عندما تمر الأيام وتوغل في البعد ثم تتراكم سنوات طويلة وتخفي في ثناياها كل التفاصيل عن اشياء كنت أراها مشحونة بأحاسيس أليفة ومحببة ،تلك التي كانت تقبع في شوارع وسط المدينة ،حيث في كل زاوية وركن وما علي أرصفتها هناك انطباع انغرز في نفسي وصار له صورة محددة في مخيلتي.علي أن في ذلك الحين عشقت الأمساك بالقلم ووصف ما تهفو إليه نفسي. أبواب محلات، ولوحات إعلانيه في أشكال وأحجام ورسوم مختلفة والواح زجاج تشف من خلفها عن عالم خيالي ..كانت تلك الأشياء تنشر طاقة عجيبة بداخلي كلما كنت أتجول ثم أنتهي متعبا مجهدا علي كرسي من الخشب الرخيص بالمقهي، التي طالما احتوت أمسياتنا الممتدة في أكثر الأحيان حتي الصباح أو بالأدق حتي يبدأ تشغيل المترو لنعود إلي مساكننا. كنت في ذلك الحين طالبا في السنة النهائية بالجامعة عندما عرفت طريقي للسهر والجلوس بالمقاهي وخاصة تلك التي منزوية في شارع جانبي متفرع من ميدان »الأزهار».لم يكن طويلاً ممتدا ولكنه متسع بحيث كان يتميز برصيف متسع للمشاة كما يجد اصحاب المحلات راحة في عرض بضائعهم المختلفة،بينما يتخلل بلاطه القديم احواض كبيرة ،تنبثق منها جذوع أشجار »الفيكس» التي صارت ضخمة بمرور سنوات طويلة ،كما تلطخت أوراقها بالتراب والأوساخ الملتصقة .ومن بين كل تلك الأشجار كانت الشجرة التي علي الجانب الأيمن من باب المقهي التي تتميز بضخامة جذعها وأيضاً بكثرة أعشاش العصافير واليمام فوق فروعها المتداخلة.فقد كانت دائماً تنبهنا زقزقاتها المتواصلة بأن ضوء الصباح علي وشك المجيء معلناً عن يوم آخر جديد. كنت أغادر مسكني بعد أذان العشاء حيث أتوجه إلي المسجد للصلاة ثم إلي محطة المترو لأخذ القطار المتجه إلي وسط المدينة .لما أصل إلي هناك او حالما أخرج من المحطة كنت أشم رائحة لها عبق معنوي يحرك طموحي لم أعثر علي في مكان آخر،الذي يكون ملازماً لحواسي حتي تنتهي السهرة عند بلوغ الفجر.وكان اجمل شيء هو تطلعي لمثلي العليا منتشيا وكأنني أسير فوق بساط أحمر بين جمهور غفير يتطلع نحوي في إكبار ويصفق لاجتهادي وعبقريتي.وبرغم مضي زمن طويل كان خلاله قد انقضي عهد الشباب.كان هناك مازال أثر قوي باق من كل ما كان يلم بي حينها من مشاعر وأفكار،غيرأنه ما كان حز في نفسي أن الطموح الكبير العريض لم يتحقق منه شيء إلا بمقدار قليل،فغلبتني خلجة من خلجات الحزن كادت أن تعكر فرحتي بلقاء صديقي »عبدالله» الذي كان واحداً من أولئك الذين اجتمعنا كثيراً علي المقهي..ها هو الشارع المتفرع عن الميدان الذي تقع بآخره المقهي.نظرات عيني كانت تحاول أن تكشف مدي التغير الذي حدث في تلك المدة التي انقطعت فيها عن المجيء إلي هنا.كان الأختلاف كبيراً.وكان أول ما لفت نظري هو قتامة لون الجدران علي جانبي الشارع،كما اعتلت المحلات ومداخلها يافطات ذات اضاءة قوية،وبدا أن هناك بعض الأشجار قد اقتلعت من الأرض،واشتملت الزوايا بأسفل الرصيف علي مهملات متناثرة.والغريب أنني لم أستشعر ندماً علي الماضي الذاهب بجماله الآسر،فربما يكون هذا لا يمثل فارقاً إذا كانت رؤيتي له كما المرة الأولي حينما ساقتني الصدفه كي أريح قدمي من كثرة السير ولتناول كوب من الشاي مع شد أنفاس الشيشة..كان هذا في يوم شديد الحرارة،حيث فضلت الجلوس بالداخل ثم تراجعت لضيق المكان واخترت كرسيا كان متكئاً علي جذع الشجرة الباسقة إلي جوار الباب.فقد كانت أحياناً تنعم علينا السماء بنسيم لطيف يحمل أريجاً خافتاً يشع من الغصون الدانية، فيزيل كل حقد دفين للصيف.ومع التفاته مباغتة لمحت »عبدالله» صديق ذلك الزمان والذي انتظره أنا الآن ممسكاً بين يديه بكتاب ضخم منشغلاً بتصفحه.كنت ذلك الحين في بداية اهتمامي بمطالعة الكتب فجذبني اهتمام بالغ لمعرفة اسم الكتاب أو عن أي موضوع يتكلم.مكثت كذلك إلي أن تنبه لما أنا فيه من اهتمام به،فتوجه نحوي مباشرة بينما كان يشع وجهه بالابتسام فجلس إلي جواري بعد أن قدم نفسه لي أثناء المصافحة.فقد اتفق أنه من بلدة قريبة وكان يدرس الفقه ما يهوي القراءة بين الحين والآخر.أستمر حوارنا لمدة تزيد علي ساعة ثم انصرف كلانا نحو مبتغاه علي أمل تجديد اللقاء الذي بالفعل تم بعد أسبوعين علي ما أذكر ثم تواصل بعد ذلك بشكل أسبوعي .كان قد ولي لي ظهراً ينم عن بالغ نحافته وطول قامته التي تغرق في ملابس فضفاضة.وعلي حين كانت تتجلي لي صور تلك الأشياء بتفاصيلها متناهية الصغر التي لم يكن بمقدوري العثور عليها أثناء ما كنت أمعن النظر مع كل خطوة أخطوها.فلم أكن أعرف هل اندثرت..؟ أم زال عنها ذلك السائل الذي كان يغطيها بصبغة لتبدو كحلم ناعس جميل، فيما كان الغروب حينها يعزز ذاك الشعور الذي كان يجعلني أري كل شيء بمخيلة مختلفة وكأني أراه لأول مرة، ومن ضمن ذلك رؤيتي لصديقي »عبدالله» الذي باغتني منظره ،فلم أكن أتوقع أن يكون شكله كهذا،رأسه مغطاة بالشيب برغم أننا مازلنا في نهاية العقد الثالث ، يمتد كرشه ثقيلا، ويرتدي سترة زرقاء تذكرني بتلك التي كان يرتديها في السابق، الذي حين كنت علي قيد خطوتين منه رفع لي وجها أسمر ذا قسمات ممتلئة وعينين مرتخيتين وكأن النعاس يثقلهما،فبادرني بابتسامة رقيقة قبل أن أمد ذراعي لأحتضنه،فيما كان إحساس داخلي يبحث بعيون خفية عن كرسي لأجلس إلي جواره.