كل الكلام هو ترف أمام مشهد الجثث والدماء والمدرعات التي تدهس بشراً. لابد من قول هذا. في طريقنا إلي ماسبيرو يوم المذبحة التقينا بشاب صغير. كان صغيرا جدا. سألناه "ماسبيرو مقفول؟"، فأجاب بالنفي وقال ضاحكا: "هما بيضربوا فينا دلوقتي ف ميدان التحرير"، أشار لي علي ست غرز في رأسه. كان هناك خيط من الدم أسفل شعره. عند مدخل ماسبيرو قابلت صديقي الذي يعمل بقناة 25، وهي القناة التي قامت بنشر فيديو دهس المتظاهرين. أخبرني عن اقتحام مكاتب القناة. تم تكسير الأجهزة وأخذ الضابط يتأمل بطاقات الهوية، وعندما وجد اسم "أنطونيوس" دار دورة كاملة في الهواء وهبط فوق المكتب وهو يصرخ "مسيحييييييييي!"، كما يحكي صديقي، والعهدة عليه. اقتحام القناة جاء تحت زعم: "سمعنا ان انتو مخبيين مسيحيين هنا". نحن في بيروت الحرب الأهلية! مدخل عمارة القناة كان ملطخاً بالدم، أشار لي صديقي علي باب صغير كانوا يخرجون الجثث منه. أرض ماسبيرو كلها عبارة عن بحيرات من الدم، ولا أحد متعاطف. الجميع يريد الفرجة لا غير. غالبية الحضور في ماسبيرو بعد المذبحة كانوا سلفيين. أخذوا ينظمون مظاهرة يسبون فيها دين المسيحيين، دين الضحايا، أسهل شيء هو لوم الضحية. وموتوسيكلات استجابت لنداء التليفزيون للمواطنين ب"حماية الجيش" أخذت تتوافد. شباب بيدهم شوم ويصرخون غاضبين: "هما فين المسيحيين دول؟" في اليوم التالي أركب أوتويس. الكآبة تسيطر علي الجميع بالطبع. إنها صبيحة المذبحة. نمر بجوار المستشفي القبطي فتصرخ امرأة عجوز: "هما عاوزين ايه. المفروض الجيش يدبحهم كلهم. دول بيخربوا مصر". لا أعير اهتماما لسنها، فجأة أنفجر فيها: "انتي تعرفي حاجة عشان تتكلمي. انا شفت كل حاجة. الناس بتموت زي الكلاب ف الشوارع". بعد انتشائها بكونها الغاضبة الوحيدة، أجدها مأخوذة بهجومي. ترتبك. تصمت. بعد قليل تتمتم: "يلعن ابو الكنيسة علي ابو الجامع اللي بيعملوا كدا". الراغبون في النوم وعدم مشاهدة الأخبار ينادون دائما بالحفاظ علي مصر: "اللي يحب مصر، مايخربش مصر". مصر التي يريدونها هي فكرة مجردة، بلا حقوق، مصر قشرة حلوة. زوجان يضحكان وقسيس يعانق شيخاً، وبائع عيش راض عن نفسه ويعد قروشه القليلة، صورة مصر التي يريدونها مأخوذة من صور إعلانات "الحزب الوطني" و"القناة الأولي" والمشاهد التليفزيونية التي تعرض في رمضان، مصر فقيرة ولكنها سعيدة بفقرها ولا تفعل شيئا لتغييره. والمفارقة أن الشرط الأول للوصول الي هذه المصر، هو التوقف عن الاحتجاج، والاستمرار في قمع الاحتجاج، الاستمرار في تعطيل أي تشريع مناسب، وقمع من يطالبون بوضعه. الشرط الوحيد للوصول إلي هذه المصر المثالية هو مصر مقموعة. سلاح بلا حدود في يد القامع، وطاعة بلا حدود في عين المقموع. طيب، لنعيد التذكير بالبديهيات، من يبرر قتل البشر لا يستحق حياته هو شخصياً.