قطع الشارع جيئة وذهابا في انتظار أن يفرغوا من رش المياه. كانت تلك المرة الثانية في أقل من ساعة كما خمّن التي يخرج فيها، علي غير العادة، عاملوا المحال التجارية الثلاثة الكبيرة الممتدة علي طول الشارع لرش الرصيف. وقد انتبه متأخرا، من نظرات أصحاب المحال وعبارات تهكم العمال، أن هذا فعلٌ عدائيٌ موجهٌ ضده، كذلك أن طقس رش المياه لا يتم إلا في الصباح بعد فتح المحال مباشرة. ورأي بعد أن توقف لحظة للتفكير: أنه من الأفضل أن يتوجه مبكرا إلي منطقته التي يبيت فيها في الحي العتيق، ويتنازل لهم اليوم عن موقعه في رصيف الشارع الرئيسي رغم حاجته الشديدة. كان قد عاد لتوه منهكا من جولة طويلة في الشوارع الخلفية المظلمة التي يحفظها ويعرفها جيدا، والتي يسهل فيها دائما البحث عن بقايا أعقاب السجائر بعيدا عن الأعين. كان قد اكتسب تلك العادة: أن يمشي وعيناه علي الأرض، دائم البحث عن أي شيء. وقد اعتاد فعل ذلك، رغم أنه نادرا ما كان يجد شيئا يستفيد منه، لكنه ظل يواظب علي تلك العادة. وكان أن باغته الجوع ولم يظفر بعد إلا بثلاثة أعقاب صالحة للتدخين، فأخذ طريق العودة متجنبا المرور من عند المقهي الكبير الذي يحتل ناصيتين ويصل فرش كراسيه لسور المدرسة علي الرصيف المقابل، لأن الكثيرين من أصدقائه القدامي ومعارفه، الذين توقفوا مع الوقت عن أن يكونوا كذلك، مازالوا يرتادون هذا المقهي، وقد رآهم أكثر من مرة مجتمعين حول طاولاته، لذلك توجب عليه دائما، في مثل هذه الساعة، أن يسلك طريق ورش الميكانيكا والصيانة الذي يكره المرور فيه، حيث يتجمع علي ناصيته عادة أطفال الحي وما أكثرهم للعب. كان يخاف منهم ويخشاهم، فكثيرا ما كانوا يضايقونه بالكلمات ويحاصرونه بضحكاتهم العالية، والصيحات البدائية التي كانوا يطلقونها متقافزين حوله كلما صادفوه متجولاً في منطقتهم. أبطأ الخطي وهو يتقدم في الساحة التي تفضي إلي طريق الورش في حذر، كان جمع الأطفال يحتل ناصية الشارع، انتبهوا له فور ظهوره عند وسط الساحة مقتربا منهم، فبدأوا يتهامسون فيما بينهم ويشيرون في اتجاهه ومن عيونهم تتقافز ابتسامة شرسة مترقبة. التف من خلف السيارات المكهنة المصفوفة، ومشي في المسافة الضيقة الباقية من الرصيف تاركا مسافة آمنة بينه وبينهم. حتي تأكد، مع تقدمه، أن المعلم هكذا كان يسميه وهو أحد أكبر رجال الشارع، والذي اتضح له، مؤخراً، أنه صاحب إحدي الورش الكبيرة فيه، يجلس أمام ورشته يشرب الشاي ويدخن. ولم يكن يأمن المرور من هذا الطريق إلا في وجوده، فقد تمادي الأطفال ذات مرة وطاردوه حتي آخر الطريق قذفا بالحجارة. مما جعل المعلم ينهرهم ويمنعهم من اللعب طاردا إياهم من ناصية طريق الورش، واستمر هذا الوضع لفترة قبل أن يعودوا تدريجيا إلي ساحتهم. وكان أن ربت علي كتفه يومها مواسيا، مما جعله يبتسم في ارتياح، وأمر عامل المقهي أن يأتي له بكرسي أمام الورشة، وطلب له زجاجة مياه غازية باردة. وجعل هذا الموقف أطفال الحي يتراجعون قليلا ويعملون حسابا لتلك الواقعة. بالطبع لم يمنعهم هذا من مضايقته من وقت إلي آخر كلما سنحت الفرصة، لكنه بالتأكيد قد خفف من الأمر الكثير. لذلك عندما دخل الشارع اتجه، من فوره، ناحيته ليلقي عليه السلام، لربما أجلسه وأطعمه أو سقاه شيئا، كما كان يفعل في بعض الأحيان، لكن ما إن رآه الأخير مقبلا حتي أشاح بوجهه، فلما مر من أمامه ولم يصدر عنه إلا حشرجة مترددة، رد عليه الرجل، ما افترض أنه سلامٌ في ضجر وتململ، فأكمل صاحبنا طريقه خائب الأمل، بعد جولة مرهقة وغير مربحة، في اتجاه الشارع الرئيسي حيث أغلب المارة من علية القوم ورواد المحال التجارية الباهظة والمطاعم. عندما وصل إلي المكان الذي يتخذه للنوم، عند كومة الكراتين التي يقوم بتجميعها بعض المتجولين بالقرب من مكب النفايات الكبير. كان هناك مجموعة من الناس، تعذر عليه تحديد هويتهم وطبيعة ما يفعلون، يتفحصون القصر الأثري المهجور الذي يحتل جزءا كبيرا من المنطقة، وكانوا يتحدثون مع بعض الأهالي والسكان الباقين في بعض بيوت الحي العتيق وأصحاب بعض الدكاكين القديمة المجاورة، ويدونون ملاحظاتهم في دفاتر سوداء كبيرة. جلس يرتاح علي جانب الطريق تماما أمام كومة الأكياس الممزقة علي رصيف القصر المهجور، والتي دائما ما كان يجد فيها ما يؤكل، وأشعل عقب سيجارة في انتظار أن ينتهوا من مهمتهم أيا كانت تلك. فقد كان يصعب عليه البحث عن طعامه أمام الغرباء، لم يكن قد وصل بعد لتلك الحالة التي لايبالي فيها إطلاقا لوجود أحد، فكان عليه في مثل هذه الأيام، انتظار انتصاف الليل وخلو الحي من المارة ليتصرف علي راحته. تمدد مكانه مسندا رأسه علي رسغه وأغمض عينيه وحاول أن يغفو، لكنه عوضا عن ذلك أخذ يفكر، وسقط في سواد لا ينتهي، مابين صحو ونوم. كان يمشي في الظلام، مشي كثيرا وبلا انقطاع، وكان متعبا إلي حد الرغبة في الموت نوما. ورأي المعلم فهم تجاهه مبتسما ليسلم عليه، لكن الأخير أظهر ضجرا عند رؤيته، وبدا علي وجهه علامات نفور وتقزز. أحزنه ذلك وجعله يجاهد في محاولة الكلام معاتبا، لكن الكلمات لم تكن تخرج من فمه، حاول وحاول بلا جدوي، تمني لو أخبره كم أسعده تربيته علي كتفه ومواساته له يومها. أراد أن يلومه لوم الأصدقاء، وتمني فقط لو يجلس معه ويشعر بالأمان لوجوده قرب شخص يعرفه، أن يسمع أحد آخر عداه صوته، وتخرج أفكاره خارج حدود نفسه، أن يعرفه الناس، يعرفوا من كان وكيف أصبح، أن يقتربوا منه ويمدوا يدهم للسلام ويلمسوه من حين لآخر، لكنه لم يقدر. اختفي المعلم تدريجيا، وظل هو صامتا في الظلام يراقبه يبتعد. لما أفاق كان كل شيء حوله علي حاله، وكان الوقت مايزال مبكراً، وطال بقاء المدونين وأهل الحي في الأرجاء، ومع وصول عربة البلدية الضخمة بصراخها المزعج، وبدء العمال في رفع أكوام القمامة المبعثرة حول البراميل وعلي الأرصفة، رأي مستسلما أنه من الأفضل أن يمضي علي أن يعود لاحقا قبل النوم مباشرة. حتي أن القمامة تكون قد تجددت وقتها ويكون ما بها من بقايا حديثا وصالحا للأكل. مشي علي غير هدي، لم يكن يدري إلي أين يتوجب عليه الذهاب. أراد إضاعة بعض الوقت، كما كان في أمس الحاجة للطعام والدخان، فلم يرد الابتعاد عن الحي العتيق. كذلك أن المرات القليلة التي غير فيها مساره وخرج من منطقته أتت عليه بالمتاعب والمضايقات. هذا بالإضافة إلي الرهبة التي كان يحسها تجاه الأماكن الجديدة والشوارع الواسعة المضيئة التي لم يكن وجها مألوفا في نواحيها. لكنه وجد نفسه وقد قطع شوطا كبيرا في اتجاه الميدان الرئيسي، كما تحصل أثناء سيره علي بعض أعقاب السجائر، فكان عليه عند هذه النقطة الاختيار بين الاستمرار، عله يجد شيئا، وبين العودة والتجول في منطقته من جديد، كما كان يفعل طوال اليوم. في النهاية واصل السير باتجاه الميدان، فقد بدا له ذلك أسهل وأقرب للتحقق. عند الميدان كان الزحام شديدا رغم تأخر الوقت، وكان الجو العام احتفاليا، مما دل علي اقتراب عيد أو ما شابه من مناسبات. كان يبدو وكأن كل المدينة قد تجمعت في هذا الميدان والشوارع الرئيسية المتفرعة منه. أزعجه الأمر فجاهد في الإسراع، رغم وهنه والتقرحات التي مزقت باطن قدميه، محاولا تجنب نظرات الغرباء التي كانت تلاحقه.عبر الشارع بين السيارات المتلاصقة، ومشي بمحاذاة سور المقابر الذي كان يبدو له في الصغر وكأنه لا ينتهي. لم يكن قد مر من هنا منذ قرابة العامين، وقد توقف عن الاقتراب من هذا الشارع الطويل الذي يؤدي إلي منطقة السوق الكبير حيث بيت عائلته. فقد حدث ذاك الشتاء أن هام علي وجهه حتي وصل إلي نفس هذا الرصيف الذي كان خاليا إلا من مجموعة شباب كانوا قادمين في اتجاهه، لم يعرهم أي اهتمام فلم يكن هناك أي حاجة للاحتراس منهم، فقد بدوا له منشغلين في حديث مرح يتجاذبونه فيما بينهم. لكنه لاحظ مع اقترابهم أن شقيقه الأصغر واحد منهم، لم يلحظه الأخير فورا لكنه بدا مرتبكا فور تعرفه عليه. لم تلتق أعينهم إلا لوهلة، ابتسم هو وأشاح شقيقه بوجهه عنه بسرعة مستكملا طريقه. توقف والتفت يشاهده مبتعدا رفقة صحبته، كانت تلك لحظة فارقة أدرك فيها أنه خسر كل ماضيه، ولم تعد تلك الحياة بكل ما كان فيها موجودة إلا في مخيلته. تألم ليلتها أشد الألم، وشعر بمغص شديد في معدته وخوف غير مسبوق. بكي في تلك الليلة الباردة كثيرا، انهمرت دموعه وبكي حتي تعب واستسلم للنوم. حاول طرد تلك الذكري سريعا وعبر الشارع في اتجاه الحديقة العامة، والتف حول السور باحثا عن تلك البقعة التي كانت متهدمة من السور، والتي وجدها علي حالها. فك زر بنطاله وتبول ثم تسلق ما تبقي من أحجار متراصة وقفز. كان هذا الجزء من المتنزه الواسع دائم الظلمة، مشي قليلا علي العشب الجاف، ثم جلس وخلع حذاءه وأكمل المشي حتي لمح جمعا من الشباب والفتيات حسني المظهر يجلسون تحت إحدي الأشجار العتيقة العملاقة يتحدثون ويتسامرون في مرح، انتبهوا لوجوده فورا وتابعوه يمشي في الأرجاء حتي اطمأنوا له بعد أن اختار شجرة علي مسافة منهم، ثم تجاهلوا وجوده. وفكر قبل أن يجلس في الذهاب إليهم وطلب سيجارة منهم، لكنه تردد، كانت رائحة دخانهم جميلة محببة إلي نفسه، وعرف علي الفور أن المخدرات التي حشوا بها سجائرهم من الصنف الممتاز. كان يعطيهم ظهره عندما بدأ يتحسس جذع الشجرة الخشن ويربت عليه، وكاد لوهلة أن يحتضن الشجرة، شعر بذلك في صدره، وأغمض عينيه وتخيل لو احتضنها ومال بها حتي تمددا سويا برفق علي العشب، وبقيا علي تلك الحال حتي يغفوا سويا في أمان. جلس في نهاية الأمر واستند بظهره علي الشجرة ومد ساقيه، كانوا أمامه مباشرة، راقبهم يضحكون ويتلامسون. وكان في أمس الحاجة إلي السجائر، فنهض رغم التعب الشديد ومشي تجاههم في بطء، وما كان منهم فور أن لاحظوا تحركه ناحيتهم، إلا أن صمتوا وتحفزوا، لكنه توقف قبل أن يصل وحاول أن يطلب منهم سيجارة، لكنه أصدر مجموعة من المقاطع الصوتية المبهمة، وفهموا هم ما أراد من حركة الإصبعين المضمومين، اللذين قربهما وأبعدهما من فمه، فوقف أحدهم بسرعة ملتقطا علبة سجائره، وقال بحركة من يده أي (ابقي كما أنت)، وألقي له بسيجارتين وعلبة ثقاب، التقطهما من علي الأرض ومضي عائداً إلي مجلسه تحت الشجرة،أشعلها وأخذ ينفث الدخان مغمضا عينيه ورأسه مسند علي جذعها. مضي بعض الوقت وهو ممدٌ علي العشب يتأمل أصابع قدميه المتورمة، يباعدها ويقربها كأنه يتركها للهواء الدافئ يعالجها، وفكر أن للهواء ملمساً ناعما لايقدّره البشر إلا في أقصي حالات الوحدة.كان الجمع أمامه مباشرة، يتسامرون هناك في مرحٍ أسفل شجرتهم.وبينما هو يراقبهم أحس بشعر ذراعه اليسري وكأنه يتموج مدغدغاً إياه، تجاهل الأمر لوهلةٍ ثم رفعها جاعلا كفه في مستوي نظره، فإذا بالنمل يخرج من أسفل كم بزته البالية إلي كفه ويقف محتاراً عند قمة أصابعه، قبل أن يلتف عائدا إلي أسفل ذراعه مكملاً طريقهُ حتي أسفل ظهره. ترك النمل يمشي عليه، يصعد ويهبط فوقه كأنه جذعٌ من تلك الشجرة، وارتسمت علي وجههِ نصفُ ابتسامةٍ وهو يعيد ذراعهُ إلي جانبهِ في رفق. لم ينتبه لما يحدث إلا متأخرا، فلم يدر متي جاء أفراد الأمن ومن أين ظهروا. كانوا يفتشون جيوب الشباب الذين كان بعضهم يبدي اعتراضهُ علي ما يحدث، بينما وقفت البنات الثلاث يشاهدن ما يحدث وفي حركة أجسامهن توترٌ ملحوظ، ولاحظ أيضا، رغم الظلام، أن أحد الأفراد يضع في جيبه شيئا ما وجده في جيب أحد الشباب، كما وصل إلي مسامعه اعتراضُ فتاة علي هذه المعاملة، مبررة ذلك بأنهم جميعا طلبة جامعيون. بينما تعالي صوتُ أكثر الفتيان عنداً قائلاً، وهو يشيح بكلتا يديه في الهواء معترضاً فيما يبدو وكأنه ردٌ يحملُ قدراً من التهكم علي سؤال أحد الأفراد الذين كانوا يصرفون الجمع مشيرين تجاه بوابة المتنزه البعيدة، بأنه يأتي إلي هنا لأنه يحب الأشجار. اندهش صاحبنا وفكر وهو يتابعهم راحلين: أنهم بالتأكيد لا يبالون بأمر الأشجار ولا يعيرونها أي اهتمام، تماما كما كان هو في السابق، عندما كان يمتلك حياة وأناسا يضحكون لما يقول ويهتمون بما يفعل. (لماذا يهتم أي شخص بزيارة الأشجار إذا كان في حياته من يبادله اللمس؟! حتي أنا، من لا أملك شيئاً علي الإطلاق، لم أدرك وجودها إلا صدفة)، هكذا قال لنفسه وهو يراهم قادمين في اتجاهه. همّ واقفاً قبل أن يسألهُ فرد الأمن الذي يحمل في يده هاتفا لاسلكيا معدنيا يصدر عنه وش وأصوات متقطعة، وأعد نفسه للإجابة عن سؤاله، لكن الأخير نهرهُ آمراً إياهُ بالرحيل فوراً، مشيراً في اتجاه السور الخلفي وهو يقول في حزم: " هيا، ارحل من حيث أتيت". تردد لوهلة، وغمغم بكلمات غير مفهومة وهو ينحني ليأخذ حذاءه من علي الأرض، ثم مضي.