نشرة أخبار ال«توك شو» من المصري اليوم.. نقيب المحامين: أي زيادة على الرسوم القضائية يجب أن تتم بصدور قانون.. شرطان لتطبيق الدعم النقدي.. وزير التموين يكشف التفاصيل    رغم التوترات.. باكستان والهند تقيمان اتصالا على مستوى وكالة الأمن القومى    أحمد الشرع يطلب لقاء ترامب.. وصحيفة أمريكية: على غرار خطة «مارشال»    تشكيل الأهلي المتوقع ضد المصري البورسعيدي في الدوري.. وسام أبو علي يقود الهجوم    3 ساعات «فارقة».. تحذير شديد بشأن حالة الطقس ودرجات الحرارة: «احذروا الطرق»    تعرف على ملخص احداث مسلسل «آسر» الحلقة 28    إعلام إسرائيلي: تل أبيب وواشنطن تسعيان لإقناع الأمم المتحدة بالمشاركة في خطة إسرائيل لغزة    تفاصيل إطلاق كوريا الشمالية عدة صواريخ اتجاه بحر الشرق    بحضور نواب البرلمان.. «الاتحاد» ينظم حلقة نقاشية موسعة حول الإيجار القديم| صور    ميدو يكشف موقف الزمالك حال عدم تطبيق عقوبة الأهلي كاملة    إكرامي: عصام الحضري جامد على نفسه.. ومكنش يقدر يقعدني    اليوم.. «محامين المنيا» تعلن الإضراب عن محاكم الاستئناف رفضًا لرسوم التقاضي    تفاصيل خطة التعليم الجديدة لعام 2025/2026.. مواعيد الدراسة وتطوير المناهج وتوسيع التعليم الفني    «التعليم» تحسم مصير الطلاب المتغيبين عن امتحانات أولى وثانية ثانوي.. امتحان تكميلي رسمي خلال الثانوية العامة    سعر الذهب في مصر اليوم الخميس 8-5-2025 مع بداية التعاملات    خبى عليا وعرض نفسه للخطر، المخرج خالد يوسف يكشف عن مشهد لا ينسي ل خالد صالح (فيديو)    سبب إلزام النساء بارتداء الحجاب دون الرجال.. أمين الفتوى يوضح    قاض أمريكي يمنع ترحيل مهاجرين إلى ليبيا دون منحهم فرصة للطعن القضائي    "اغتيال معنوي لأبناء النادي".. كيف تعامل نجوم الزمالك مع اختيار أيمن الرمادي؟    ارتفاع الأسهم الأمريكية في يوم متقلب بعد تحذيرات مجلس الاحتياط من التضخم والبطالة    هدنة روسيا أحادية الجانب تدخل حيز التنفيذ    محمد ياسين يكتب: وعمل إيه فينا الترند!    بنك التنمية الجديد يدرس تمويل مشروعات في مصر    إطلاق موقع «بوصلة» مشروع تخرج طلاب قسم الإعلام الإلكتروني ب «إعلام جنوب الوادي»    قبل ضياع مستقبله، تطور يغير مجرى قضية واقعة اعتداء معلم على طفلة داخل مدرسة بالدقهلية    نشرة حوادث القليوبية| شاب يشرع في قتل شقيقته بسبب السحر.. ونفوق 12 رأس ماشية في حريق    رسميًا.. جداول امتحانات الفصل الدراسي الثاني 2025 بالمنيا    السفارة المصرية بالتشيك تقيم حفل استقبال رسمي للبابا تواضروس    الدولار ب50.59 جنيه.. سعر العملات الأجنبية اليوم الخميس 8-5-2025    مستشار الرئيس الفلسطيني يرد على الخلاف بين محمود عباس وشيخ الأزهر    خبر في الجول - أشرف داري يشارك في جزء من تدريبات الأهلي الجماعية    نقيب المحامين: زيادة رسوم التقاضي مخالفة للدستور ومجلس النواب صاحب القرار    إعلام حكومة غزة: نرفض مخططات الاحتلال إنشاء مخيمات عزل قسري    بوسي شلبي ردًا على ورثة محمود عبدالعزيز: المرحوم لم يخالف الشريعة الإسلامية أو القانون    أسفر عن إصابة 17 شخصاً.. التفاصيل الكاملة لحادث الطريق الدائري بالسلام    لا حاجة للتخدير.. باحثة توضح استخدامات الليزر في علاجات الأسنان المختلفة    مدير مستشفى بأسوان يكشف تفاصيل محاولة التعدي على الأطباء والتمريض - صور    واقعة تلميذ حدائق القبة.. 7 علامات شائعة قد تشير لإصابة طفلك بمرض السكري    عودة أكرم وغياب الساعي.. قائمة الأهلي لمباراة المصري بالدوري    رسميًا خلال أيام.. موعد صرف مرتبات شهر مايو 2025 بعد قرار وزارة المالية (احسب قبضك)    قبل الإعلان الرسمي.. لجنة الاستئناف تكتفي باعتبار الأهلي مهزوم أمام الزمالك فقط (خاص)    بيولي ل في الجول: الإقصاء الآسيوي كان مؤلما.. وأتحمل مسؤولية ما حدث أمام الاتحاد    الأكثر مشاهدة على WATCH IT    «لعبة الحبّار».. يقترب من النهاية    أحد أبطال منتخب الجودو: الحفاظ على لقب بطولة إفريقيا أصعب من تحقيقه    حدث بالفن| عزاء حماة محمد السبكي وأزمة بين أسرة محمود عبدالعزيز وطليقته    سحب 116 عينة من 42 محطة وقود للتأكد من عدم «غش البنزين»    تفاصيل اعتداء معلم على تلميذه في مدرسة نبروه وتعليم الدقهلية يتخذ قرارات عاجلة    بلاغ للنائب العام يتهم الفنانة جوري بكر بازدراء الأديان    تحرك جديد من المحامين بشأن أزمة الرسوم القضائية - تفاصيل    "الرعاية الصحية": تقديم الخدمة ل 6 مليون مواطن عن منظومة التأمين الصحي الشامل    أخبار × 24 ساعة.. التموين: شوادر لتوفير الخراف الحية واللحوم بدءا من 20 مايو    صحة الشرقية تحتفل باليوم العالمي لنظافة الأيدي بالمستشفيات    عمرو الورداني يقدّم روشتة نبوية لتوسعة الخُلق والتخلص من العصبية    المحامين": النقاش لا يزال مفتوحًا مع الدولة بشأن رسوم التقاضي    أمين الفتوى: مفهوم الحجاب يشمل الرجل وليس مقصورًا على المرأة فقط    خالد الجندى: الاحتمال وعدم الجزم من أداب القرآن ونحتاجه فى زمننا    وائل غنيم في رسالة مطولة على فيسبوك: دخلت في عزلة لإصلاح نفسي وتوقفت عن تعاطي المخدرات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قسطنطين كفافيس

خرج من مدخل البناية الفخمة ذات الطراز الإيطالي، حيث توجد العيادة الفخمة أيضاً للطبيب باباستيفانو، مع عيادتين أخريين شهيرتين في المنطقة، في شارع فؤاد الأرستقراطي، المزدحم بفيلاته الأنيقة ومحلات الأنتيكة الشهيرة. تنهد قسطنطينوس بعمق كما لو أراد أن يُخرج من صدره ثقل كبير. لكي يتفادي فضول بعض المعارف في الطريق كانوا علي الجانب المقابل من الشارع. ألقي عيناه علي رصيف الطريق الذي ظل ساخناً بالرغم من نسمات الربيع التي تداعبه في الظهيرة فقد كانت الشمس ساطعة فشعر قسطنطينوس بحرارتها تنعكس علي وجهه.
أجراس بعض الكنائس كانت تصدح من بعيد معلنة بإيقاعها الحزين بدء أسبوع الآلام، وحزنه. صدي كلمات الطبيب لا يزال يطن في أذنيه كالنحل، لكن لا يجب أن ييأس، راح يفكر. لم يتحدد شيء بعد. ربما، لو ذهب إلي أثينا من أجل تشخيص جديد؛ ربما يجب أن يخضع إلي اختبارات أخري. نعم، لن يستسلم بسهولة أبداً. لابد أن يقاوم.
لكن ماذا لو لم يستطع؟ ماذا لو أن حالته ستجبره أن يظل هناك؟ هل سيستطيع، ربما يحتاج الأمر أن يترك الإسكندرية للأبد. الفكرة وحدها أربكت كيانه.
لا، لم يستطع أبداً أن يتخيل حياته بعيداً عن هذه المدينة، ولا أن هذه المدينة التي أثرت فيه وشكلت وجدانه أكثر من أي مكان آخر. التفكير في المدينة اجتاحه كفيضان، بينما الأفكار السلبية عن مرضه، اللعنة التي حلت عليه فجأة، أثقلت خطواته أكثر فأكثر، كان من بعيد يبدو وكأنه رجل يحمل علي كتفيه ما يفوق قواه.
كان واثقاً من أمر واحد، وهو أنه لو رحل عن هنا، عن هذه المدينة، حتي وإن لم يرها مرة أخري أبدًا، ستستمر الحياة في مسيرتها بالمدينة بقصصها الصغيرة والكبيرة لأهلها الذين شكلوا بالنسبة له طاقة إلهام ربانية، مثل ربانية مدينته التي يعشقها والتي كانت تتبعه في كل مكان أينما ذهب، بالرغم من أنها لم تشبع أبداً من وضعه في تجارب قاسية وغيرها ساحرة، كان يقول قسطنطينوس، لكنه كان يكتب أكثر.
في أحيان كثيرة كانت تطارده بإلحاح فكرة غريبة وهي أن هذه المدينة تؤول له. هو وحده يجب أن يعشقها، يتغني بها، يُخَلّدُها وفي نفس الوقت يلومها، يوبخها وينتقدها ويلعنها. أن يناجيها ويمجدها أيضًا، أن يطلق عليها سهام غضبه وفي نفس الوقت أن يكن لها حبا جما غير مشروط بلا حدود.
الإسكندرية!
تأمله العميق عاد به إلي ذكري قديمة، حادثة ما -قبل بضعة سنوات تقارب العشر سنوات أو أكثر، عندما كانت الحياة تجري في مياه نشواها المألوفة- حوار مع ذلك الصديق. حديث عابر بسيط لكنه منذ تلك اللحظة ستتغير تماماً طاقة العلاقة بينهما وليس فقط، بل علاقته هو نفسه بالمدينة.
كان قسطنطينوس يجلس في البلكونة الصغيرة التي تطل علي الجانب الخلفي للشارع ويشرب قهوته عندما وصل الآخر في هدوء وصمت ودون أن ينطق بكلمة، وضع علي ركبتيه ذلك المخطوط الضخم الذي كان بيديه بورع شديد. وضعه بحرص شديد كما لو كان يضع طفلاً لقيطا أمام والديه بالتبني وينتظر بلهفة لحظة التجاوب والقبول.
بعد لحظاتٍ عندما لم يتلق أي رد فعل من جانبه، علي الرغم من نظرة تساؤل عابرة، شرح له صديقه بينما غطت وجهه ابتسامة عريضة متفاخرة.. ابتسامة كان يعاني من ترويضها وإخفائها منذ أن دخل الحجرة اقتحم عزلته وهدوء الآخر. »الإسكندرية، يا قسطنطين!»‬ قالها صائحًا، تقريبًا.. لفظ اسم المدينة ضايقه آنذاك. كما كان يضايقه يقين وحماس صديقه، لكن أكثر ما ضايقه هو تعبير النصر لدي الرجل:
»‬الإسكندرية! أخيرًا انتهي الكتاب».
رفع عينيه وراقبه بحرص، دون أن ينطق بكلمة. راح يتفحص وجهه كأنما أراد أن يقرأ أكثر مما نطقت به الابتسامة المنفرة والعينين الزرقاوين للبريطاني البارد.
وضع جسده وتعبيره كانوا يذكرانه بطفل صغير يستعرض أمام صديقه شيء جديد لامع اقتناه لتوه بشيء من الخجل وامتنان صامت يلمس حدود الانتصار.
عندما عبر أخيرًا قسطنطينوس بإيماءة باهتة عن تساؤله بلا مبالاة، استمر الآخر بنفس روح الانتصار ممزوجة بحيوية غريبة بالنسبة لعمره: »‬حتي الآن لا أستطيع أن أصدق أنني نجحت بالفعل في أن أكمله».
لم يتكلم قسطنطينوس فاستمر الآخر: »‬سأود أن تلقي عليه نظرة يا قسطنطينوس، فكما تعلم، رأيك هام جدًا بالنسبة لي».
لم يجب مباشرة. ترك بضعة لحظات تمر وهو يراقب نفاذ صبر الآخر أمامه ثم نطق أخيرًا، قال له بنبرة محايدة: »‬سألقي عليه نظرة بهدوء. عندما تسنح لي فرصة».
مازال يتذكر مفاجأة الآخر كما لو كانت بالأمس. حتي أنه لا يزال يتذكر ما الذي أراد أن يقوله حقًا، والآن أخرج من هنا حتي أشرب قهوتي في هدوء، أو إذا لم يشأ، لم يستطع أن يراه يقف هناك بهذا التعبير الذي يعبر عن مفاجأة وإحباط صريحين، وعندما نفذ صبره تمامًا، ترك الرجل المخطوط علي الطاولة بينما استمر الآخر في شرب فنجان قهوته بهدوء معذب.
غياب الحماس الواضح من جانب صديقه سبب له اضطرابا واضحا. بدا وكأن مجيئه لم يحدث، ولم يره يقف أمامه بقلق ولهفة كالمسكين لمجرد كلمة مشجعة. شعر قسطنطينوس بشيء من الرضا مدركاً تضايقه، بالرغم من أنه نجح في ترويض الفضول المفاجئ الموجز الذي اكتنفه للحظات. في واقع الأمر فعل كل ما في وسعه محاولاً ألاَّ يظهر أي شعور علي الإطلاق، حتي شعر الإنجليزي بالضجر من صمته، وغادر بيته، ملقيًا ناحيته إيماءة سريعة وباردة نوعاً.
حينها استطاع قسطنطينوس أن يتصفح المخطوط بأيادٍ مرتعشة بالفعل.
الكتاب، وإن كان يتقرب من النصوص التاريخية وكتابات السفر، إلا أنه لم يترك لدي قسطنينوس أي شك أنه كان كتابًا رائعاً. فلم يترك أي ناحية تاريخية تخص الإسكندرية بلا بحث وتحقيق. فتطرق الرجل إلي كل مراحل الإسكندرية التاريخية خلال الثلاثة ألاف سنة منذ تأسيسها. خلدها كما لم يفعل أي كاتب آخر حتي الآن. كل عصر، كل العصور، لكنه ركز بشكل رئيسي علي سلالات البطالمة وعلاقة الملكة كليوباترا بأنطونيو!
ما هذه الوقاحة! تمتم قائلًا ثم ندم علي ما قاله، وكأن ذلك العصر يؤول إليه وحده.
شعر بالغيرة تنمو بداخله عندما وصل إلي مشهد دخول الإسكندر الأكبر إلي المدينة. حينها القبضة التي شعر بها في صدره باتت واضحة. لم يكن الكتاب فقط رائعًا، بل كان الإنجليزي فريدًا، إلا فيما يخص سعيه وراء الخلود بإيماءة ماكرة، فاسمه سيظل مرتبطًا بهذه المدينة للأبد!
لم يعر الفصل الذي يشير إليه أي انتباه. في واقع الأمر، تجاوزه دون قراءة، دون أن يلقي نظرة وحيدة. ماذا يريد الراجل بزج اسمي في كتاب كهذا. لا. لم يهتم بهذا الشيء علي الإطلاق.
إشاراته إلي الآثار التاريخية للإسكندرية لم تكن فقط مكتوبة بروعة، لكنها كانت مرتبطة بتاريخ المدينة بشكل كبير، بنواتها، بماضيها وحاضرها، بتفصيل ملحمي بديع!
انبهر قسطنطينوس. الرحلة التي يقدمها الرجل للمتلقي كانت رائعة وفريدة، كانت رحلة تبدأ من المركز من ميدان القناصل وتمثال محمد علي، حيث حوله صديقه إلي نقطه انطلاق وإشارة لتاريخه، بينما وصف الشوارع يا لها من مراوغة ماهرة كل منها مرتبط بفرع جديد للجغرافيا البشرية وتاريخها. وكانت هناك خرائط ورسومات وصور وتعليقات لا تحصي. الإنجليزي الملعون نجح في المستحيل وفي وقت قياسي.
منذ تلك اللحظة، اهتزت صداقتهما وتزعزعت عن مكانتها وحلت محلها الغيرة والتنافسية. التفكير في هذا الكتاب كان يعذبه. عشر سنوات يتعذب، كما كان يعذبه منظر الرجل وتعبير وجهه آنذاك، كما لو كان ينظر إليه من مكان عالٍ ويضع انتصاره عليه بين يديه.
لم يستطع أبدًا أن يمحو تلك الصورة عن ذاكرته، ذلك التعبير المفعم بالتباهي والانتصار، هي نفس الصورة والحالة عندما كشف له عن علاقته بذلك الشاب الجميل، الذي كان يعمل في شركة الترام. حينها أيضًا أخذت الغيرة تزحف بداخله كالدودة وتنخر أحشاءه، كانت تأكله ببطء وتعذبه والأسوأ هو أنه لم ينتبه أبداً إلي سببها الحقيقي.
فكر مرات عديدة في البداية علي الأقل أن يحبط نجاح الرجل. لو أقنعه بأنه لن يستطيع أن ينشره؟ لو استطاع أن يخبئ المخطوط أو يخفيه وكأنه لم يكن؟
لكن تلك الحزمة من المهارات والألاعيب لم تكن من هباته.
في أحيان كثيرة، كان يفكر في كل تلك النظريات عن انتقال المعني في لعبة العلاقات الإنسانية والنظرية الأخري للسيد الأكبر، وبخفة ومهارة لاعب الأوراق يحرك بقية اللاعبين حتي أنه يوجه اختياراتهم. كرب متحكم! لكن عبقريته في هذا النوع من الألعاب كانت تخونه دومًا. وهكذا ظل شغفه الخامل الباهت الانهزامي بلا شبع للأبد. نعم، كانت هي الحقيقة. فلم يستطع أبداً أن يتخلص من مشاعر الإعجاب والانبهار والغيرة في نفس الوقت التي كانت تعذبه آنذاك وربما لسنوات كثيرة فيما بعد.
كان يشعر بالعار تجاه هذا الشعور المتدني المذموم نحو صديقه، لكنه لم يستطع أبدًا أن يسيطر عليه. حتي اليوم، حتي تلك اللحظة التي خبره فيه الطبيب المنفر خريستوفورس باباستيفانوس بالخطر الذي يهدد حياته، وأنه لو صدقت شكوكه فآجلًا أو عاجلًا سيكون صريع الضعف والعجز.
ابتسم قسطنطيوس بتهكم ومرارة لهذه الذكري التي بدت له بعيدة جدًا والأبرز أنها بدت تافهة. في واقع الأمر كل ما كان يعذبه في الماضي من أشخاص وأشياء باتت فجأة صغيرة وضيعة وتافهة، الآن بعدما انقلب كل شيء في حياته رأسًا علي عقب وصارت حياته معلقة بخيط هش رفيع علي وشك الانقطاع في أي لحظة.
لم يكن يعرف بالتحديد كيف ستتطور حالته من الآن فصاعدًا. أمر واحد هو المؤكد، لم يكن مستعدًا أن يودع هذه المدينة للأبد، عروس البحر الجميلة، التي تغنوا بها آلاف المرات. مدينته، التي وإن كانت قد جرحته وخانته مرات عديدة، وإن كان قد عاني الكثير كي يهجرها، كان دائم العودة إليها، هي فقط. فقد كانت تتبعه دائمًا وأبدًا، أينما ذهب، وفي كل المرات التي كان يبحث فيها عن مدينة أفضل، لم يجدها أبدًا في أي مكان آخر.
متعباً، استمر في السير ببطء بطول الرصيف. بينما كان يقترب من البناية البيضاء المهيبة للجمعية الملكية حيث كان يذهب في بعض أيام الآحاد مع قليل من أصدقائه وبالأخص مع نيكولاس فافياذيس في الإسكندرية كان يتجنب الحديث إلي الرجال ذوي الملابس الفاخرة الذين كان يقفون عند المدخل يثرثرون فيما بينهم بحيوية. كان يمر بجوارهم دون أن ينظر إليهم، كي لا يتورط في أي حوارات تافهة.
لم يكن لديه مزاج أو رغبة في إلقاء التحية التي ربما تقود إلي فتح حوارات بلا معني معهم، وبالأخص لم تكن لديه الهمة ولا الشجاعة أن ينخرط معهم في أحاديثهم عن الأوضاع السياسية الجارية في مصر ونظيرتها في اليونان. فكان لديهم رأي عن كل شيء، ويتحدثون بثقة متناهية، كم كان يرهقه ذلك اليقين آنذاك.
فكيف سيتفاعل معه الآن!
منذ فترة كان يشعر في أعماقه بتعب شديد لا ينبع فقط من مرضه. في الشهور الأخيرة كان إيقاعه البيولوجي وطريقته في إمضاء الوقت و بطء ردود أفعاله في أغلب الأمور كانت ترسم ملامح شخصً يجنح نحو الصمت بدلاً من الانخراط في عالم كان يؤمن أنه لم يفهمه أبدًا. نعم، لم يكن بحاجة إلي التورط في أحاديث تافهة.
هكذا، أسرع في خطوته وعندما وصل إلي التقاطع عبر بسرعة إلي الجهة المقابلة. سريعًا وجد نفسه في شارع سيزوستريس التجاري. في الحقيقة لم يتذكر كيف وجد نفسه هنا أو أي شارع قطع حتي يصل إلي هناك. كأن كل هذا حدث في فجوة من الزمن.
راح يسير ببطء تاركاً خلفه الفيلات الأرستقراطية والمتاجر الفاخرة لليونانيين والأجانب من الجاليات الأخري في الإسكندرية بنوافذها الفينتسية الطراز وبضائعها التي تجذب كل المارة، وبعد ذلك مباشرة عبر محلات الحلوي الكبيرة ذات النوافذ المقوسة.
في إحداها، كان قد جلس ذات مرة مع شاب وصحافي واعد منذ فترة، كان قد سكن في هذا الشارع لفترة وجيزة في حياته. كان قد وعده أنه سوف يقابله في زيارته القادمة، لكن يبدو أن الشاب لم يوف بوعده ولم يكن قسطنطينوس يعرف أنه سيقبل أن يقابله مرة أرخي. كان شابًا يافعًا، لكنه كان يمتلك جرأة وكاريزما تجذب الشباب حوله عندما يتحدث. هؤلاء الذين يعتقدون أنهم يمتلكون الحياة بين أيديهم، وأن كل شيء في الحياة يدور حول ما يريدونه، ولكن.
توقف، لم يكن لازماً أن يستسلم للغضب والمرارة، الآن لديه أمورً أهم عليه أن يواجهها.
عاد به تفكيره مرة أخري إلي كلمات الطبيب بابا ستيفانو، »‬الحياة دائمًا تفاجئنا»، وكان محقاً فيما قاله.
ربما إذن، لا يجب أن ييأس، لن يستسلم بهذه السهولة، لن يقع في فخ الخوف والانهزام. سيقاتل، لم تكن هذه هي المرة الأولي التي يواجه فيها تحديات وصعابا في حياته. ولم يستنفذ كل ما لديه من قوي بعد. سيغادر علي الفور إلي أثينا، سيبدأ بالفعل غداً أن يجهز أوراق سفره.
لا، لا، لن يحتمل الأمر أي تأجيل آخر. فلم يحسم شيء بعد، ولم ينتهي شيء بعد.
الآن ابتعد كثيرًا عن الكارتييه الأوربي، اقترب من حي العطارين حيث حانات الأنس وبيوت البغاء، هناك حيث يتردد عشاق الحياة، هناك حيث ينتمي.
الخيول الجميلة التي كانت قبل قليل تجر العربات ذات الأغطية الجلدية وتتبختر علي الشارع بجواره، تخلت عنه تغوص في أعماق الأزقة، بدأت رائحة البحر تختفي شيئاً فشيئاً، وعفونة الشوارع الضيقة التي لا تراها الشمس تتهادي نحو أنفه.
مكانها لعربات الكارو التي تجرها حمير جربة، لكنها مغطاة بخرق حمراء، وأخري بألوان فاقعة.
كان يعشق هذا الطريق، لم يكن يمَلُّه أبداً، وفي كل مرة كان يتأثر به بشكل مختلف عن المرة السابقة، كما لو كانت المرة الأولي التي يقوم فيها بهذه التمشية. بعد أن تجاوز الأحياء الأرستقراطية ومنازل الأثرياء والفيلات والقصور، وصل إلي أزقة معبدة شوارعها بالحجارة تنبسط كدروب ثعبانية وتشكل متاهة رائعة تصيب بالسُكر والدوار في الحي الشعبي حتي يصل إلي محلاته الشعبية.
راح يفكر وهو يقطع هذا الطريق أن المرء الذي يقطع نفس الطريق لسنوات طويلة، يكتسب علاقة مختلفة معه، ومع نفس معني المسافة التي يحددها. الإحساس هذا يتغير في كل مرة، كي يتحمل التكرار مرات ومرات.
الشيء ذاته يحدث مع الزمن وظروف الحياة. تقطع مشوار حياتك، نفس طريق العشق مثلاً، تتغير المعاني مثلما تتغير الوجوه المتورطة فيه وبالتالي تتبدل وتكتسب إحساسًا وجوهرًا جديدًا في كل مرة، فقط من أجل أن يحصل المرء علي إحساس مزيف، أن يخدع ذاته، بأنه كل مرة، كانت هي المرة الأولي.
عبر مربع أزقة آخر. كان الهدوء يهيمن عليه، خشونة الأرض واضحة، تسيطر عليه الروائح، مثلمًا يحدث دائماً.
لم يدرك الوقت الذي استغرقه في السير، لكنه أدرك أن الظلام بدأ يحل وأن الشمس الساطعة قد بدأت إجراءات الانسحاب وسلكت طريقها نحو الغروب. وبينما كانت تجرجر أشعتها الأرجوانية من فوق الجدران المتصدعة للبيوت المنخفضة في الزقاق الضيق الذي انتهي إليه الرجل، بسط الغروب بدوره غطاءه الداكن وشق في المكان ألوانًا جديدة وإحساسًا غريباً يقترب من الغموض، فسره هو بالموت.
ولكن، لو تغاضي المرء عن الحزن والذبول والانهيار الذي يعتري المباني المجاورة، كان المشهد ساحراً للغاية، كان يشبه لوحة فنية، عمَّقَ الزمن وعدم الاعتناء شقوق قماشها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.