اليد السمراء الطيبة، امتدت من خلفي وربتت علي كتفي.. كيف علمت أني بحاجة إلي بعض الطمأنينة؟! أستطيع أن أسمع صدي حكاياتهم من الأسفل. أولئك الذين حبسوا - عن غير قصد- حلقات الشمس خلف نوافذهم عندما فتحوها علي مصاريعها. تُري هل كانوا يعلمون أنه سيكون يوم نحسهم؟ تلك النوافذ كانت مصنوعة من خشب الأرز والأبنوس ومكفتة بالعظم، يومها انشطرت الشمس ذاتيًا إلي شموس صغيرة، ثم جوفت نفسها بنفسها وتحولت إلي حلقات مضيئة واتخذت ركنًا حيويًا في كل بيت. البعض فرح لأن فرصته لتوفير الكهرباء قد أصبحت ممتازة في الليل كما النهار. والبعض الآخر أشار إلي إمكانية تحميص الخبز بحرارة الشموس بدلاً من استخدام الغاز.. ووجد جميعهم فرصة خيالية للقضاء علي البق الذي كان يسكن خزائنهم وسرائرهم الخشبية منذ زمن طويل؛ لكنهم لم يدركوا وقتها حقيقة أن تلك الحلقات سوف تأبي الخروج إلي الأبد. لم يحتاجوا إلي وقت طويل للاعتياد علي فكرة عدم معرفة النهار من الليل، لأن الليل أصبح في كل الشوارع، والنهار صار يسكن كل البيوت، فأصبح للعمل أماكن محددة بعد أن كانت له مواقيت، وأصبحوا يزرعون زهور عباد الشمس داخل البيوت ويقيمون ديكوراتهم بشكل يلائم اللون الأصفر، ذلك الذي أصبح مفروضًا في كل المساحات الداخلية. بعد يومين لاحظ أهل المدينة أن الزهور بدأت تذبل، واستنتجوا أنها بحاجة مثلهم إلي أن تدير ظهرها للشمس قليلاً. بدأوا في اقتلاعها وزرعها في أحواض مخصوصة يضعونها نصف اليوم في البيوت ثم ينقلونها النصف الآخر إلي الأفنية الخارجية. ولمّا أصبحت البيوت منيرةً وحارةً أكثر من احتمالهم أصبحوا لا يطيقون النوم بين جدرانها التي لم تعد تمنحهم الطراوة المعتادة، نقلوا ملابسهم المهمة وسرائرهم - بما تبقي بها من بَق كان يُعلّم نفسه طوال تلك السنين ماهية الاحتيال- إلي الشوارع الكبيرة، وخصص كلُّ منهم لنفسه عمود إنارة يقيم تحته ركنه الطري. كلهم خرجوا ماعدا عجوزا وحيدة لم تحب فكرة وجود عباد الشمس في بيتها، احترق جلدها من جراء حلقة الشمس التي تعلقت بثريتها القديمة واتخذت منها مكانًا خالدًا سيصبح بعد فترة مزارًا للغرباء والسائحين. كما أصيبت بما يشبه العشي النهاري ولم تجد أحدًا بعد ذلك كي تبرر له أنها لم تستطع ترك البيت لأنها ببساطة لم تستطع ترك صندوقها الثقيل الذي لم تقوَ علي حمله، ذلك الذي وضعته أسفل سريرها منذ زمن وأقسمت أنها لن تتخلي عنه حتي تموت. كان الصندوق يحوي قطع "كليم" ملونة ولفافات تبغٍ قديمة وبرتقالات خضراء، لا هي ناضجة ولا هي جافة. ستظل تلك البرتقالات حتي أعوام أخري تترك في حلق السيدة العجوز رائحة حميمية، وطعمًا بَين بَين. أما الذين خرجوا من بيوتهم وأقاموا سرائرهم الخشبية في الشوارع فقد أصيبوا بمرض عرف بعد ذلك باسم "وشوم الحلقات الليلية".. ذلك لأنه كان يترك علي جلودهم علامات كالوشم علي هيئة حلقات مفرغة تتركز في مناطق الأنف والجبهة. رجح شيوخ المدينة وأساقفتها الذين لم يسلموا من نفس المرض أنه لعنة من السماء لأنهم رفضوا أضواء الرب، واستبدلوها بأخري زائلة، أقروا أنها لعنة شبه أبدية ستبقي إلي عهود أحفاد أحفادهم، إلا إذا مات كل من فتح نافذته في ذلك اليوم المشؤوم. بعد ذلك تحول المرض إلي حكة شديدة أصابت المناطق ذات الوشوم ثم خلفت مكانها ثآليل وبثورًا صفراء وساخنة. أصيبوا كلهم بحالة من الهذيان واليأس جعلتهم يقيمون حبال المشانق في الشوارع ويعلقونها علي أعمدة الإنارة، علي أن يختاروا يومًا معينًا يشنقون فيه أنفسهم فيضربون عصفورين بحجر: يرتاحون من مصيبتهم وفي نفس الوقت يخلدون ذلك التاريخ فيحتفل به الأحفاد يومًا ما، أو ربما يقيمون فيه مراسم حداد تليق بأجدادهم الذين ضحوا بحياتهم من أجل أن ينام الجميع. ذلك التاريخ لن يتذكره بعد ذلك سوي شخص واحد رفض كل الأشياء التي رأوها هم منطقية. بعدها تحولت المدينة إلي ما يشبه مقبرة جماعية ذات سكون مطبق وحلقات شموس بالداخل وحلقات حبال بالخارج. ماتوا جميعًا.. رحلوا واحدًا تلو الآخر. لم ينتحروا شنقاً كما قرروا أو كما اعتقد البعض. ماتوا لأنهم لم يستطيعوا تحمل الحكة. اليد السمراء الطيبة تركت مكانها عند النافذة الخلفية، جلسنا علي كرسيين سيذهبان إلي نفس المكان، في الطائرة المتجهة إلي هناك؛ بينما كنت أنظر إلي المدينة من الأعلي، وأعمدة الإنارة مازالت تحيط بها وتصنع حلقات صفراء مفرغة في الظلام، كانت تحكي "هي" بفم تكسَّرت نصف أسنانه العلوية البنية، تخرج منه رائحة حمضية مختلطة برائحة صيف غابر، في صوتها كانت هنالك أصداءٌ لموسيقي كنائسية ليست غربية؛ لكنها ذات رنين "كوبي" له وقع مرحٍ حزين. وبينما كانت تكرر ربتتها الأولي.. كنت أتردد ألف مرة قبل أن أسألها عمّا حلّ بالسيدة العجوز...