"عزيز النادي . هذا أنا .. في إحدي المهام الشاقة التي لا تنتهي، ويطلبها مني كل من حولي لأني أكثرهم ثقافة وعلماً واحتراماً . الآن أتذكر كم من المشاكل التي كادت أن تفتك بأشخاص وعائلات ، لكنها انتهت بكلمة مني . كلمة واحدة .. أخيرة .. لا ترد ولا تتبعها كلمات أخري. أحس أنني ملك متوج وأنا أقولها وأموت رعباً في ذات اللحظة." السطور السابقة اقتباس من رواية "ما لم يذكره عزيز" للأديب نادر مصطفي عيسي والتي صدرت حديثاً عن دار ميريت للنشر . وهي رواية كتبت في العامين الأخيرين من حكم مبارك، لذلك فإن ظلال كثيفة وموغلة في العمق تغمر أحداثها وشخوصها بمشاعر القهر النفسي والامتهان الانساني الذي كنا نعيشه خلال العشر سنوات أخيرة علي وجه الخصوص تحت وطأة ظلم وفساد وانهيار في منظومة القيم الأساسية في المجتمع المصري. الشخصية المحورية في الرواية .. والتي تدور كل الشخصيات الأخري في فلكها هي شخصية "عزيز النادي" . وهي شخصية تعتقد أن كنزها الوحيد هو : الكرامة وثروتها الباقية هي : الاحترام. رجل له هيبة بين رجال حارته لأنه المثقف الوحيد بينهم ، ولأنه "عزيز" النفس ، وقور ، يعمل علي أن يصدر للجميع الصورة المثالية لرجل حكيم . لذلك يلجأ له الجميع لينقذهم من عثراتهم أو يحل لهم مشكلاتهم ، وتمضي حياته البسيطة علي هذا النحو ، راضياَ بذلك "التوقير" الذي يتلقاه من كل من حوله ، منتشياً بتفرده بين هؤلاء البسطاء .. الجهلاء . وهنا تحين اللحظة الفارقة في حياته . يتعرض "عزيز" عن طريق الخطأ لمداهمة بوليسية لمقهي يعد وكراً من أوكار المخدرات المعروفة للشرطة بمنظقة العمرانية أثناء قيامه بإحدي المهمات الإنسانية لواحد من المهمشين من أهل حارته . وخلال المداهمة غير الانسانية من الشرطة لرواد المقهي الحقير يتعرض "عزيز" لامتهان يهزه بشدة ويقلب حياته منذ تلك اللحظة الفاصلة رأسا علي عقب. لم يكن الذي لاقاه "عزيز" اغتصاباً مادياً ولا تعذيباً بدنياً مثلما كان يحدث مع معظم المواطنين في أقسام الشرطة في ذلك الوقت ، لكنه بالنسبة له كان أبشع من هذا كله ، كان انتهاكاً وحشياً لكرامته واحترامه لذاته ، وكان تمزيقاً همجياً لصورته أمام أهل حارته . ثلاث صفعات سريعات .. هكذا وصفها "عزيز" : "خرجت من القسم لا أعلم شيئاً!! لأول مرة في حياتي أكون في هذا الحال .. أين أنا ؟؟ إلي أين أذهب؟ تراءت لي أحلام-أقصد كوابيس مريعة- وانا مفتوح العينين وفي كامل وعيي ، أحسست أنني وبدخولي إلي الحارة سأجد الجميع في انتظاري .. يعملون أنني قد أهنت ، وصفعت علي وجهي ثلاثاً . عيون الناس تنظر إلي في استخاف وشماتة واشمئزاز وسخرية". شعر "عزيز" بعدما اغتصبت كرامته ، وهي ثروته الحقيقية أنه لم يعد عزيزاً لا عند نفسه ولا عند الآخرين ! ، وراح طوال الرواية يبحث عن مخرج ، عن طريق للخلاص ، للتطهر من هذا الجرح الغائر الذي ينز صديداً في قلبه كل يوم!. فكر في الثأر . في الانتقام من ذلك الضابط الذي صفعه ثلاثاً وتراءت له صور الانتقام في أشكال مختلفة وأساليب متعددة . فكر "عزيز" في اغتصاب شرف ، وهتك عرض ذلك الضابط المتوحش متمثلاً في زوجته . أن يغتصب زوجة الضابط ، ولم لا ؟! خطط ، وفكر ، ودبر ، ونفذ.وإذا بالهدف الذي حدده بدقة وانطلق إليه بسهم نافذ لم يكن إلا وهماً كبيراً من صنعه!. وتعددت السبل التي سلكها عزيز طلباً للخلاص من ذلك الوجع الذي تحول داخله إلي ورم ثقيل يتوسل ويستغيث بالله أن يزيحه من قلبه ، وربما تجلت تلك المحاولات للخلاص في لجوء عزيز إلي احد المساجد التييرتادها السلفيون ، وهو من فصل من أجمل فصول الرواية ، حيث يجري الحوار بين عزيز وأحد شيوخ السلفيين علي نحو يجعل عزيز يكتشف أن الزيف والخداع ليس مقصوراً علي فئة دون أخري بل ويدرك أنه تحت عباءة الدين ترتكب جرائم أخلاقية ، ويتم تبريرها باحتراف واقتدار من هؤلاء الشيوخ المدعين ، شيوخ الفضائيات والخطوط التليفونية القصيرة التي تجيب علي أسئلة المواطنين والمواطنات والدقيقة "بجنية ونص"!. ويفتح الكاتب نادر مصطفي عيسي نافذة عريضة في روايته علي فساد الإعلام والصحافة القومية علي وجه الخصوص ، تلك الصحافة التي كان يمتلكها الحاكم قبل ثورة 25 يناير ويهيمن ويسيطر علي رؤساء تحريرها باعتبارهم الخدم الخصوصيين له وعائلته وحاشيته. لم يجد عزيز سوي الحب بلسماً يطفئ نار جراحه ، أحب عبير وتلامس حزنه وحزنها ، كما اختلط يأسه بيأسها. لم تكن مشاعر الحب واضحة في بداية انجذابه إليها كانت تهويمات وفضول من جانبه تجاه تلك الفتاة الغامضة. وعندما حاول الاقتراب منها أكثر ، اكتشف أن جرحهما مشترك ، وألمهما متشابه . فقد لاقت عبير هجراً قاسياً من حبيبها الأول "ياسر" ، وبعدها كرهت كل الرجال ، وأصبح التشفي منهم يمثل لها نشوة لا يعادلها شيء في الدنيا . كذلك تعرضت عبير لامتهان من أحد أمناء الشرطة وكان من الممكن أن تلاقي ما هو أصعب وأشد لولا وجود عزيز في تلك اللحظة . فقد أنقذها من ويلات كانت تنتظرها في قسم الشرطة . التقي الاثنان إذاً علي الألم والوجع ، وتحول احساسهما المشترك إلي حب مشتعل يحاول أن يحرق في لهيبه كل الذكريات المؤلمة التي تعرض لها كل منهما ، وأن يثأر منها في نفس الوقت. حاولا ان يكون حبهما هو الخلاص من كل عذابات الدنيا ، وشرور البشر. لكن الواقع ذو القبضة الثقيلة علي رقاب البسطاء ومصائرهم أبي أن يعيش هذا الحب الذي يمثل "الخلاص الأخير" لعزيز وعبير. وكما اغتصب الضابط كرامة عزيز بثلاث صفعات سريعات، اغتصب الواقع المعبأ بالظلم والقهر أحلام عزيز وعبير وحكم عليها بالإعدام. الرواية مليئة بالإثارة ، محملة بأفكار عميقة وتناقش قضايا فلسفية وسياسية ، لكن اللغة ربما تكون هي النقيصة الواضحة في بعض الأجزاء في البناء الأدبي للرواية خاصة تلك التي يدور فيها الحوار بين الشخصيات . فنجد أن الأفكار العميقة أكبر من المفردات ، وأثقل من اللغة التي تعبر عنها ، كذلك أكثر الكاتب من الألفاظ الخارجة خلال تلك الحوارات إلا أن هذا العيب نراه يختفي عندما يبدأ حديث الراوي السارد لأحداث الرواية ، فتظهر اللغة رصينة ، سليمة ، عميقة، ودالة. إحدي سلبيات الرواية أيضاً من وجهة نظري- الإفراط في استخدام الجنس صور.. مفردات .. دلالات ، ورغم أن بعضها كان موظفاً جيداً في نسيج البناء الدرامي إلا أن البعض الآخر كان مقحماً . الرواية تنبض بنفس فلسفي مسيطر توحي بدلالات مختلفة يمكن قراءتها علي عدة مستويات ، فهي رواية القهر والبؤس ولارغبة في الانتقام " فيأد مستويات القراءة" ، وهي رواية الجحيم والرغبة في التطهر "متأثرة بالكوميديا الإلهية لدانتي ، وهي رواية الأحلام المغتصبة والآمال الموؤدة في زمن تمادي الظلم في غيه وتوحشه. أما أهم ما يميزها هو .. "متعة القراءة" التي تجعلك تلهث وراء الصفحات لتقطعها والاحداث لتكشفها ، والشخصيات تتعاطف معها حيناً وتتمرد عليها أحياناً ، لكنك في كل الأحوال تشعر أنك تعيش عالم روائي من دم ولحم ، وأنك -قطعاَ- قد التقيت ببعض أو كل شخصيات ما لم يذكره عزيز في حياتك الوقعية. وفي النهاية أقول أنه عمل جميل .. عميق .. وجدير بالقراءة والتأمل . فهي رواية تحتلك تضع في حالة ذهنية وفلسفية تثير داخلك عشرات الأسئلة ، وربما تبقي الأسئلة بلا إجابات!.