على الرغم من أن الاسم ينتمى لعوالم ألف ليلة وليلة إلا أن المكان حقيقى جدا.. فعلى مقربة من منطقة (الكوم الأخضر ) بشارع الهرم استوقفنى مقهى تزينه الأضواء البراقة واللوحات المنقوش عليها رسوم لأطفال صغار بينما تتصدره لافتة مكتوب عليها (جزيرة الأقزام).. فى البداية توقعت أنها مجرد دعاية للمقهى، وليست جزيرة حقيقية تضم أقزاما، لكن فضولى الصحفى دفعنى إلى محاولة التعرف على ما يحدث داخله.. فنزلت عدة سلالم حتى أتمكن من الدخول، وأثناء وقوفى على الباب ظهر لى قزم لا يتعدى طوله (85 سنتيمترا) يدعى (محمود عزو) الشهير ببوجى. قدم لى نفسه، وقام باصطحابى إلى إحدى الطاولات الفارغة وسألنى عن المشروب الذى أريده، وأثناء حديث بوجى معى شاهدت قزما آخر يبدو على ملامحه الشقاء، فبرغم أنه لم يتعد الثالثة والعشرين من عمره، كان يرتدى بنطلونا وتى شيرت برتقاليا (زى المقهى الرسمى) فنادى عليه أربعة شباب لا تتعدى أعمارهم العشرين عاما فى الطاولة المجاورة لى ليغير لهم حجر الشيشة لأنه بحسب وصفهم (سلطان الشيشة).. حالة الدفء التى شعرت بها تعم المكان بسبب المعاملة الطيبة من زبائن المقهى لهؤلاء الأقزام، أفسدها موقف حدث بدون أى مقدمات عندما قام شاب ضخم مفتول العضلات بإلقاء كوب من الماء على وجه القزم، وتعالت صيحات الضحك والسخرية من الذين كانوا جالسين مع هذا الشاب على هذا القزم لهزالة جسمه وقصر قامته. وظلت تتعالى أصواتهم المستمتعة بما حدث. وبرغم سخافة الموقف الذى أشعرنى بالشفقة على هذا القزم إلا أنه لم يتأثر ومسح الماء من على وجهه وهو يبتسم، إذ يبدو أنه لم يعد يتأثر بهذه السخرية. تعجبت من رد فعله مما جعلنى أقترب منه وأسأله عن قدرته على التعامل مع مثل هؤلاء الزبائن، فأجابنى أنه تردد كثيرا فى العمل فى هذا المقهى، ولكن الحل ليس فى العزلة والانطواء فالحياة مليئة بالصعوبات وأكل العيش مر والاستسلام ليس هو الحل.. أعجبت كثيرا بشجاعة سلطان الشيشة وإصراره على العمل، فى الوقت الذى يتسكع فيه كثير من شباب اليوم فى الشوارع، ويفتقدون هذا المعنى، وكأن العمل شىء معيب ولا يفعلون شيئا لمساعدة عائلاتهم فى مصروفات المعيشة المرتفعة. لم يكن هذا الشاب القزم هو الوحيد الذى يؤمن بهذه المبادئ، بل اتفق معه جميع الأقزام الذين يعملون فى هذا المقهى وعددهم ثمانية، 6 شباب وفتاتان.. بهرتنى جرأتهم فى الحديث برغم أن معظمهم تعليمهم متوسط.. واللافت للنظر هو أن أحدهم ويدعى (محمد المصرى) - مهمته فى المقهى تقديم المشروبات والمأكولات للزبائن - حصل هذا العام على بكالوريوس إعلام جامعة القاهرة بتقدير جيد جدا وكل أمنياته أن يصبح (مذيعا) وأول قضية يطرحها فى برنامجه هى (معاناة الأقزام) فيقول إننا نعيش فى عالم مظلم تضيع فيه مطالبنا فلا أحد يهتم باحتياجاتنا على عكس المعوقين الذين يمثلون 5 ٪ من السكان ويتمتعون برعاية صحية واجتماعية من الدولة مطالبا المجتمع بأن يغير من نظرته للقزم، فهو إنسان وليس كائنا غريبا يثير السخرية. محمد حكى لنا قصته قبل مجيئه إلى المقهى فهو يعمل منذ أن كان فى الصف الخامس الابتدائى لمساعدة والده الذى يعمل نقاشا معماريا وإخوته الصغار، ويرجع الفضل إلى أبيه الذى شجعه على العمل والاختلاط بالناس وعدم العزلة.. وفى أثناء الدراسة بالإعدادية كان يعمل كومبارس فى المسلسلات والمسرحيات حتى أرشده أحد أصدقائه إلى هذا المقهى الذى وجد العمل فيه مناسبا. ويكمل محمد خريج الإعلام المتفوق قصته ويقول : احترام صاحب المقهى لنا ومعاملته بإنسانية معنا دفعنا للتفانى فى العمل، فكونى قزما خلق لى نوعا من التحدى، فكنت أحلم بدخول كلية الطب، ولكن القدر لم يمنحنى هذه الفرصة بسبب قلة مجموعى وبرغم ذلك لم أحبط والتحقت بكلية الإعلام وخرجت منها مرفوع الرأس. قصة محمد لم تكن الوحيدة وإنما هناك العديد من المشاهد الإنسانية التى رأيناها أثناء وجودنا بالمقهى ومنهم ( هالة حمدى )، الفتاة المغتربة التى أتت من الإسكندرية بحثا عن لقمة العيش، وكانت تعمل فى إحدى المسرحيات التى تقدمها وزارة الثقافة.. بساطتها شدتنى وهى تضحك فى وجه الزبائن ربما تستعطفهم للتعامل معها برقة دون التعجرف عليها والسخرية منها، هالة حاصلة على دبلوم تعليم متوسط وجاءت إلى المقهى من خلال أحد زملائها فى المسرحية التى كانت تقدمها على خشبة المسرح القومى للأطفال، وتقول أن تصميم المقهى شدها لأنه يتلاءم مع الأقزام، فالطاولات قصيرة تساعد على وضع طلبات الزبائن عليها بسهولة دون أى معاناة مضيفة بأن هذا المقهى ربما يغير المفهوم السائد عن القزم بأنه شاذ عن المجتمع، وقالت هذه التجربة فتحت لى مجالا للعمل وأفادتنى للتعامل الشخصى مع الآخرين بصورة مستمرة، فالناس كانت عندما ترانى فى الطريق تصاب برهبة وكأننى أعانى من عيب خلقى. أما عبد الرحمن إبراهيم (سلطان الشيشة) - 12 عاما - وحاصل على الإعدادية فقال لنا: قبل أن أعمل فى المقهى كنت أفضل العزلة وعدم الاختلاط بالناس عندما أرى الآخرين يسخرون منى ويضحكون على، ولكن وجدت فى المقهى أغلب الزبائن يتعاملون معنا معاملة طيبة. وأثناء جلوسنا فى المقهى وجدنا عائلة (بوجى) ذلك الشاب أسمر الوجه الذى جلب أمه وأختيه الاثنتين ليقضيا وقتا فى المقهى، ويرينه وهو يعمل ويقدم الطلبات للزبائن.. عندما تحدثنا مع والدته- رفضت أن تذكر اسمها- قالت إن بوجى بعد أن توفى والده منذ عدة سنوات وهو يعمل، ولكن واجهته مشاكل كثيرة، حيث ذهب للعمل فى أحد مصانع الغزل والنسيج، ولكن ( مقص) الحياكة كان كبيراً عليه فتسبب فى تلف عدة أقمشة مما جعل صاحب العمل يطرده... وبالصدفة أثناء مرورنا على هذه المنطقة وجدنا هذا المقهى، وعرفنا من القائمين عليه أنه لا يشغل إلا الأقزام، فجاء إلى هنا للعمل وأجره يزيد شهرا بعد شهر، فيعمل من الساعة الرابعة عصرا حتى الساعة 12 مساء طوال أيام رمضان، وفى الأيام العادية من الساعة 11 صباحا وحتى 10 مساء، ووصل راتبه فى الشهر الماضى إلى (1200 جنيه) والفضل يرجع إلى صاحب المقهى الذى يحسن معاملتهم، ولم يستغل عاهتهم الجسمانية لتحقيق مزيد من الأرباح. أما مديرة المكان فهى (فتاة) تبلغ من العمر نحو أربعة وعشرين عاما رفضت الحديث معنا معتبرة أنها لا تقوم بعمل خرافى وأنها مثل أى إنسان عادى ليست محتاجة للشفقة أو الإعجاب المبالغ فيه.. بعد ذلك سألنا عن صاحب المكان لنتعرف منه على الأسباب الحقيقية التى دفعته لإنشاء هذا المقهى.. التقيناه وعرفنا أن الرجل يدعى (باسم عطية سالم) يعمل مرشدا سياحيا فى أواخر العشرينيات من العمر.. قال : أنا من الإسكندرية ولن أنسى أننى منذ أربعة أشهر تقريبا رأيت قزما يسير مع زوجته فتهجم عليه بعض الصبية، وظلوا يلقونه بالطوب ويسخرون منه، كان هذا أكبر دافع لى لإنشاء هذا المقهى، فضلا عن أننى مرتبط بصديق قزم فعشت معه مرارته اليومية، ولم أفتح هذا المقهى للكسب التجارى، بل إن ميزانيته تغطى بالكاد مرتبات العاملين، كما أننى اتفقت منذ عدة ايام مع محام لإشهار جمعية لقصار القامة تتولى مساعدتهم على الاندماج فى المجتمع بصورة إيجابية لتكسر عنهم حالة الخوف الرهيب التى تتملكهم عندما يختلطون بالناس، مما يدفعهم فى أحيان كثيرة للاعتزال ورفض الخروج إلى الشارع الذى يستهزئ بهم، حتى أن كثيراً منهم لا يستكملون تعليمهم أو يتسربون قهرا من التعليم.. هذا المكان ربما يكون نافذة لهم لتغيير مسار حياتهم، حيث إننى أحاول جمع أكبر قدر منهم للعمل فى هذا المقهى الذى أنوى توسعته بفتح سلسلة من المقاهى. (باسم) حكى لنا أنه واجه صعوبات كبيرة فى تدريبهم على خدمة الزبائن فمتوسط أطوالهم يتراوح ما بين (76 و 85 سنتيمترا) وهناك بعض المناضد الطويلة على أجسامهم وأيديهم صغيرة، لذلك حاول تصميم طاولات قصيرة بحيث يستطيع القزم وضع ما يطلبه الزبائن أمامهم بسهولة. باسم اعتبر أننا لا ندرس تاريخنا جيدا فيكفى أن المصريين القدماء منذ أقدم عهودهم، كانوا يعاملون الأقزام باحترام شديد بل إن بعضهم تقلد وظائف عليا فى الدولة، فكان القزم (سنب) وزيرا فى الأسرة الخامسة الفرعونية، ورغم احترام أجدادنا لهم فنحن نسىء معاملتهم. وقال إن القزم حساس وله كرامة، ومن خلال تواجده اليومى فى المقهى وجد أن هناك انسجاماً عاطفياً بين القزم والزبائن حتى أن كل مجموعة أصبح لها قزم يخدمها وقليل جدا منهم هم الذين يسيئون معاملتهم، مضيفا أنه، ومن كثرة احتكاك الأقزام مع المجتمع أصبحوا قادرين على التعامل مع المواقف الحرجة التى يتعرضون لها. وأوضح أن المرتبات تتجاوز 500 جنيه شهريا وأنه استطاع التأمين على 3 أقزام، وفى المرحلة القادمة سوف يشملهم جميعا، ولكن المشكلة أن بعضهم يأتى ولا يستقر فى عمله، ففى دول الخليج كالسعودية والإمارات والكويت يستغلونهم للعمل خلال فترات الصيف بمرتبات مجزية مما يجعلهم يتركون العمل فى أى وقت. فى النهاية تمنى صاحب ( جزيرة الأقزام) من الدولة أن تنظر لهذه الطائفة بعين الاعتبار وتساعدهم على نيل حقوقهم المهدرة لأنهم لا يقلون عن غيرهم فى شىء كقوة فاعلة فى المجتمع وقادرة على العطاء.