البرق والرعد والريح والمطر، عزف علي كمان المدينة البعيدة. ... وكعادتي كل مساء، أجلس في أحد المقاهي المطلة علي الراين، أحتسي قدحاً من القهوة، أتأمل المارة، أفكر بمهام عمل اليوم التالي، ثم أمضي. هذه المرة بقيت، طويلاً بانتظار اللاشيء، سارحاً فيمن حولي، ولا أدري كيف اجتاحتني تضاريس مخيمنا الهرِم، فباتت رائحته تحاصرني، كأنني في جوفه، كأنني لم أخرج منه بعد، والمطر في الخارج يرسم جدارية الهروب. ملامح تمضي مسرعة تختبئ خلف عرباتها. وجوه ترتعش تحت أسقف المحال التجارية. أيدي تحتضن ملابسها، وأجساد ترتعش فلا تستطيع أن تمسح حبات المطر التي علقت بها. أحمد ربي بذلك الدفء الذي احتواني داخل المقهي. أحمده علي وصولي قبل العاصفة بقليل. أحدق في الشارع الموغل بالوحشة، أتأمل المارة بشفقة، المعاطف التي تتطاير مع الريح، المظلات التي ترتفع إلي أعلي. وكمجنون أوشك أن أخرج من المكان لألقي بنفسي في ذلك النهر الثائر، تماماً كما كنت في مخيمنا المطل علي البحر، أتنافس مع أقراني، نجري في الماء، ثم نغطس، نسبح ونسبح، نصل السفينة المكسورة البعيدة، تلك السفينة التي قالت فيها جدتي ما لم أجده في ألف ليلة وليلة، ولم أجده في حكايات بورخيس أو ماركيز أو حتي كويهلو. أصعد علي شراعها المتبقي في تلك المساحة الزرقاء، ثم أخلع ملابسي، عارياً كما ولدتني أمي، ثم أبول في الماء، كأنني أتحداهم، أتحدي تلك الفتاة المجنونة التي كبرت معي في مخيمنا، وصرنا طلاباً في إحدي مدارس المخيم، نذهب بملابس رثة، مهترئة، ونحمل في حقائبنا البالية سندوتشات السمك التي تدهن دفاترنا برائحة البحر المملح بالجوع والحرمان، فتدفع بمدرسينا أن يتقيأوا حال التقاطهم تلك الكراريس، وإطلاق العنان لألسنتهم بالسب والشتم، فندرك السر ولا نعود لكتابة واجباتنا المدرسية مرة أخري.
المدرسة وأشجار الكينياء والصفوف القرميدية المتراصة وسناء، كل ذلك يعود الآن دفقة واحدة، بعد أكثر من ثلاثين عاماً. يا إلهي، هل هو مطر الجنون؟ أم هي نزوة الحياة والبحث عن الذات؟ كما أخبرني صديقي محمود البارحة. لقد تغيرتُ بالفعل، إنهم يأتونني في يقظتي، أحلامي، يبيتون معي، يبتسمون لي من خلال الصور التي قررت أن أعلقها في صالة المنزل، بعد أن تعفنت ألبوماتي. أنا بحاجة إليهم حقاً، إليها تلك المجنونة (سناء) التي قررت هجري مع أول عريس طرق باب بيتهم، رغم أننا تواعدنا أن نبقي معاً، نكبر ونشيخ كجسد واحد. كل تلك الرسائل المجنونة التي أحرقتها بالأمس، و...، لم يصدق محمود أنني أحرقت الرسائل وكدت أحرق المنزل أيضاً، ربما تأكد من صدق كلماتي عندما رأي الدموع تتساقط من عينيّ بغزارة، فاعتبرها حالة من الانفصام الداخلي. لكنني كرهتها بالفعل، نعم كرهتها لأول مرة، رغم أني كنت أتوق لرؤيتها كل لحظة، فمنذ أن هجرت المخيم، كانت تأتيني في مساءاتي البعيدة، تهاتفني، تحادثني، وتكبر في مخيلتي كل عام كزيتونة شامخة. ورغم زواجها بحثت عنها كثيراً، تهت في دروب الكون، سألت صديقاتها، أقاربها، إلا أن جميع محاولاتي باءت بالفشل، واختفت فجأة أجمل حكاية في قاموسي الخائب.
كل تلك التهاويم تراودني الآن في ذلك المقهي، أتنفس فيه عبق البلاد التي هجرت أهلها و... لا أعلم لماذا انقبض قلبي فجأة حال دخول امرأة أربعينية المكان، ربما بسبب ملامحها العربية، ربما لأنها تائهة تبحث عن حضن دافئ في صقيع العمر، ربما.. تهتدي المرأة إلي ركن المقهي الشرقي، توشك علي البكاء، تبكي، في إحدي يديها ورقة تقرؤها ودموعها تسقط كما المطر في الخارج، تنظر تجاهي فتزداد ضربات قلبي، أنظر مرة أخري وأخري، فترميني بنظرة غاضبة ثم تمضي، دون أن تطلب شيئاً أو تنتظر النادل حتي يأتي، وأنا متصلب علي أريكتي، القهوة تفتر، أعود متجهاً نحو صومعتي، أنام طويلاً بانتظار سناء التي تؤرق غربتي.
خمسة أيام مضت دون أن أذهب فيها للعمل، أو إلي أي مكان آخر، كنت مشوشاً، قلقاً، حتي جاءني محمود، فاكتشف بأنني قد خلعت ملابسي الغربية كلها، حاول لحظتها إقناعي بالخروج من هذا الكابوس، ففعلت لأنني مللت كل شيء. ثم قررت العودة للمقهي، هناك جلست بانتظارها، أي مجنون أنا، من تكون؟ ولماذا أنتظرها؟ أليس من الممكن أنها تشتمني في المقهي أمام الزبائن فلا أعود أبداً لهذا المكان؟ ربما صدق محمود بأنني أبحث عن هويتي الضائعة في كل الوجوه العربية، و... تدخل المرأة ذاتها، بملابس أكثر بهاء، تجلس في ذات المكان، تطلب قدحاً من القهوة، أحدق في وجهها، ثم أسقط عيني عنها، قلبي يرتفع، ينخفض، النبضات تتزايد، وهي جالسة تستمع بهدوء إلي صوت حبات المطر في الخارج ثم تنظر نحوي فجأة، أرتعش، تضحك، أزداد احمراراً. تقوم عن طاولتها، تسير نحوي ببطء، تقف قبالتي تماماً، تسأل: - هل لي أن أجلس معك؟ أرتعش، وأرتعش وأرتعش. - بالتأكيد تفضلي. تمد يدها مصافحة، تقول: - أنا مريم، فلسطينية من لبنان. أصافحها، ويدي ما تزال ترتعش: - أنا هاشم، فلسطيني من غزة. لحظات صمت طويلة، نحتسي بها القهوة التي جرعتنا نظرات لم أعرف مذاقها إلا متأخراً. وجهها أكثر نضارة من بعيد، لكنها رغم ذلك جميلة، هادئة، وشعرها ينساب كما العبير. تسأل: - لقد رأيك تحدق فيّ حين ولجت المقهي، وها أنت تكرر ذلك. تتابع: - هل يوحي لك وجهي بشيء؟ وأنا مأخوذ في عينيها، إنها تشبه سناء إلي حد بعيد. تتحدث وأنا سارح في شجوني. - يا عم، نحن هنا (تضحك). - آسف، لقد سرحت قليلاً. - يبدو أنني لست الوحيدة المهزومة في هذه البسيطة. تضحك بأسً، ثم تتابع: - يبدو أنك حزين. - الحقيقة أنني.. أنني متأسف لنظراتي المجنونة نحوك، لكنني.. - ................... - إنني أبحث عن ضالة يبدو أنني لن أراها أبداً. - ألهذا كنت تحدق في وجهي؟ تظن بأني من تبحث عنه. - ليس الأمر هكذا، لكنني أبحث عن عروبتي كما يقول صديقي محمود (أضحك مجدداً). - يبدو أنك وحيد، وتجني آلام تلك الوحدة الآن . - ربما، فأنا لم أفكر بالاقتران بأحد مذ ولجت هذه البقعة الباردة. - يبدو ذلك. (تضحك ووجهها يزداد تألقاً). - لكن، هل تسمحين لي بسؤال. - تفضل - لِم كنت تبكين حين ولجتي المكان قبل عدة أيام. - آآآه، إنها حكاية طويلة. - ............................... - إنه القدر الذي فرق بيني وبين من أحببت. - ............................... - يبدو أن أمي ستكون آخر من سأفقد، قبل أن أودع هذا الفراغ. - إنك متشائمة كثيراً. تصمت، أصمت، نتبادل نظرات طويلة، تطفر دمعات من عينيها تزيد وجهها نضرة وجمالاً. تقول وهي مطأطئة رأسها بينما تعبث يدها بالملعقة داخل قدح القهوة: - لقد اختفت آثار زوجي قبل عشرة أعوام في ألمانيا. ولم يعد يصلني منه أي شيء، فقررت المجيء إلي هنا بحثاً عن آثاره. - عفواً، ألم تكوني معه، أقصد ألم تكونا تعيشان معاً؟ - للأسف لا، فقد قرر هو السفر وقررت أنا المكوث في مخيمنا النزق. وحين اختفت آثاره أصابتني لمسة جنون، فقررت الحضور لهذا المكان الغريب. وبقيت بانتظاره دون أن يأتي. - ألا يوجد بينكما أبناء؟ أقصد معك هنا أو هناك. - لا، فقد أنجبت طفلاً لم يكمل ربيعه الأول حتي انطفأ ومات. - آسف علي ذلك. - لا تتأسف، فنحن نبحث عن ضالة هلامية، لا وجود لها إلا في خيالاتنا المريضة. نضحك سويةً، وهي تبحث عن معالم في وجهي تدلها علي عروبتي التي أبحث عنها، أعاود سؤالها مجدداً: - لكنك لم تخبريني عن سبب بكائك لحظة أبصرتك