بين المصريين والشرطة علاقة مركبة من الاحتياج والخوف، عدم الثقة أحيانا والخشية، التقدير في بعض الأحيان والرعب في أحيان أخري.. علاقة لا يمكن وصفها بأنها علاقة عداء، تماما كما أنه لا يمكن وصفها بأنها علاقة حب.. في هذا التحقيق نرصد ثلاث روايات صدرت خلال العام الماضي بعد أن سقط جدار الرعب الذي أقامته الشرطة حول نفسها. وهي ترصد بعض الانتهاكات التي قام بها بعض الضباط والتي نتمني أن تنتهي في العهد الجديد وتعود الشرطة في خدمة الشعب فعلا ويصبح الاثنان يداً واحدة من أجل بلدنا. في 2011 سقط جبروت جهاز الشرطة الذي عاني منه المصريون الأمرين. كيف عبر الأدب عن هذا السقوط وكيف انتقمت أقلام الأدباء من قلة أدب بعض رجال الشرطة؟.. في هذا التقرير نسلط الضوء علي ثلاثة أعمال أدبية صدرت في العام الماضي وكشفت الكثير عن العالم الخفي لمصدر رعب وإرهاب المصريين لمدة ثلاثة عقود. ضابط برتبة عنكبوت (أفكانوا يعبدون الله ؟ نعم هم مازالوا يعرفونه لكن ضابط كان أشد خشية ورهبة بالنسبة لهم فبكل تأكيد ضابط الشرطة هو الإله الظاهر والشيء المقدس في كل محراب)، هذا هو الأساس الذي قامت عليه رواية (ضابط برتبة عنكبوت) للكاتب إيهاب عصمت والصادرة في أول يناير 2011 أي قبل الثورة مباشرة عن وكالة سفنكس للنشر، في 332 صفحة من الحجم المتوسط. الرواية تقتحم عالم ضباط الشرطة من منطلق التشفي والانتقام منهم من خلال القلم الذي اختار نماذج مشوهة من الضباط، حيث لم يترك الكاتب نقيصة إلا ولصقها بهم وكأنه بالفعل هناك ثأر شخصي بينه وبين تلك المهنة، وهو ثأر عام من المؤكد أن كثيرا من المصريين يحملونه في وجدانهم ضد ضباط الشرطة، وهو ثأر مشروع وله ما يبرره، لكن بالقطع لم يكن هذا الثأر مبررا كافيا لكي تصبح الراوية عملا فنيا مقنعا ومعبرا عن هذا الغبن الذي انتاب المصريين ضد جهاز الشرطة. فجاءت الرواية علي المستوي الاحترافي عملا ضعيفا، سيطر علي الكاتب فيه الهاجس الجنسي - بكل أشكاله - من خلال وصفي إباحي متكرر، والأهم غير موظف فنيا في أغلب النماذج البشرية الواردة بالراوية، أما علي مستوي الحبكة فنحن أمام عمل يعتمد علي الصدف في صعوده الدرامي وهي صدف ساذجة تشبه لحد كبير أفلام الأبيض والأسود. تدور الأحداث من خلال سرد حياة الأخوين حاتم وطارق الجبالي، اللذين يعمل والدهما في دولة الإمارات وترعاهما الأم - شهيرة - هما وأختهما الصغيرة دينا. هذان الأخوان يرتكبان الموبقات من أول سطر في الرواية ومنذ طفولتهما، ويصل تجبرهما لاغتصاب الطفل الذي يخدمهما - سعيد - والذي ينادونه ب«منال» وهو اغتصاب متكرر وصفه الكاتب أكثر من مرة بين صفحات الرواية، الأمر الذي يدفع سعيد للانتقام باغتصاب أختهما الصغيرة دينا وسرقتهم وهروبه للإسكندرية، حيث بالصدفة يجد عملا مع صياد يدعي عبدالحي يكتشف بعد ذلك أنه تاجر مخدرات، أما الأخوان فيدخلان كلية الشرطة ويمارسان أنواعا عديدة من الفساد يشاركهما فيهما ابن خالتهما الضابط أحمد العسقلاني - يمكن أن نذكر منها علي سبيل المثال فقط ممارسة الجنس بلا وازع ولا ضابط - تعذيب أبرياء وإهانتهم - سرقة كروت الشحن والموبايلات - العمل في حماية عاهرة وابتزاز من تسقط معه - العمل في حماية سارقي الأعضاء البشرية - القتل، وكلها وغيرها أعمال تكتظ بها الرواية في إطار الصدف الحاكمة والمتكررة لمنطق الكاتب الذي هو بث الكراهية لشياطين في شكل بشر هم ضباط الشرطة، وهي نماذج أكيد لها أساس واقعي، ولكن كتابة ذلك في عمل فني يحتاج أكثر من مجرد سرد الجرائم ووصف الممارسات الجنسية بمفرادات غليظة تهدف للإثارة ولهب خيال المراهقين، لذلك أصبحت النهايات سهلة ومتوقعة فالصدفة تقود سعيد الذي أصبح تاجر مخدرات إلي الهروب إلي الصعيد ويهرب من هجوم الشرطة علي الجبل في باخرة سياح. يتعرف فيها علي فرنسية تدعي «لي لي» يسافر معها إلي فرنسا ويتزوجها ويحصل علي الدكتوراه ويفتتح شركة كبري في مصر ويستقطب طارق ليعمل عنده ويقتل لحسابه أحد أعدائه في السوق ثم يبلغ عنه لينتهي مصير طارق -الذي أذاقه هوان الاغتصاب - بالإعدام. وحاتم يعاني الأمرين وابنه يكرر أخطاءه ويسمي خادمهم أيمن ب «بسمة»، وأحمد العسقلاني يقبض عليه وهو يبتز إحدي الشخصيات الدبلوماسية وتفضح علاقته بالعاهرة، حتي الأم تصاب بأمراض عدة ولا تتحكم في عملية الإخراج، ورغم أن سعيد اغتصب إنسانة بريئة بلا ذنب غير أنها أخت معذبيه ورغم تجارته بالمخدارات والآثار وحرض علي القتل، فإن الكاتب تعامل معها علي أنه ضحية طوال الوقت ولم يتعرض إلي نهاية سوداء كباقي أبطال الرواية، بل عاد ليعيش في فرنسا. وهكذا فهي رواية تشويه وانتقام، قامت علي نيه طيبة، ومن منطلق الثأر من أفعال بعض رجال الشرطة - وهم كثيرون - ولكن لم تمتلك أيا من مقومات الحرفية أو العمل الفني فجاءت في شكلها النهائي ملف جرائم مثيرة وفاضحة. دماء علي البنطلون الميري أما المجموعة القصصية «دماء علي البنطلون الميري» للكاتب عمرو خليل والصادرة عن دار اكتشاف في 2011 فهي كما يبدو من العنوان، فهي تدور في نفس فلك الانتقام من رجال الشرطة بالقلم ويقول عمرو في تصديره للقصص (بما أن الزرار الميري بستة أشهر سجن فلن أجد أحدا يعرني التفاتا ويكتب مقدمة لمجموعة في اسمها دماء وميري، وبما أنني أنا الذي قمت بكتابتها فكان لزاما علي أن أقدمها بنفسي، وأثق أن القارئ عندما يتصفحها لن يغمض عينيه ويتركها من يدهليس لأنه سوف يكسب ثوابا، بل لأن هذه المجموعة نسجت من الشرايين ونبض القلب وتدفقات الدم قد استخلصتها من حياتنا)، ومن بين قصص المجموعة التي تعرضت لتعامل الشرطة مع المواطنين الغلابة هناك قصص (هستناك فوق - دماء علي البنطلون الميري - سلالم مديرية الأمن) وتقدم قصة «هستناك» فوقلقطة تعبر عن واقع مر به العديد من المصريين الذين وقعوا في قبضة رجل شرطة ظالم، فكان الحل اللجوء إلي السماء تقول الأقصوصة (دون أي مقدمات هوي الضابط علي وجهه بصفعة قوية ارتج لها جسده كله أذهلته فجأتها وآلمته قوتها، بشق الأنفس تماسك .. قبل أن يعتدل كانت صفعة أخري أقوي من أختها تهوي علي وجهه جعلته يتراجع إلي الخلف بضع خطوات. صرخ متوسلا - أقسم لك إني بريء ارتسمت أمارات البرود والسخرية علي وجه الضابط وهو يقول ساخرا: - أعلم أنك بريء إلي آخر الحوار اعتصر الألم قلبه فطفح علي وجهه أماراته طأطأ رأسه كأنه ذهب في تفكير عميق رفع رأسه بعد هنيهة فبان صدره يتهدج من انفعاله وهو يقول: - لماذا إذن هذا الظلم؟! ما كاد ينطق بآخر كلمة حتي هوي الضابط بلطمة قوية علي وجهه أفقدته وعيه للحظات سمع وهو يسترد وعيه: - هو أنا ظالم يا ابن (..) اعتدل في وقفته. رفع هامته صوب بصره حدده في عين الضابط وهو يقول كلمة واحدة: - هتعرف! سارت رعدة خفيفة في أوصال الضابط ولاطمته الأفكار لكنه صرخ فيه ليداريها: - أنت بتقول إيه يا حيوان يا ابن (..) لم يرتعش ولم يحول عينيه عن عينه فازدرد الضابط ريقه وهو يلملم أنفاسه مكتفيا بالصراخ قائلا: - أنت بتهددني .. يعني إيه ياروح أمك هتستناني بره ولا إيه؟! قال في ثقة وثبات وهو ينظر للسماء: - لا هستناك فوق! وقد أهدي عمرو قصته «دماء علي البنطلون الميري» إلي الشهيد خالد سعيد أيقونة الثورة وهي مستوحاة بشكل واضح من قصته، حي يتم القبض علي البطل دون تهمة، وعندما يعترض علي ذلك يصبح اعتراضه هو التهمة لأنه قاوم السلطات ويتعرض لضربات متتالية من رجل الأمن ذي القدم الكبيرة حتي يكسر حنجرته ويغمض عينيه للأبد، ويبدو أن الكاتب يميل إلي الانتقام الغيبي من رجال الأمن، حيث أصبح كل رجل أمن يمر في المكان الذي مات فيه المواطن المسكين يتعرض للطعن في الجزء الخاص برجولته دون أن يري أحدا! أما قصة (سلالم مديرية الأمن) فقدم من خلالها مشاهد قصيرة لضحايا رجال الأمن وهي مقسمة حسب أسماء الضحايا فمثلا (عبد الحميد) أخرجوا عبد الحميد من القسم إلي المستشفي،كانت به إصابات بالغة في يديه قال طبيب أعصاب يديه تمزقت من طول تعلقه بهما ونفس الأمر مع ضحايا آخرين منهم عبدالرحمن ورمضان. وهكذا تسير المجموعة في حالة من الرصد الأقرب للواقع والتي تبعد عن عمق الأدب. الحية وأكد الكاتب الصحفي ياسر سليم مؤلف رواية «الحية» التي صدرت في أبريل 2011 عن دار «صفصافة» في إهدائه أن روايته قد ظلت حبيسة منذ شهور وأن السبب في خروجها للنور هم شباب الثورات العربية. والرواية التي تسجل بفنية عالية وبلغة شاعرية اعترافات ضابط أمن دولة. وتكشف من خلال هذه الاعترافات الكثير من دوائر الفساد في الواقع المصري، والرواية يظهر فيها بوضوح صدي لجريمة مقتل المغنية سوزان تميم. والتي يعطيها المؤلف اسم أروي وجاء علي لسان الضابط: (وهل كنت أتصور يوما أن أتحول من رجل أمن ماهر من ضابط يأتمنه البلد كله علي أمنه إلي قاتل شهير ينثر الفزع علي رؤوس الجميع هل حقا كنت أمنحهم الأمان من قبل أم أنني مازالت أزرع الرعب في الأرض لأفرق بين ما كنته من قبل وما أنا عليه اليوم) ويندم علي قتله لها في بلد آخر فيقول لو كنت قتلتك في مقر الجهاز لم يكن الأمر سيكلفنا سوي إلقائك في قبر بجوار السور (تري كم ضحية دفنت بجوار أسوار مباني أمن الدولة لا نعرف عنها شيئا). ويكشف الكاتب عن فساد نفوس أصحاب السلطة المطلقة ونهمهم للمال فيقول علي لسان الضابط: أنا الوحيد الذي توليت أكثر من ملف مهم: ديني، سياسي، شيوعي، إعلام، اقتصاد، مكافحة، تنصير.. ماذا بقي للتقدير السريع والثراء الذي يلائم قدراتي هل كانوا يظنون أن مثلي سيجلس مهترئا علي حواف مكتبه سنوات عجافا طوالا وترقيابطيئا كالشلل يقال لي في نهايتها تفضل ستخدم بلدك هذه المرة كرئيس حي أو مديرا لشركة أو محافظا لإقليم أظل محافظا علي عذريتي انتظارا ليوم الرذيلة الكبري عندما أصبح سارقا لحي أو لصا كبيرا في شركة مكافأة نهاية الخدمة التي يعطينيها من يملك من غير ملكه، مثلي كان لابد أن يمد يده الطاهرة الماهرة الماكرة إلي أفضل أراضي الدولة، أن أشارك من الباطن سمسارا حقيرا يجترئ علي لاحقافأهنته مرارا فقرر أن يصفعني بفضيحة ليتم فصلي بتشجيع ودعم من حقد قياداتي علي. ويصف ياسر سليم ضباط أمن الدولة بالثروة، حيث أنفقت عليهم الدولة بسخاء تدريبا وتسليحا من كان يتتبع بخفة ويراقب بدقة ومن كان يجمع المعلومات بطريقة لا تثير الانتباه، ومن كان يتسلل للبيوت ويزرع في كل ركن منها أجهزة تنصت ويخرج دون أن يخلف أثرا، ومن كان يزور شخصيته ويزور أوراقه ويتعامل بالشخصية التي تطلب منه دون معرفة شخصيته الأصلية حتي لو كان يتعامل مع أقرب التاس إليه بشخصيته المزيفة. لقد نجح الكاتب في تقديم عمل أدبي راقٍ متميز شرح من خلاله نفسية نموذج من رجال أمن الدولة، كاشفا طرقهم في دعم الصورة الذهنية لإرهاب الناس منهم وتجبرهم الذي جعل أحدهم يقول لمحتجز من تيار ديني (لو ربك جاء لي سأحبسه) لقد استطاعت الحية أن تقدم بعمق أدبي رائع صورة لأخطبوط أمن الدولة وذراعة التي امتدت لكل مكان في عهد مبارك!