كم رأيت من بحار في الصيف وفي الشتاء وعند حدود الفصول كلها ! ولكنني لم أر البحرَ متكدراً هكذا من قبل أبداً، عندما مررت مع مَنْ مروا بدعوةٍ من إتحاد كتاب مصر لدخول مدينة بورسعيد ل " فك الحصار المعنوي حولها"! ظننت أن الأمر سيكون سهلاً علي قلبي الضعيف, ظننت أنني ذاهبة إلي ميدان المسلة الذي صار ميدان الشهداء الآن وكأنني ذاهبة إلي ميدان التحرير, لأري عدداً من الكتاب والمثقفين من أصدقائي ثم نلتحم بالجماهير ونهتف حتي تُبحَ أصواتنا ثم نعود في آخر الليل إلي القاهرة .كنا في أتوبيس ضخم اعترضته حشود الجماهير فلم يستطع التقدم إلي الميدان أكثر فترجلنا عنه، ورفعت رأسي إلي نوافذ البيوت ولحظتها فقط عرفت حجم الجريمة التي كنا نلوك تفاصيلها طوال الأيام الماضية .. نسوة ٌطيباتُ لسن لهن علاقة علي مايبدو بالسياسة أو بالكورة يشيرن لنا بإشاراتٍ لأوَّل مرةٍ في حياتي أراها، فهي ليست بإشاراتِ ترحيبٍ وليست بعلامةِ النصر الشهيرة وإنما هي أقرب إلي إشارات استغاثة مبتكرة لا يمكنني ترجمتها إلا َّ: بأن انقذونا، انقبض قلبي ورحت في هتاف الاستقبال الذي تحفظه مصر كلها ( دي مؤامرة دنيئة .. بورسعيد بريئة)، حاولت أن أقولَ لهم لماذا تهتفون بما يعرفه كل المصريين حتيَّ مَنْ نفذوا هذه الجريمة ؟ ولكنني ازدادت الغمامة السوداء أمام عينيَّ اللتين تعلّقتا بالنوافذ أكثر، وفجأة اختفي منها النسوة بأطفالهن وأعلامهن الصغيرة التي ترفرف ترحيباً بالضيوفِ وقفزت مكانها صور بالأبيض والأسود لمبان ٍمهدمةٍ محروقةٍ بالنابالم ومهجورة ٍ من سكانها ربما رأيتها في فيلم "الحب الضائع" أو في فيلم "العمر لحظة". كانت لأمي صديقة من مهاجري بورسعيد أثناء حرب الإستنزاف ظلت علي علاقة طيبة بها بعد عودتها إلي مدينتها مع نهاية سبعينيات القرن الماضي وكنا نزورها ونحن أطفال ونشمُّ رائحة الطلاء الجديد في شقتها ونلعب في الشوارع الجديدة المتسعة ونتتسم هواء البحر، ونعود آخر النهار محملين بأثوابٍ مزركشةٍ مستوردةٍ سنتباهي بها أمام أطفال حينا، تُري أيُّ من هذه النسوة هي "نشوي" ابنة طنط "ناهد" التي لعبت معي هنا ونحن صغار؟ وتُري أيُّ من هذه الشوارع رسمنا عليها لعبة الحجلة بالطباشير ولعبنا فيها ؟ وتُري أيُّ من هؤلاء الشيوخ الذين ترتعد أيديهم الملوحة لنا الآن هو العم سيد والد نشوي وبطل المقاومة الشعبية الذي عاش بقية عمره بذراعٍ واحدة ؟ يستقبلنا الأديب الصديق قاسم مسعد عليوة ويستهلُّ كلمته بصوتٍ مختنق ٍ ..إن شعب بورسعيد يعيش في ذهول ٍوحزنٍ وغضبٍ، ذهول من حجم الفاجعة وبشاعتها وهو حجم يفوق كل طاقات الاحتمال، وحزن من أجل الدماء التي سالت والأرواح التي أزهقت لمواطنين أبرياء، وغضب لأن المتآمرين لم يجدوا لتنفيذ مؤامرتهم سوي بورسعيد لتكون ميداناً لها وتتحمل عبء هذه الجريمة وتُدان إدانة جماعية . لا أستطيع الفكاك من حصار المشاهد بالأبيض والأسود وأكاد أصرخ ُ لكي أتخلص من اختناقي .. إنه يكاد يصل إلي حدود العبث أن تتكئ بور سعيد علي تاريخها النضالي الذي نحفظه عن ظهر قلبٍ لكي تبرئ نفسها..أكاد أصرخ ُ بأنه حرامٌ أن تذكرنا كيف حمت دائماً مدخل شمال القناة من أعدائِنا لكي يُسامحها الناس علي ما لم ترتكب، حرامٌ أن تكرر لنا طوال أيامٍ شديدة الحلكة ودون توقفٍ بأنها جزء لا يتجزأ منا. أتأمل عند استاد بورسعيد اسميَّ الناديين اللذين تأسسا في أوائل القرن العشرين واللذين إذا اجتمعا سيكونان جملة لوصف الشعب بعددٍ لانهائي من التوافيق والتباديل فالأهلي الذي اختار اسمه الدال منذ البداية علي الجموع هو المصري و يستحيل أن تتسم جموع الأهلي بدون صفة المصري، ويستحيل أن يلتصق الوصف (المصري) بدون الموصوف (الأهلي) أشعر بغصةٍ وأنا أقول لنفسي .. هذا لا يخطرُ علي بال ِإبليس نفسه، هل يريدون أن يأكل الشعبُ نفسه بنفسه ؟ هل يريدون لمصر أن تُشبه مريض الشيزوفرينييا الآنَ؟ أستمع بوضوح إلي مقولة الإبليس الأكبر .. أنا .. أو الفوضي، ويسألني أحد الأهالي بمخارج ألفاظه البورسعيدية المحببة .. هل تتصورين أن يلوي أحد المشجعين عنقَ شابٍ لديه من العمر أربعة عشر عاماً فقط فيكسره بهذه الكيفية المحترفة، ثم يلقيه من أعلي المدرج ؟ يهاجمني كيف ينتبه أطباء علم النفس لتقييد يديَّ مريض الشيزوفرينيا لأنه بمجرد أن ينتبه لنفسه سيؤذي بيده اليمني يده اليسري أو أنه سيفقأ إحدي عينيه، أو أنه ربما سيصل إلي حدوده القصوي إذا ما وصل لمرحلة الصرع فيقطع جزءاً من أعضائه ويلقي بها بدون أيَّ شعورٍ بالألم، فالشعور بالألم يصل إلي هذا المريض متأخراً علي كلِّ حال . لحام الباب الحديدي المصهور حديثاً في يوم 1فبراير المشئوم ما زال يلمع أمام أعيننا، هنا غلَّقوا الأبواب علي شبابٍ تركوا لتوهم عتبة الطفولة، هنا شاهدت مصر كلها فِردا من أحذيتهم الصغيرة وشرائط رؤوسهم الملقاة بإهمالٍ تحت أقدام قاتليهم، هنا التصقت صرخات تشجيعهم البريئة وضحكاتهم المتناثرة علي الجدران وعلي المقاعد البلاستيكية المقلوبة والملوثة بالدماء. يتصاعد صوته الغاضب وهو يصيح : لأوّل مرةٍ في تاريخ النادي يسمحون للجميع بالدخول بدون تفتيشٍ أو حتي تذاكر دخولٍ، كانوا دائماً يمنعوننا من الدخول بأيّ شيءٍ حتي بكيلو" يوسف افندي"واحد، فلماذا سمحوا للبلطجية بالدخول بكل هذه الأسلحة ؟ لماذا يريدون ذبح بورسعيد بعد الثورة كما ذبحوها قبل الثورة ؟ لا أدري أين قرأت علي أحد الحوائط " مَنْ حضّر العفريت لن يستطيع صرفه"، كانت خطة الوريث أن يعتمد علي شباب الألتراس لكي يضعوه علي كرسي الحكم، كان يحضر المباريات أثناء تشييع مصر لضحايا العبارة الشهيرة ليكتسب شعبية لم تستطع عقول ساسة النظام المحنكة تحقيقها له، كان لا يتصور للحظة واحدة أن شباب الألتراس سينحازون بل سيحمون ثورة الشعب منذ يومها الأوّل، كان لا يفهم أنهم حتي يجهزّون أنفسهم لكلّ آليات انتقام نظامه . نقرأ الفاتحة علي شهدائنا تحت المسلة المعلقة عليها صور الشهداء منذ 25 يناير وحتي مذبحة بورسعيد، ونحاول أن نحصي شهداء الثورة الذين لم تطالعنا صور وجوههم النبيلة المحفورة في وجدان شعبهم كعلمٍ لأروع جيلٍ أنجبته مصر، وتحت زخات المطر الغزير وتحت نقرات "البومبون" الذي يلقيه علي رؤوسنا أهلنا الطيبون الذين بدون شكٍ يريدون أن يبيعوا بضاعتهم وأن يشتروا وأن يساهموا في بناء اقتصاد بلدهم، نعاود الهُتاف، ولأنني أكرر لنفسي كل صباح ٍ بأن الحزن واليأس رفاهية لا قِبلَ لمصر بتحملها الآن، أقول للصديق "سعيد عبد المقصود" هل سنظل نستمع إلي هذا الشعار حتي نهاية يومنا ؟ فيقفز المبدع الثائر إلي جوار ِالمسلةِ ونردد خلفه.. ماتعبناش ماتعبناش ثورة كاملة يا إما بلاش .