم يكن يعرف بالتحديد كيف ستتطور حالته من الآن فصاعدًا. أمر واحد هو المؤكد، لم يكن مستعدًا أن يودع هذه المدينة للأبد، عروس البحر الجميلة، التي تغنوا بها آلاف المرات. مدينته، التي وإن كانت قد جرحته وخانته مرات عديدة، وإن كان قد عاني الكثير كي يهجرها، كان دائم العودة إليها، هي فقط. فقد كانت تتبعه دائمًا وأبدًا، أينما ذهب، وفي كل المرات التي كان يبحث فيها عن مدينة أفضل، لم يجدها أبدًا في أي مكان آخر.
متعباً، استمر في السير ببطء بطول الرصيف. بينما كان يقترب من البناية البيضاء المهيبة للجمعية الملكية حيث كان يذهب في بعض أيام الآحاد مع قليل من أصدقائه وبالأخص مع نيكولاس فافياذيس في الإسكندرية كان يتجنب الحديث إلي الرجال ذوي الملابس الفاخرة الذين كان يقفون عند المدخل يثرثرون فيما بينهم بحيوية. كان يمر بجوارهم دون أن ينظر إليهم، كي لا يتورط في أي حوارات تافهة.
لم يكن لديه مزاج أو رغبة في إلقاء التحية التي ربما تقود إلي فتح حوارات بلا معني معهم، وبالأخص لم تكن لديه الهمة ولا الشجاعة أن ينخرط معهم في أحاديثهم عن الأوضاع السياسية الجارية في مصر ونظيرتها في اليونان. فكان لديهم رأي عن كل شيء، ويتحدثون بثقة متناهية، كم كان يرهقه ذلك اليقين آنذاك.
فكيف سيتفاعل معه الآن!
منذ فترة كان يشعر في أعماقه بتعب شديد لا ينبع فقط من مرضه. في الشهور الأخيرة كان إيقاعه البيولوجي وطريقته في إمضاء الوقت و بطء ردود أفعاله في أغلب الأمور كانت ترسم ملامح شخصً يجنح نحو الصمت بدلاً من الانخراط في عالم كان يؤمن أنه لم يفهمه أبدًا. نعم، لم يكن بحاجة إلي التورط في أحاديث تافهة.
هكذا، أسرع في خطوته وعندما وصل إلي التقاطع عبر بسرعة إلي الجهة المقابلة. سريعًا وجد نفسه في شارع سيزوستريس التجاري. في الحقيقة لم يتذكر كيف وجد نفسه هنا أو أي شارع قطع حتي يصل إلي هناك. كأن كل هذا حدث في فجوة من الزمن.
راح يسير ببطء تاركاً خلفه الفيلات الأرستقراطية والمتاجر الفاخرة لليونانيين والأجانب من الجاليات الأخري في الإسكندرية بنوافذها الفينتسية الطراز وبضائعها التي تجذب كل المارة، وبعد ذلك مباشرة عبر محلات الحلوي الكبيرة ذات النوافذ المقوسة.
في إحداها، كان قد جلس ذات مرة مع شاب وصحافي واعد منذ فترة، كان قد سكن في هذا الشارع لفترة وجيزة في حياته. كان قد وعده أنه سوف يقابله في زيارته القادمة، لكن يبدو أن الشاب لم يوف بوعده ولم يكن قسطنطينوس يعرف أنه سيقبل أن يقابله مرة أرخي. كان شابًا يافعًا، لكنه كان يمتلك جرأة وكاريزما تجذب الشباب حوله عندما يتحدث. هؤلاء الذين يعتقدون أنهم يمتلكون الحياة بين أيديهم، وأن كل شيء في الحياة يدور حول ما يريدونه، ولكن.
توقف، لم يكن لازماً أن يستسلم للغضب والمرارة، الآن لديه أمورً أهم عليه أن يواجهها.
عاد به تفكيره مرة أخري إلي كلمات الطبيب بابا ستيفانو، »‬الحياة دائمًا تفاجئنا»، وكان محقاً فيما قاله.
ربما إذن، لا يجب أن ييأس، لن يستسلم بهذه السهولة، لن يقع في فخ الخوف والانهزام. سيقاتل، لم تكن هذه هي المرة الأولي التي يواجه فيها تحديات وصعابا في حياته. ولم يستنفذ كل ما لديه من قوي بعد. سيغادر علي الفور إلي أثينا، سيبدأ بالفعل غداً أن يجهز أوراق سفره.
لا، لا، لن يحتمل الأمر أي تأجيل آخر. فلم يحسم شيء بعد، ولم ينتهي شيء بعد.
الآن ابتعد كثيرًا عن الكارتييه الأوربي، اقترب من حي العطارين حيث حانات الأنس وبيوت البغاء، هناك حيث يتردد عشاق الحياة، هناك حيث ينتمي.
الخيول الجميلة التي كانت قبل قليل تجر العربات ذات الأغطية الجلدية وتتبختر علي الشارع بجواره، تخلت عنه تغوص في أعماق الأزقة، بدأت رائحة البحر تختفي شيئاً فشيئاً، وعفونة الشوارع الضيقة التي لا تراها الشمس تتهادي نحو أنفه.
مكانها لعربات الكارو التي تجرها حمير جربة، لكنها مغطاة بخرق حمراء، وأخري بألوان فاقعة.
كان يعشق هذا الطريق، لم يكن يمَلُّه أبداً، وفي كل مرة كان يتأثر به بشكل مختلف عن المرة السابقة، كما لو كانت المرة الأولي التي يقوم فيها بهذه التمشية. بعد أن تجاوز الأحياء الأرستقراطية ومنازل الأثرياء والفيلات والقصور، وصل إلي أزقة معبدة شوارعها بالحجارة تنبسط كدروب ثعبانية وتشكل متاهة رائعة تصيب بالسُكر والدوار في الحي الشعبي حتي يصل إلي محلاته الشعبية.
راح يفكر وهو يقطع هذا الطريق أن المرء الذي يقطع نفس الطريق لسنوات طويلة، يكتسب علاقة مختلفة معه، ومع نفس معني المسافة التي يحددها. الإحساس هذا يتغير في كل مرة، كي يتحمل التكرار مرات ومرات.
الشيء ذاته يحدث مع الزمن وظروف الحياة. تقطع مشوار حياتك، نفس طريق العشق مثلاً، تتغير المعاني مثلما تتغير الوجوه المتورطة فيه وبالتالي تتبدل وتكتسب إحساسًا وجوهرًا جديدًا في كل مرة، فقط من أجل أن يحصل المرء علي إحساس مزيف، أن يخدع ذاته، بأنه كل مرة، كانت هي المرة الأولي.
عبر مربع أزقة آخر. كان الهدوء يهيمن عليه، خشونة الأرض واضحة، تسيطر عليه الروائح، مثلمًا يحدث دائماً.
لم يدرك الوقت الذي استغرقه في السير، لكنه أدرك أن الظلام بدأ يحل وأن الشمس الساطعة قد بدأت إجراءات الانسحاب وسلكت طريقها نحو الغروب. وبينما كانت تجرجر أشعتها الأرجوانية من فوق الجدران المتصدعة للبيوت المنخفضة في الزقاق الضيق الذي انتهي إليه الرجل، بسط الغروب بدوره غطاءه الداكن وشق في المكان ألوانًا جديدة وإحساسًا غريباً يقترب من الغموض، فسره هو بالموت.
ولكن، لو تغاضي المرء عن الحزن والذبول والانهيار الذي يعتري المباني المجاورة، كان المشهد ساحراً للغاية، كان يشبه لوحة فنية، عمَّقَ الزمن وعدم الاعتناء شقوق قماشها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.